الحج عن الغير

 

في كل سنة يحُجُّ بعض المسلمين نيابةً عن غيرهم، ويعتقد من أَنَابُوهُم أنَّ حجَّ النائب أسقط فريضة الحجِّ عمَّن نابَ عنه، فهل تُقبل فريضة الحج أن ينوب في أدائها أحد عن أحد؟. 

وهل تسقط الفريضة عمَّن فرضت عليه بحج نائبه كما تسقط عنه بحجه بنفسه؟ 

وإذا صحَّت هذه النيابة فهل تختصُّ بحال الحياة أم تعم حال الحياة وما بعد الموت؟ 

وهل يُشترط لصحَّة النيابة في حال الحياة اضطرار المُكلَّف إليها، أو تصحُّ في حال الاضطرار وفي حال الاختيار؟

هذه هي موضوعات بحثنا في هذا المقال.

1 ـ الذي تدل عليه آيات القرآن الكريم، ويُؤخذ من الأصول التشريعيَّة العامَّة، أنَّ الحج فريضة عينيَّة شخصيَّة يجب على المُكلَّف القادر على أدائها بنفسه أن يؤديَها بنفسه، ولا يسقط عنه هذا الفرض بأداء غيره، كما لا يَسقط عنه فرضُ صلاة أو صيام بصلاة غيره أو بصيام غيره. فكما أنَّه في الصلاة والصيام لا ينوبُ أحدٌ عن أحد لا في حال الحياة ولا بعد الموت، ففي الحج لا ينوب أحد عن أحد لا في حال الحياة ولا بعد الموت، والأدلة على هذا ما يأتي:

أولاً: قوله تعالى: [أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى(36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى(37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى(38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى(39) ]. {النَّجم}. .

فهذه الآية الكريمة قرَّرت سنَّة كونيَّة عادلة شُرعت في الكتب السماويَّة السابقة وأقرَّها الكتاب الكريم وهي أن لا يحمل مُكلَّف وِزْر غيره، وليس لمُكلَّف إلا سعيُه، فليس لمن لم يُصلِّ صلاةُ غيره، وليس لمن لم يَصُمْ صومُ غيره، وليس لمن لم يحج حج غيره، فحج أيّ مكلف هو له لا لغيره، سواء حج بمال نفسه أو بمال غيره، وسواء نوى الحج لنفسه أو لغيره، وهذا مصداق قوله سبحانه: [مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا] {فصِّلت:46}.

وقد أيّد هذه الآية الكريمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جاريةٍ، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له بخير).

فالرسول صلى الله عليه وسلم قرَّر أنَّه إذا مات ابن آدم انقطع عمله، لأنه بعد موته لا سعي له، وليس للإنسان إلا سعيه، وهذا صريح في أنَّ الإنسان بعد موته لا عمل له، ولا يسقط عنه فرض من العبادات التي تقرَّرت في ذمته، وقد استثنى الرسول ثلاثة أمور، كل أمر منها أَثَرٌ خالد لصاحبه، وعمل مستمر باستمرار الانتفاع به، فالصدقة الجارية أي الدائمة التي يتصدَّق بها الإنسان في حياته كطريق يُمهِّده لوقاية المارَّة من الخطر، ومسجد يبنيه، ومستشفى ينشئها لعلاج المرضى، وكل ما يَرْصُده للخير الدائم والبرِّ المُستمرِّ هو عمل مُتَّصل بسبب اتصال الانتفاع به.

وكذلك العلم النافع الذي ينشره الإنسان للناس في حياته بمؤلفاته أو بدروسه، أو ببحوثه، هو عملٌ مُتَّصل يتجدَّد الثواب عليه بتجدُّد انتفاع الناس به، وكذلك الولد الصالح الذي ربّاه أبوه فأحسن تربيته حتى صَلُح وكان باراً يدعو لوالده بالخير، هو أثر باقٍ وعملٌ نافع مستمرٌّ.

فكل واحد من هذه الأمور الثلاثة هو فرع شجرة غرسها الميت في حياته؛ فكل ثمرة يثمرها فهي ثمرة للميت، ونتيجة غرسه؛ فكأنَّه هو الذي نفع المنتفع بهذا التراث، وبهذا الاعتبار اعتبر لم ينقطع عمله.

فمنطوق الآية الكريمة: [وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى] {النَّجم:39}. ومنطوق الحديث الصحيح: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله)، دليلان على أنَّ حج أحد لا يُكتب لأحد، وعلى أنَّ الإنسان بعد موته لا حجَّ له، ولا صلاة، ولا صوم، ولا أيَّة عبادة، وإنَّما يكون له ثواب عمل نافع غرس شجرته ومهَّد السبيل له.

وثانياً: الحكمة التي لأجلها فَرَضَ الله الصلاة والصيام والزكاة والحج وسائر التكاليف هي ابتلاء عبادة واختبارهم، ليبلوهم أيُّهم يطيع ربه ويحتمل في سبيل طاعته المشقَّة فيستحق مثوبته، وأيُّهم يعصي ربه، ولا يحتمل في سبيله مشقَّة فيستحق عقوبته، وهذه الحكمة تقتضي أن تكون هذه الفرائض فرائض شخصية، لأنَّها مقصود بها ابتلاء الشخص نفسه، وتقتضي أن لا ينوب أحدٌ في ابتلائه عن أحد، وأن لا يَحتمل مُكلَّف مشقَّة عبادة وتُكتب هذه العبادة لمن لم يحتمل مشقتها؛ ولهذا قال الكمال ابن الهُمَام في كتابه: (فتح القدير) في باب الحج عن الغير ما خُلاصته: 

(المقصود من العبادات كلها الابتلاء سواء أكانت بدنية، أم مالية، أم مُركبَّة منهما، والتكليف إلزام بما فيه كُلْفة ومشقَّة، وكل ما يتضمن المشقَّة لا يخرج المُكلَّف عن عهدته إلا بفعله بنفسه، إذ بذلك يَتَحقَّق مقصود الابتلاء والاختبار، والحج يتضمَّن المشقتين: البدنيَّة والماليَّة، ومُقتضى القياس أن لا تَجري فيه النيابة).

وقد عدَّ عُلماء الأُصول الحجَّ كالصلاة والصوم من الواجبات العينيَّة، وعرفوا الواجب العيني بأنَّه: ما طُلب على سبيل التحتيم والإلزام من كل فرد من الأفراد المُكلَّفين، ولا يَسْقط عن مُكلَّف بفعل غيره.

فمُقتضى أنَّ الحج عبادة مقصود بها ابتلاء المُكلَّف، وأنَّه واجب عيني لا يسقط عن المُكلَّف بفعل غيره، أنَّه لا تجري فيه النيابة كما لا تجري في صلاة ولا صيام، وأن المُكلَّف المُستطيع عليه أن يَحُجَّ بنفسه، وإن مات من غير أن يحج بنفسه فأَمْرُه مُفَوَّض لربه.

وإلى هذا ذَهَبَ بعضُ أئمة المسلمين. 

فذهب المالكيَّة إلى أنَّ الحجَّ عبادة مُركَّبة من جانب بدني وجانب مالي، والجانب البدني فيها غالب، لأنَّه طواف بالبيت، ووقوف بعَرَفة، وسعي بين الصفا والمروة، والعبادة الغالب فيها الجانب البدني كالعبادة البدنيَّة المَحْضَة لا تَقْبل النيابة، فمن عليه حجة الإسلام، وهي حجة الفريضة لا يجوز له أن يُنيب من يحج عنه سواء أكان صحيحاً أم مريضاً يُرجى شفاؤه، وإذا استأجر إنسان من يحجُّ عنه فسواء أكان صحيحاً أم مريضاً، وسواء أكان الحج الذي استأجر له فرضاً أم نفلاً، لا يُكتب له الحج أصلاً، بل يقع الحج نفلاً للأجير، ويكون للمستأجر ثواب مساعدة الأجير على الحج، وبركة الدعاء الذي يدعو به، وإذا أوصى إنسان قبل موته بالحج عنه وحُجَّ عنه بعد موته، أو فعل ذلك ورثته بدون وصية منه، بأن استأجروا له بعد موته من حج عنه، لا يكتب للميت حج أصلاً، لا فرض ولا نفل، ولا تسقط عنه حجة الإسلام التي لم يُؤَدِّها في حياته وهو مُستطيع؛ إنما يكون للميت ثواب معونة الأجير على الحج، كتاب: (الفقه على المذاهب الأربعة) - قسم العبادات - ص675ـ 676. 

ونقل الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: (أن الإمام إبراهيم النخعي وبعض السلف ذهبوا إلى أنَّه لا يصحُّ الحج عن حي أو ميت وإن أوصى به).

وذهب قاضيخان من فقهاء الحنفية وفريق كبير منهم إلى أنَّ الحج عبادة بدنيَّة كالصلاة والصيام، والمال ليس جزءاً من العبادة، وإنَّما هو شرط وجوبها فقط، والعبادات البدنيَّة لا تَقبل النيابة.

وقرَّر الحنفيَّة أن المتوفى إذا مات وعليه ديون لله تعالى، كالزكاة والكفارة والنذر، لا تُقضى هذه الديون من تركته، لأنَّ أداء هذه الديون التي هي حق لله عبادة، والعبادات يسقط عن المُكلَّف أداؤها بموته، ولهذا ذهبوا إلى أنَّ الديون التي تُقضى من تركة المُتوفَّى هي الديون التي هي حقوق للعباد.

2 ـ وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم رخّص في الحج عن الغير للعاجر، وللميت، واستدلوا على الترخيص بالحج عن العاجر بحديث الخثعمية الذي رواه الإمام أحمد وهو: (أنَّ امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إنَّ فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: أرأيتِ لو كان على أبيكِ دين أكنت قاضيتَه؟ قالت: نعم. قال: فدَيْن الله أحق أن يُقضَى).

ففي هذا الحديث دلالة على أنَّ الوالد إذا عجز عن أداء فريضة الحج فأدَّاها عنه ولده وقع الحجُّ عن أبيه، لأنَّ الرسول عدَّه قضاء عن أبيه، وشبَّهه بقضاء دَيْنٍ عليه من ديون العباد، وقد وردت في السنة عدَّة روايات بهذا المعنى.

واستدلوا على الترخيص بالحج عن الميت بحديث الدار قطني عن ابن عباس قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إن أبي مات وعليه حجة الإسلام أفأحج عنه؟ قال: أرأيتَ لو أن أباك ترك ديناً عليه أقضيتَه عنه؟ قال: نعم. قال: فاحجُجْ عن أبيك).

ففي هذا الحديث دلالة على أنه يجوز للابن أن يحجَّ عن أبيه حجة الفريضة بعد موته وإن لم يوصِ به ولم ينذره.

فبناء على هذه الأحاديث ذهب جمهور فقهاء المسلمين إلى جواز الحج عمن عجز عنه بموت أو هرم أو مرض مزمن لا يرجى بُرؤه.

فذهب الحنفيَّة إلى أنَّ من عجز عن الحج عجزاً يغلب استمراره إلى الموت عادة كالمريض المُزمن مرضُه، والأعمى إذا أناب عنه من حج عنه، سقط الفرض عنه بشرط أن يكون المال كله أو أكثره من ماله لا من مال من أنابه، وكذلك إذا أوصى بالحج عنه من ماله فحج عنه بعد موته تنفيذاً لوصيته سقط الفرض عنه.

وذهب الشافعية إلى أن من عجز عن الحج لعاهة أو كِبَر سنٍّ أو مرض لا يرجى بُرؤه، يجب عليه أن يُنيب عنه من يَحُج بدله، وكما تكون النيابة في حال الحياة تكون بعد الموت، فمن مات وعليه حجة الإسلام، وجب على وصيه أو ورثته أن يُنيبوا من يحج عنه من تركته. ومثل هذا ما ذهب إليه الحنابلة.

فالمذاهب الثلاثة مُتَّفقة على أنَّ العاجز الذي لا تُرجى قُدرته على الحجِّ عادة يكتب له حج من أنابه عنه. 

والشافعية والحنابلة متفقون على أن من مات وعليه فريضة الحج قد مات وعليه دين واجب القضاء فيقضى من تركته.

وسند هذه المذاهب الأحاديث التي قدمناها.

والجدير بأن يلاحظ هو أنَّ الحج إنَّما يفرض على المستطيع، وقد نصَّ الفقهاء على أن من قدر على الوصول بمشقة عظيمة لا يكون مُستطيعاً، وفي حديث الخثعمية، قالت: إنَّ أبي أدركته فريضة الحج شيخاً كبيراً، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة. فهو غير مستطيع، والحج غير مفروض عليه، ولذلك ورد في بعض الروايات: أينفعه إن حججت عنه؟ فالعاجز الذي أجاز الفقهاء النيابة عنه هو غير مُستطيع ولا فريضة عليه.

والذي يَظهر لي من استقراء ما وَرَدَ في هذا أنَّ الحج ما هو إلا عبادة بدنيَّة كالصلاة والصوم، والمال من شروطه ووسائله لا من أركانه وأجزائه، وأنَّه لا يقبل النيابة، والمقصود مما ورد في السنة أنَّ الوالد العاجز أو الميت إذا حجَّ عنه ولده انتفع بثواب عبادته وبركة دعائه لأنَّ ولده ثمرته، وهو ينتظمه قوله صلى الله عليه وسلم: (وولد صالح يدعو له بالخير). ولهذا ورد في بعض الروايات أينفعه إن حججت عنه.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر : مجلة (لواء الإسلام)، العدد الرابع، من السنة الثانية: 1367هـ=1948م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين