الحج مدرسة عظيمة

-3-

 

الحج مدرسة إيمانية عظيمة يتلقى  المسلم فيها الدروس النافعة في دينه ودنياه وينال الفوائد الجليلة والعبر والعظات المؤثرة التي تفيده في شتى مجالات الحياة وشئون الدين من ناحية العقيدة والعبادة والمعاملة والخلق والسلوك وغير ذلك ويتفاوت الناس في تحصيل هذه الدروس وحسن إكتسابها تفاوتا عظيما بين مقل ومكثر والتوفيق والسداد بيد الله عزوجل1- أول هذه الدروس التي يفيدها المسلم من حجه عندما يبدأ بالإحرام وهو يعني دخوله في نسك الحج كما يدخل في الصلاة بتكبيرة الإحرام يكون في الحج والعمرة بالنية والإهلال وإرتداء ملابس الإحرام بالنسبة للرجال والتلبية للجميع ، والإحرام بالحج يتشابه بالإحرام في الصلاة في أن كلا منهما حرم على صاحبه أشياء كانت حلالا كالطعام والشراب وكل مالا يعد من أعمال الصلاة فكذلك المحرم بالحج حرم عليه الحلق والتقصير للشعر والأظافر والطيب والصيد والنساء وسائر محظورات الإحرام. وعندما يتجرد المحرم الرجل من ملابسه العادية المحيطة والمخيطة ويلبس ملابس الإحرام فتجرده هذا رمز لتجرده من علائق الدنيا  الفانية وإرتدائه ملابس الإحرام يشبه لباسه للكفن عند موته فكأن هذه الحالة تذكره بوضعه وحاله عند موته ورحيله عن الدنيا فكما أن الميت يجرد من ملابسه المعتادة بل من الدنيا وأهله وماله ومن كل شئ فكذلك الحاج يتجرد من علائق الدنيا الزائفة ولذا فإنه ينبغي على من يشرع في المناسك أن يستشعر هذه المعاني ويتأمل فيها عندما يرتدي ملابس الإحرام فهو درس وعبرة 

2-ثاني الدروس عندما يهل بوحدانية الله عزوجل والتلبية فيعلن التوحيد وينبذ الشرك قائلا : لبيك اللهم لبيك لبيك لاشريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لاشريك لك. يقولها المسلم ويرفع بها صوته مستشعرا مادلت عليه التلبية من وجوب إفراد الله عزوجل بالعبودية والتوحيد والبعد عن الشرك فكما أنه سبحانه وتعالى منفرد بالنعمة والعطاء لاشريك له فهو منفرد بالتوحيد لاند له ولانظير فلا يدعى إلا الله ولا يتوكل إلا عليه ولايستغاث إلا به ولا يصرف أي نوع من أنواع العبادة إلا له عزوجل والتلبية يتكرر فيها لفظ لبيك أربع مرات وليس هذا التكرار عبثا إنما يعني أن المؤمن يلبي نداء ربه في كل أمر ونهي فكأنه يقول لبيك اللهم في الصلاة والصيام والحج والزكاة والجهاد وسائر أمور الإسلام فكما أن العبد مطالب بقصد الله وحده في الحج فهو مطالب بقصده وحده في كل عبادة يأتيها وكل قربة يؤديها فمن صرف شيئا من العبادة لغير الله فقد أشرك بالله العظيم وخسر الخسران المبين  وحبط عمله ولم يقبل منه صرفا ولاعدلا 

3-من الدروس أيضا أنه كلما أقترب المسلم من مكةالمكرمة شعر بمزيد الشوق وكاد قلبه يطير بين جنبيه ليصل إلى المسجد الحرام وعندما يدخل المسجد لاينسيه فرحته العارمة بالوصول  وشوقه الشديد من تحية صاحب البيت سبحانه ودعائه وطلب  الرحمة والمغفرة منه كأنه يستأذنه عند الدخول ويصلي ويسلم على نبيه صلى الله عليه وسلم الذي عرفه بربه وكان سببا في هدايته وتعريفه بمناسك الحج وعظمة البيت

وعندما يطالع الكعبة المشرفة والحجيج حولها يطوفون ويهتف قائلا:(الله أكبر اللهم زد هذا البيت تشريفا وتكريما وتعظيما ومهابة وزد من زاره ممن حجه واعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما ومهابة وبرا )ويعتريه شعور بعظمة البيت وحرمته وهيبته فإذا كانت للبيت هذه المكانة وتلك العظمة والمهابة والجمال فكيف بعظمة الخالق العظيم وهيبته عزوجل وكماله وجلاله وجماله عز شأنه وتعالى سلطانه  ويتذكر المسلم قدم بناء البيت العتيق وكيف أنه قبلة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام الذي  وضع قواعده و أعاد بنائه بمعاونة ولده إسماعيل عليه السلام 

ويتذكر كيف أن هذا البيت قبلة المسلمين جميعا في مشارق الأرض ومغاربها وأن هذه الساحة وهذا البناء الفخم العظيم وهذا البيت العتيق لايخلو من صلاة فيه وإليه وطواف حوله في أي وقت من الأوقات حتى يرث الله الأرض ومن عليها 

ويفكر الحاج كذلك أنه بالرغم من حرمة هذا البيت وعظمته ومكانته عند الله وعند الناس إلا أن حرمة المسلم عند الله عزوجل أعظم يقول النبي صلى الله عليه وسلم عند مطالعته البيت الحرام كما روى ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول  :( ما أطيبك واطيب ريحك وماأعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده  لكن المؤمن  أعظم حرمة عند الله منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيرا )

وهذا بيان واضح وبرهان ساطع على حرمة الدماء والأموال وتكريم الله عزوجل للإنسان الذي فضله ربه على كثير ممن خلق تفضيلا 

4-من الدروس التي يفيدها الحاج أيضا عندما يصل إلى البيت: عبادة الطواف عندما يقوم به ويرى الحجيج يؤدونه كذلك إمتثالا لأمر الله عزوجل الذي شرع الطواف لحكمة ولايكون في غير هذا الموطن ولايشرع في  أي مكان في الدنيا سوى هذا المكان وحول هذا البيت العظيم ومن إعتقد أن الطواف لغير الكعبة مشروع فهو شر ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير جهة الكعبة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله 

والطواف يشير كذلك إلى تعلق الحجيج  برب البيت فهم ضيوفه وزواره فإن لم يكونوا يرونه لأنه عزوجل لاتدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير فأقل ما يفعلونه أنهم يطوفون حول بيته الحرام عساه أن يتكرم عليهم برحمته ورضوانه فيرونه يوم القيامة كما  وعد سبحانه  أحبابه المؤمنين بذلك:(للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)قال المفسرون:الحسنى هي الجنة  والزيادة هي التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم 

وقال سبحانه :(وجوه يؤمئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)

5-من الدروس كذلك تقبيل الحجرالأسود وصلاة ركعتين خلف مقام إبراهيم وفعلهما سنة إن أمكن ذلك إمتثالا بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة في أمر تقبيل الحجر الذي قال فيه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه :( أعلم أنك حجر لاتنفع ولاتضر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ماقبلتك )و التقبيل للحجر هنا أمر تعبدي محض بشرط عدم الإيذاء للنفس والغير والصلاة خلف المقام إمتثالا لأمره عزوجل (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)وإلا فالصلاة في أي موضع بالمسجد الحرام تكفي وتغني 

والشرب من زمزم أيضا فيه خير وبركة ودرس وعبرة فماء زمزم لما شرب له فمن شربه بقصد العلم علمه الله ومن شربه بقصد الشفاء شفاه الله فهو طعام طعم وشفاء سقم وهذا لايتنافى مع الأخذ بالأسباب وطلب العلم والتماس الدواء 

6-السعي بين الصفا والمروة إلى جانب أنه عبادة إلا أنه يذكرنا بالسيدة هاجر زوج الخليل أم إسماعيل  عليهما السلام وكيف أنها لم تيأس ولم تستلم للموت ولكنهاتوكلت على الله عزوجل و سعت وتحركت للبحث عن الطعام والشراب لها ولولدها فلم يخيب الله عزوجل لها مسعى ولم يقطع لها رجاء وهذا  الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم في توكله على ربه مع الأخذ بالأسباب التي شرعها الله سبحانه وتعالى 

7-في الحلق أو التقصير درس يرمز إلى أن الإنسان يضحي بزينته وبكل شئ من أمور الدنيا في سبيل مرضاة ربه عزوجل8-الدرس الثامن وهو أهم الدروس في مناسك :الوقوف بعرفة وهو أعظم الأركان وفيه تذكير بيوم الحشر والنشور وخروج الخلائق من القبور للعرض والحساب أمام الملك الديان جل جلاله وعظم سلطانه حيث تجتمع الخلائق جميعا الرجال والنساء الحكام  والمحكومون الأغنياء والفقراء مع إختلاف ألوانهم وأجناسهم وثقافاتهم يجأرون إلى الله عز وجل بالذكر والدعاء والتلبية والإبتهال والتذلل والإنكسار فهو يوم رجاء وخشوع و ذل وخضوع يوم مبارك كريم لم تطلع الشمس على يوم أفضل منه إنه اليوم المشهود يوم المغفرة للمذنبين التائبين وتنزل الرحمات للمؤمنين اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتم النعمة على المسلمين وأنزل قوله عزوجل :( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )

9-وفي بعض واجبات الحج ومناسكه كالمبيت بمزدلفة ومنى ورمي الجمار إلى جانب أنها عبادات مطلوبة والقصد منها في الأساس التعبد المحض والقيام بأمر الله عزوجل والإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن قد لانعلم الهدف والحكمة منها

فرمي الجمار مثلا إلى جانب ذلك فأنت لاترمي مجرد حجر فقط  إنما ترمي حظ الشيطان من نفسك فإذا سول لك بمعصية أيا كانت إستعذت بالله ورميته وأخرجته من نفسك وقلبك

10-الدرس العاشر و الأخير عند طواف الوداع عندما يحين سفرك وعودتك إلى ديارك تودع البيت الكريم ومكة المكرمة وداعا حزينا وأنت تخشى أن لاتعود مرة أخرى  لكن الأمل يحدوك والرجاء والطمع في فضل الله لايفارقك فأنت بين رجاء وخوف وخلال ذلك تسكب العبرات 

وأنت تدعو الله عزوجل أن يتقبل منك وأن لا يجعل هذا آخر عهدك ببيته وبلده الحرام 

وللحديث بقية 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين