الحدود بين الغلو والرفض ضوابط وموانع (2)

أثر التوبة في الحدود

أولًا: ضوابط سقوط الحدود

الضابط الأول: أثر التوبة في الحدود

إن للتوبة أثرها في سقوط الحد، فمن ارتكب جريمة حدية ثم تاب من هذه الجريمة فهذه التوبة تسقط الحد باتفاق في جريمة الحرابة (قطع الطريق) وتسقطها في باقي الحدود على خلاف بين العلماء.

إن أثر التوبة في الحد درءًا أو إيجابًا يكون على حالتين:

الحالة الأولى: أن تكون توبته بعد القدرة عليه، فهذه التوبة لا تسقط الحد بالاتفاق.

الحالة الثانية: أن تكون توبة مرتكب الجريمة الحدية قبل القدرة عليه، وأثر التوبة في سقوط العقوبة الحدية في هذه الحالة ينقسم إلى قسمين:

محل اتفاق ومحل اختلاف.

1- محل الاتفاق:

وهو المحارب (1): إذا تاب قبل القدرة عليه سقط عنه الحد بالاتفاق، والأصل في هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة المائدة: آية 33].

2- محل الاختلاف:

وهو: في توبة ما عدا المحارب من مرتكبي الجرائم الحدية كالزنا والسرقة ونحوهما إذا تاب قبل القدرة عليه، ففي هذا خلاف على قولين.

القول الأول: قبول التوبة قبل القدرة عليه، وهذا هو المعتمد من مذهب الشافعية (2)، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد (3).

وحجتهم في ذلك أن القرآن نص على سقوط عقوبة المحارب بالتوبة، وجريمة الحرابة هي أشد الجرائم، فإذا دفعت التوبة عن المحارب عقوبته كان من الأولى أن تدفع التوبة عقوبة ما دون الحرابة من الجرائم، وأن القرآن لما جاء بعقوبة الزنا الأولى رتب على التوبة منع العقوبة، وذلك قوله تعالى: {وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} [النساء: آية 16]، وذكر القرآن حد السارق وأتبعه بذكر التوبة في قوله تعالى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: آية 39]، وقد قال صلى الله عليه وسلم في ماعز لما أُخبر بهربه: ((هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه)) (4).

ويشترط الفقهاء لتسقط العقوبة أن تكون الجريمة مما يتعلق بحق الله، أي أن تكون من الجرائم الماسة بحقوق الجماعة كالزنا والشرب، وألا تكون مما يمس حق الأفراد كالقتل أو الضرب (5).

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: (نص الشارع، على اعتبار توبة المحارب قبل القدرة عليه، من باب التنبيه على اعتبار توبة غيره قبل القدرة عليه، بطريق الأولى، فإنه إذا دفعت عنه توبته حد حرابة مع شدة ضررها وتعديه، فلأن تدفع التوبة عنه ما دون حد الحرابة بطريق الأولى والأحرى، وقد قال الله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [سورة الأنفال: آية38]) (6).

وهذا قياس واضح الأولوية جلي الدلالة: فإنه ذكر الفرع المقيس: وهو توبة غير المحارب قبل القدرة عليه، وذكر الأصل المقيس عليه: وهو توبة المحارب قبل القدرة عليه، وذكر العلة الجامعة: وجود التوبة قبل القدرة وإزالتها للجريمة، وذكر الحكم وهو: سقوط الحد.

وبيّن أنه قياس الأولى: لأن الحرابة أشد ضررًا من سائر الحدود وقد قبلت، وقد أسقطت توبة المحارب حد الحرابة عنه، والضرر في سائر الحدود عدا الحرابة أقل منها ضررًا، والله أعلم (7).

القول الثاني: أن توبة غير المحارب قبل القدرة عليه لا تسقط الحد عنه، وبه قال: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي في أحد قوليه، وأحمد في إحدى الروايتين عنه (8).

استُدِلَّ لهذا القول بعموم آيات إقامة الحدود في القرآن نحو قوله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [سورة النور: آية2]، وقوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [سورة المائدة: 38]، وقوله تعالى {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [سورة النور:4]، فهذه الآيات عامة في التائبين وغيرهم، ولهذا فإن التوبة قبل القدرة لا تسقط الحد عن التائب.

ونوقشت هذه الأدلة بأن هذا من العموم المخصّص، وقد قام الدليل على المخصِّص من السنة بسقوط الحد عن التائب قبل القدرة عليه كحديث المرأة الغامدية وحديث ماعز.

وفي بيان هذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (فإن قيل: فماعز جاء تائبًا، والغامدية جاءت تائبة، وأقام عليهم الحد؟ قيل: لا ريب أنهما جاءا تائبين، ولا ريب أن الحد أقيم عليهما، وبهما احتج أصحاب القول الآخر، وسألت شيخنا - يقصد ابن تيمية رحمه الله - عن ذلك، فأجاب بما مضمونه بأن الحد مطهر، وأن التوبة مطهرة وهما اختارا التطهر بالحد على التطهير بالتوبة، وأبيا إلا أن يطهرا بالحد، فأجابهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وأرشد إلى اختيار التطهير بالتوبة على التطهير بالحد، فقال في حق ماعز ((هلاّ تركتموه يتوب فيتوب الله عليه)) ولو تعين الحد بعد التوبة لما جاز تركه، بل الإمام مخير بين أن يتركه كما قال لصاحب الحد الذي اعترف به: ((اذهب فقد غفر الله لك)) وبين أن يقيمه كما أقامه على ماعز والغامدية لما اختارا إقامته وأبيا إلا التطهير به، ولذلك ردهما النبي صلى الله عليه وسلم مرارًا وهما يأبيان إلا إقامته عليهما.

وهذا المسلك وسط بين مسلك من يقول: لا تجوز إقامته بعد التوبة البتة، وبين مسلك من يقول: لا أثر للتوبة في إسقاطه البتة، وإذا تأملت السنة رأيتها لا تدل إلا على هذا القول الوسط والله أعلم) (9).

من خلال هذا العرض يتبين لنا أنه من ارتكب جريمة حدية ثم تاب عنها فالتوبة تدرأ الحد، ولا يجوز للسلطة القضائية أن تحقق معه، ولا يجوز لأحد من الناس أن يبلّغ عنه، بل التستر عنه أولى من التشهير به، وورد في موطأ الإمام مالك عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ رَجُلًا اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَوْطٍ، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ، فَقَالَ: ((فَوْقَ هذَا)) فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ، فَقَالَ: ((دُونَ هذَا))، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ رُكِبَ بِهِ وَلاَنَ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجُلِدَ، ثُمَّ قَالَ: ((يا أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ اللهِ، مَنْ أَصَابَ مِنْ هذِهِ الْقَاذُورَةِ شَيْئًا، فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي لَنَا صَفْحَتَهُ، نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللهِ)) (10).

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

الحلقة الأولى هنا

=======-

(1) المحارب: لغة اسم فاعل وهو من الحرَب بفتح الراء، يقال حرب ماله: أي سلبه. والمحاربون، وقطاع الطريق اسمان في الاصطلاح الشرعي لمسمى واحد، وهم: الذين يعرضون للناس بالسلاح في الصحراء أو البنيان فيغصبون المال مجاهرة لا سرقة (كشاف القناع 6/149).

(2) روضة الطالبين 10 / 97

(3) انظر: أعلام الموقعين 2/ 79، والمغني مع الشرح الكبير 10/316. انظر: نيل الأوطار 7/ 120، الحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص: 74

(4) مصنف ابن أبي شيبة (29379).

(5) نهاية المحتاج ج8 ص6، المغني ج10 ص316، 317- التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي (1/ 355). 

(6) أعلام الموقعين 2/78

(7) الحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص: 83

(8) المغني مع الشرح الكبير 10/316- بدائع الصنائع 7/96. شرح الزرقاني 8/110

(9) أعلام الموقعين 2/79

(10) موطأ الإمام مالك رقم: 3048

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين