الحجاب بين الدين والثقافة (1)

فاجأتني تلميذةٌ قديمةٌ لي زارتنا في أوكسفورد، وقد فارقت وطنها قبل أربعة عقودٍ لتعيش أمريكا، وما تزال، حين ظهرت أمامي في زيٍّ جديدٍ "متحرّرٍ جدّاً" لم أعهدها به من قبل، ولم أتصوّرها أن تكون عليه من بَعد. وحين علّقتُ، مرغماً، على هذا التغيّر الكبير بين حياتها التي عَرَفتُها بها في الشرق، حيث درّستُها، وصُورتِها الجديدة؛ ردّت قائلةً: ها.. إنّ بيننا الآن جبالاً وودياناً من الثقافة تفصلني عنك يا أستاذ!

أيّة ثقافةٍ أرضيّةٍ تلك التي يمكن أن تفصل بين البشر؛ إذا جمعَتْهم، كما هو مفترض، ثقافةُ السماء؟

قد نتباين أنا وأنت حول نوع القبّعة أو الغطاء الذي يغطّي رأسنا، أو حول الزيّ الذي يغطّي جسدنا، أو حول هندسة البناء الذي نسكن فيه، أو حول أنماط الأثاث التي نفرش بها بيتنا، أو حول أطباق الطعام المفضّلة التي تعرفها مائدتنا، ولكن كيف لنا أن نختلف على ما قرّرته السماء، وقد وضعت له حدوداً نهائيّةً أجمعت عليها شرائعها الثلاث، فيما يمتنع أو يُسمح أن نكشفه من أجسامنا، وفيما يمتنع أو يُسمح أن نأكله، وفيما يمتنع أو يُسمح أن نشربه، وفيما يمتنع أو يُسمح أن نفعله؟

إنّها لم تكن "مجرّد اقتراحاتٍ" من السماء؛ لنا الخيار في أن نقبل منها ما نشاء ونرفض ما نشاء، ولا مجرّد "موضاتٍ" سماويّةٍ مؤقّتةٍ تتغيّر مع تغيّر المواسم والأذواق، ولا نظامَ سيرٍ متحوّلاً نَقود به سيّارتَنا في بلدٍ هنا على الشمال، وفي بلدٍ هناك على اليمين! إنّها قوانين الله العامّة الشاملة، والدائمة، وهل لمن يؤمن بالله، أقصد مَن يؤمن به وبسلطته، وبسلطة قوانينه المطلقة علينا، وبجنّته وناره، وبحسابه وبحكمته وبعدالته، حقّ الإيمان، أن يشكّ، ولو للحظة، في أنّ أيّاً من قوانين هذا الخالق العظيم لا يمكن أن تكون إلّا للحفاظ على مَن خَلَقهم، وتأمين حياتهم، وسلامتهم، واستمرارهم الأمين على هذا الكوكب؟

يقول الشاعر اليونانيّ نيكوس كزانتزاكيس في ديوانه (تقرير إلى الإغريق):

بين فينةٍ وأخرى، يَرنُّ صوتٌ حلوٌ،

في شِغافِ قلبي، قائلاً: "لا تَخشَ ولا تَخَفْ، فسأضعُ القوانين، وأُرسي النظام. أنا الله.

فكن مؤمناً". لكنّه، على التوّ، يَنبُعُ عُواءٌ

مِن صُلْبي، فينقطعُ الصوتُ الحُلوُ عن الرنين:

"كُفَّ عن تبجّحِك، فسَأُفسِدُ قوانينَك،

وأدمّرُ نظامَك، وأُزيلُك من الوجود، أنا الفوضى".[1]

 

منذ خلق الله آدم وحوّاء؛ خلق معهما مصطلحاً خاصّاً بهذا المخلوق الجديد اسمه (العَورة) أو (السَّوأة)، ووضع له قانوناً يُلزمهما بتغطية الجزء الإنسانيّ الذي أُطلِق عليه هذا المصطلح، ليكون بمثابة القانون السماويّ الأوّل من قوانين اللباس التي سيُعمل بها في الأرض:

-               فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ الشَّجَرَةِ إلّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴿٢٠ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴿٢١ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ..﴿٢٢[الأعراف: 20-22]

إنّها قصّة الخَلق التي أجمعَت عليها الشرائعُ السماويّة الثلاث، وإن كانت روايةُ العهد القديم تُسند خطيئة الأكل من الشجرة المحرّمة إلى حوّاء التي أغوت آدم ليأكل منها، على حين ساوى القرآن بينهما في تحمّل مسؤوليّة تلك الخطيئة، كما سبق أن فصّلنا. ولكنّ الروايتين تُجمِعان على أنّ أوّل ما فكّر به آدم وحوّاء، حين بدت لهما سوآتُهما بعد الأكل من الشجرة المحرّمة، هو البحث عمّا يتستّران به، بدءاً بالعورة، فلم يجدا أمامهما إلّا أوراق شجر الجنّة (شجرة التين وفقاً للعهد القديم).

لم يُوْصِهما جبريل بهذا، ولم يبعث لهما ربُّهما كتاباً يفصّل ذلك، لم يكن هناك إلّا كتاب الفطرة المزروع فيهما منذ نفخ الله الروح في آدم.

وحين أمره الله وزوجتَه حوّاء بالهبوط من جنّته إلى الأرض، كان الشيء الوحيد الذي جهّزهما به قبل رحلتهما (وفقاً للعهد القديم)، ليس الطعام، ولا الماء، ولا الدواء، ولا المسكن، ولا الأثاث، ولا الكتاب، ولا الآلة، ولا علم الفلك، أو الحساب، أو الطبّ، أو الهندسة، بل بقميصٍ مِن صُنعِه يغطّي جسد كلٍّ منهما:

19  بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ". 20  ودَعَا آدَمُ اسْمَ امْرَأَتِهِ «حَوَّاءَ» لأَنَّهَا أُمُّ كُلِّ حَيٍّ. 21  وَصَنَعَ الرَّبُّ الإِلهُ لآدَمَ وَامْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا.. [تكوين: 3: 6-21]

ويؤكّد القرآن الكريم من جديدٍ هذه الحقيقة حين يخبرنا بأمر "إنزال" اللباس من السماء على البشر ليستروا به أجسادهم وعوراتهم:

- يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّـهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف: 26]

ولكنّ "الصوت الآخر"، صوت الفوضى في رأس الإنسان، ما يفتأ يصرخ في داخله باستمرار: ماذا جرى لعقلك؟ إنّك تعيش هنا على الأرض، وليس في السماء. ألا ترى الحياة مِن حولك تعجّ بالفنون، والعلوم، والثقافات، ومظاهر الحضارة، والأضواء، والألوان، والمُتع..؟ دعْكَ الآن من قوانين السماء، والتفت إلى نفسك، اهتمّ بما تراه بعينك وتَلمسُه بيَدك، تناسَ ذلك "العالَم الآخر" البعيد، وربّما الموهوم، أين هو؟ إنّك لا تراه! لا بدّ أن تتناساه، أنت هنا على الأرض وليس في السماء، انزِل إلى الواقع، إلى الحياة، استمتع بكلّ ما تراه من حولك! لقد خُلِقتْ كلّها لك، لا تستثنِ شيئاً أبداً!

وهناك شاعرٌ أوروبّيٌ مجهول الاسم، عاش في القرن السادس عشر، يمثّل في المقطوعة التالية خير تمثيل؛ تلك الجدليّة الأزليّة التي تعشّش في الإنسان؛ وتُجسّد في داخله الصراع بين حكمة الخالق وأوامره، وغواية المخلوق وحِيَله، فيستجيب ضعافُ النفوس إلى بريق المخلوق، وتتضاءل في أرواحهم شعلةُ الخالق المتوهّجة أبداً. تقول الأبيات:

ومع ذلك، إذا كان صاحب الجلالة، مليكُنا العظيم

قد اختار بمَحضِ إرادتِه

أن يدعوَ نفسَه في مودّة

وقال "سأكونُ ضيفَكم ليلةَ الغد"،

فإنّنا كنّا حينئذٍ قد تَحَرَّكْنا، ونادَينا، ودَعَونا

كلَّ الأيدي لِتَعمَل: لا يقفْ أحدٌ خاملاً،

أحضِروا المَناضدَ الإسبانيّةَ الفاخرةَ في الصالة،

وتأكّدوا أنّها جميعاً نُضِّدَتْ ورُصَّتْ،

وأفْسِحوا مكاناً للطعامِ الكثير،

ولْيأكُلوا اللحمَ حتّى يرفضوه بأنفسِهم،

وتأكّدوا أنّ كلّ شمعدانٍ قد غدا متألِّقاً

يَشعُّ منه الضوءُ حتّى قبلَ أن توضَعَ فيه الشموع

هل تأكّدتم أنّ كلّ شيءٍ قد أُعِدّ:

الطنافسُ نُشِرَتْ؟

والمِنَصّةُ رُفِعَتْ؟ والمَساندُ فوق المقاعد؟

وكلُّ الشموعِ قد أضيئت فوق السلالم؟

عَطِّروا الحُجُرات، وعلى أيِّة حال،

لِيَبْقَ كلُّ واحدٍ من الحُضورِ في مكانِه...

هكذا كنّا سنفعلُ إذا حضرَ الملك،

وليس في هذا عيبٌ أو خطأ،

فإنّه عملٌ واجب

أنْ نُظهِر فُروضَ الولاءِ والاحترام لملِكٍ دنيويّ،

وأن نضحّيَ بجهودنا وأموالِنا

في سبيلِ رضاه، وفي سبيلِ ذلك يَهونُ كلُّ شيء،

ولكن عند مجيء ربِّ السماوات..

كلُّ شيءٍ ينتهي عند السادسةِ أو السابعة..

ونحن نتمرّغُ في ذنوبِنا.[2]

                                *             *              *

ما قيمة الثقافة، وما معيار درجتها من الموضوعيّة والمصداقيّة والواقعيّة والقبول؛ إذا لم تكن قوانينُ السماء إطاراً لها، وضابطاً لِقِيَمها وحدودها؟

هل يمكن أن أكون مسلماً، ثمّ أن آخذ، في الوقت نفسه، بثقافتي الصينيّة الأرضيّة التي تسمح لي بأكل لحم الخنزير، مثلاً؟ وهل يمكن أن أكون مسيحيّاً، ثمّ أتمسّك بثقافتي الأوروبّية أو الأمريكيّة، الأرضيّة، التي تمنعني من الزواج بامرأتين، ولكنّها تسمح لي بمائة عشيقٍ أو عشيقةٍ، أو أكثر؟

عندما تولد في بلدٍ يقع على ساحل البحر؛ فتتقن السباحة، وتمتلك لنفسك ولأسرتك قارباً صغيراً تتنزّه به في العطل ونهايات الأسبوع، وتستمتع من آنٍ لآخر بأكل أنواعٍ مختلفةٍ من السمك الطازج، وتتعرّف إلى الزوّار الأجانب الذين تحملهم البواخر الكبيرة إليك من مختلف أصقاع العالم، وتطّلِع على الكثير من ثقافاتهم، وتَفْهَمُ الكثير من آدابهم وعاداتهم، وتتعلّم بعض لغاتهم، ثمّ تُعرّفهم بمعالم مدينتك، وبعاداتك وتقاليدك، وبأصدقائك، وتدعوهم لزيارة بيتك، وتقدّمهم إلى أفراد أسرتك، وتكرّمهم بمائدتك، وتقدّم لهم الهدايا التذكاريّة، وتساعدهم في التجوّل والتسوّق وشراء الهدايا لأحبابهم، فتلك، بمُجمَلها، ثقافة.

ولكن عندما تتجاوز ذلك، فتتجاهل في إكرامهم ما هو مسموحٌ أو غير مسموحٍ في كتابك المقدّس، وربّما في كتابهم المقدّس هم أيضاً، من طعامٍ، أو شرابٍ، أو ملبَسٍ، أو مجلسٍ، أو لهوٍ، أو كلامٍ، أو تصرّفٍ، فأنت تتعدّى حدود الثقافة، وتخترق تخوم الدين وحرماته:

-                  عن أبي ثَعلَبةَ الخُشَني، عنِ النبيِّ (ص) قال: "إنَّ اللهَ فرَضَ فَرائِضَ فلا تُضيِّعوها، وحَدَّ حُدوداً فلا تَعْتَدوها، وحرَّم أشياءَ فلا تَنتهِكوها، وسكَتَ عن أشياءَ رحمةً بِكُم غيرَ نِسْيانٍ، فلا تَسأَلوا عنها". [رواه البيهقي، وحسّنه شُعيب الأرناؤوط]
-                  عَنْ سَلْمَانَ الفارسيّ قَال: "سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) عَنِ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ أي إن كانت حَلالاً -، فَقَال: الْحَلاَلُ أي ممّا يؤكَلُ أو يُلبَس أو يُعمَل - مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِه، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِه، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْه". [رواه ابن ماجه، وحسّنه الألباني]
هاتان العبارتان النبويّتان الهامّتان في الحديثين الشريفين "وسكَتَ عن أشياءَ رحمةً بِكُم غيرَ نِسْيانٍ" وكذلك "وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْه"؛ هما أوجز تعريفٍ لخزّان الثقافة الذي تركه الإسلام مفتوحاً أمام المسلمين ممّا لم ينصّ على تحريمه قرآنٌ أو سنّة.
إنّ ما "سكتت" عنه الشريعة هو الهامش "الثقافيّ" الذي تركه الدين لأتباعه ليتحرّكوا على مساحته، وليتفنّنوا، ويخترعوا، ويصنعوا، ويبدعوا، ويبنوا، ويأكلوا، ويشربوا، ويلبسوا، ويتذوّقوا، ويركبوا، ويستمتعوا، ممّا لم يصنَّف ضمن قوانين المحرّمات.
وعندما نقفز من فوق جدران هذه القوانين، ونلعب على أرض المحرّمات، فلن يكون هذا مجرّد ثقافة، وإنّما هو انقلابٌ وتمرّدٌ على قوانين السماء، واستبدالٌ لها بقوانين الأرض، مهما حاولنا أن نموّه لأنفسنا هذا التمرّد بأثواب الحرّية الفرديّة، والتطوّر، والرقيّ الحضاريّ، والفكريّ، والثقافيّ.
وكما لم يجد آدم وحوّاء صعوبةً في قراءة كتاب الفطرة، الكتاب غير المكتوب، فامتدّت أيديهما غريزيّاً إلى أوراق الشجر لتغطية عوراتهما، فإنّ الإنسان، أيّ إنسان، لن يجد، مِن بعدُ، صعوبةً في التمييز بين ما هو جائزٌ وما هو غير جائز. إنّ كتاب الفطرة المزروع في كُرَيات دمِه سيجيبه لو سأله، كما تؤكّد لنا القاعدة النبويّة المشهورة "استَفْتِ قلبَك":

-         عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ قَال: "أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (ص) فَقَال: جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ؟ قُلْت: نَعَمْ! فقَال: استَفْتِ قلبَك، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْر، وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ وَأَفْتَوْك". [رواه المنذري في الترغيب والترهيب، وحسّنه الألباني لغيره]

أن تلتقي بأصحاب الثقافات الأخرى، سواءٌ في بلادك أو في بلادهم، أو أن تعيش في ديارهم لسنةٍ أو سنتين، أو عقدٍ أو عقدين، أو ربّما أن تولد وتعيش حياتك كلّها في تلك الديار، فتتعايش معهم، وتبادلهم تقاليدهم، ما لم تتعارض مع كتابك ومع سنّة نبيّك، السنّة التي جاءت لتوحّد ثقافة أبناء الدين الواحد على اختلاف مشاربهم وبلدانهم، وتوحّد قلوبهم ومفهوماتهم للحياة، كما سبق أن فصّلنا، فإنّ هذا التعايش مع الآخر أمرٌ بدهيٌّ، بل حضاريٌّ ومطلوب، لأنّك حريصٌ، ما دمت ملتزماً بقواعدك الأساسيّة، وبقوانين السماء، وقوانين الفطرة، على ألّا تجعل نفسك في عيونهم فقاعةً تتّجه بها الريح حيثما اتّجهت، ولا جسماً غريباً متطفّلاً يريد أن يفرض عليهم عاداته وثقافته المختلفةَ عن عاداتهم وثقافتهم، أيّاً كانت.

إنّ إقامة المعادلة الصحيحة بين الثقافة والدين لن تكون عمليّةً معقّدةً لمن استوعب الفوارق والحدود الحقيقيّة بينهما. فأن تشارك الثقافات الأخرى تقاليدها، وأن تتحرّى الحلال والحرام فيها، وأن تمتلك من الثقافة الدينيّة ما يؤهّلك للتمييز بين ما هو ثقافة وما هو دين، فلا تتعملق الثقافةُ حتّى تنقلب إلى دين، ولا يُمسَخ الدين حتّى ينقلب إلى ثقافة، فإنّ هذا من شأنه أن يجعلك قادراً على التحرّك بثقةٍ وأمانٍ بين أصحاب الثقافات الأخرى، من غير أن تسبّب لهم أو لنفسك الإحراجات والمتاعب، ثمّ الصدام.

وكان الرسول (ص) حريصاً، وفي أكثر من مناسبة، على أن يوضّح لأتباعه الحدودَ الفاصلة بين الدين وبين العادة أو الثقافة. فالحرام هو ما نصّ الشرع بوضوحٍ على تحريمه، وما عداه، أيّاً كان مصدره الثقافيّ، فهو حلالٌ، ما دامت تتقبّله نفسُك، أو ذوقُك، أو كتابُك الفطريّ:

-         عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قال: "دَخَلْتُ أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (ص) بَيْتَ مَيْمُونَةَ بنتِ الحارث، وهي خالةُ النبيّ (ص) وخالةُ ابنِ عبّاس فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَشويٍّ فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (ص) بِيَدِهِ أي يريدُ أنْ يأكُل فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ (ص) بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ. فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) يَدَهُ أي تراجَعَ عن أكْلِهِ بعد أنْ عَلِمَ أنّه لحمُ ضَبّ . فَقُلْتُ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَال: لا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي أي لم نتعوّدْ أكْلَهُ حيثُ نَشَأت فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ‏‏ - أي لا أرغَبُ بأكْلِه . قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ أي قَرَّبْتُه إليّ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ (ص) يَنْظُرُ". [رواه مسلم]

لقد ظَنّ بعض نساء الشرق أنّ الحرّية والحضارة تعني أن تتجرّد المرأة من قوانين السماء، وتلتحق بقوانين الأرض، فتتحرر من ثيابها، ومن عفّتها، ومن آدابها، ومن أنوثتها، وأن تلبس لباس الرجال، وتتحدّثَ، وتصرخ، وتضحك بصوتٍ عالٍ، في المجالس وفي المقاهي وفي الطريق، وتخرج مع الرجل إلى حيث تشاء، أو حيث يشاء، وتشارك في المناسبات المُخِلّة، وفي حفلات الرقص وو.. ثمّ تسمّي كلّ هذا مجرّد "ثقافةٍ" أو "حضارةٍ" أو "رقيّ".

وإذا كانت الثقافة والحضارة في رأي تلميذتي الشرقيّة، التي وَجدتْ نفسها فجأةً تعيش في بيئةٍ غربيّةٍ وغريبةٍ عنها، هي مجرّد الخروج عن كلّ ما هو شرقيٌّ أو فطريٌّ أو سماويّ، فلنستمع إلى هذه الشهادة المُؤلمة التي قدّمتها لنا سيّدةٌ أمريكيّةٌ (في فيديو لم تصرّح فيه للأسف باسمها)، محاوِلةً أن تعبّر من خلالها عن مشاعر امرأةٍ غربيّةٍ حقيقيّة، وُلدتْ في الغرب لأبَوَين غربيّين، ينحدران من أسرتين غربيّتين، وعاشت كلّ حياتها في الغرب، وذاقت بنفسها مرارة ما يجري للمرأة من ضياعٍ تحت عنوان الحضارة والتحرّر، لتدرك تلميذتي، وقد أعْشَتْ أبصارَها أضواءُ الغرب، أنّ تلك المرأة التي اختارت أن تتّخذها مثَلاً وقدوةً، تعيش مأساةً لا يشعر بها إلّا من عانى آلامها، وافترسته أنيابُها، وتركت قيودُها الذهبيّة آثارها المؤلمة والعميقة على معصميه الداميَين.

تتحدّث السيّدة الأمريكيّة في الفيديو، وهي تدفع أمامها بعربة طفلها في شوارع إحدى المدن الكبيرة، فتقول:

"يجب أن أوضّح في البداية؛ أنّ موضوع حديثي سيكون المجتمعاتِ الغربيّة عامّةً. فأنا لا أستطيع أن أتحدّث عن نساءٍ لا أعرفهنّ شخصيّاً أو لا أعيش معهنّ. سأنطلق في حديثي ممّا يَعرضه لنا الإعلام، وهو، بالمناسبة، ليس صحيحاً دائماً. والواقع، أنّني لو حدث أن كنت رجلاً، وأعيش في مجتمعٍ غربيّ، فإنّني سأتخوّف جدّاً مِن أن أتزوّج أو أن أنجب من هذه المرأة، أو أن أقيم علاقةً مع أيّة امرأةٍ من هذا النوع (الغربيّ).

لقد رأيت فتياتٍ يذهبن إلى البارات، ثمّ يغادرنها سكارى مع رجالٍ غرباء التقين بهم للتوّ، ثمّ يذهبن معهم إلى بيوتهم، ويَنَمْن معهم بدون حذرٍ أو تردّد. وفي اليوم التالي يشعرن بالندم، وربّما اتّهمن الرجل باغتصابهنّ!

أنا لا أقبل فكرة أنّ الرجال والنساء متساوون. لا أعتقد أنّه قد تمّ تصميمنا لنكون متساوين بيولوجيّاً. أعتقد أنّنا، كنساء، يجب أن نتوقّف عن تغيير طبيعتنا، لأنّ هذا سيؤدّي إلى الخراب وإلى انقراض المجتمع.

من المُحزن أن تجد النساء لا يتقبّلن دورهنّ (الطبيعيّ) في الحياة. مَن يجرؤ أن يطلب منهنّ ألّا يفتحن أرجلهنّ للرجال الغرباء؟ مَن يجرؤ أن يطلب منهنّ أن يَطبخن وينظّفن البيت لعائلاتهنّ؟ إنّهنّ يفضّلن أن يَعشن كأيّة امرأةٍ فاسدة، ينتقلن من رجلٍ إلى آخر بدون الشعور بأيّة مسؤوليّة. وفي النهاية ستجدين أنّك حملت (منهم) بطفلٍ بريءٍ لم يسبّب لك أيّ أذىً! إذا أردتِ أيّتها المرأة أن تستمرّي في العيش هكذا؛ فاستأصلي (على الأقلّ) رحِمك، فأنا ضدّ الإجهاض. إنّ هذا (الذي تفعلينه) شيءٌ مقزّز.

لو هدَّدْتَهنّ بتقييد حرّيتهنّ؛ يُصَبْنَ بالجنون. وباختصار: إنّهنّ يُرِدنَ العيش بدون أيّة مسؤوليّة، وأن يَعشن كالعاهرات. أنا لا ألوم الرجال (اليوم) في الابتعاد عن معظم النساء. المرأة الآن نرجسيّة. هذا لا يؤثّر عليّ شخصيّاً، فأنا متزوّجة، وعندي ولد. لقد حقّقت ذلك، وأنا ممتنّةٌ لهذا.

"النسويّة" دمّرت النساء، ودمّرت (معهنّ) الرجال أيضاً".

في داخل كلّ امرأةٍ طبيعيّةٍ، وكلّ رجلٍ طبيعيّ، وكلّ حيوانٍ طبيعيّ، شعورٌ بهويّته الحقيقيّة، مهما حاول أن يتخلّى، رغبةً أو رهبةً، عن الشروط السماويّة لتلك الهويّة التي تفرضها عليه الشريحة الإلهيّة الخاصّة، والمزروعة في جسده لتحدّد له طبيعته: أنا رجل، أنا امرأة، أنا ثعلب، أنا قطّ..

ومهما اشتطّ أحدنا في البعد عن هويّته، ومهما امتدّ به الزمن في ذلك الابتعاد، ومهما تناسى تلك الهويّة، فإنّ هناك صوتاً خفيّاً واعياً يصرخ في داخله باستمرار: أنت الآن لست أنت، متى ستعود إلى نفسك، وإلى طبيعتك؟

وعندما تحاول المرأة، أيّة امرأة، أن تتخلّى عن شخصيّتها الحقيقيّة، فتَنزع عنها المظاهر الخارجيّة التي تنطق بحقيقة أنّها امرأة، فإنّها لن تستطيع، في قرارتها الداخليّة، أن تُقنع نفسها، فضلاً عن أن تُقنع الآخرين، بأنّها لم تَعُد امرأة، رغم أنّها فرّطت بأهمّ أسلحة الإقناع التي كانت تملكها وتؤكّد أنّها امرأةٌ حقيقيّة.

قد تتعدّد الأفكار، والطبائع، والثقافات، والأعراق، والمذاهب، والأديان، ولكنّ الشريحة الخاصّة التي تحدّد جنسك لا يمكن أن تتغيّر إلّا بيدِ مَن زرع هذه الشريحة في داخلك، وكلُّ ما تُدخِله عليها من تغييراتٍ وإضافاتٍ؛ لن يزيدها إلّا تشويهاً وحرماناً لك من طبيعتك الإنسانيّة، وسلامتك الصحّية والعقليّة.

قبل أيّام نشرت صحيفة "لاكروا" (la-croix) الفرنسيّة مقالاً بعنوان (شابّاتٌ مسيحيّاتٌ بالحجاب) للكاتب الفرنسي (داميان فابر)، يتحدّث فيه عن ظاهرة حجابٍ جديدةٍ بين الفتيات المسيحيّات تدعو إلى العودة للكتب المقدّسة، وإلى الأصول السماويّة للحجاب التي تتّفق عليها الشرائع السماويّة الثلاث، لأنّهن، مستنداتٍ إلى الكتاب المقدّس، يجدن فيه أنفسَهنّ من جديد، ويَعُدن إلى شخصيّتهنّ الحقيقيّة المتميّزة عن الرجل، ويشعرن بالأمان و"الحماية" عندما يرتدين الحجاب.

وقد نشرت (الجزيرة نت) على موقعها عرضاً لهذا المقال أكتفي منه بهذه المقاطع:

"يشير كاتبٌ في صحيفة "لاكروا" (la-croix) الفرنسيّة إلى أنّه في أحد مقاطع الفيديو التي راجت على شبكة "تيك توك"؛ ظهرت عبارة "يَسّر الله لنا ذلك"، وهو مصطلحٌ منتشرٌ لدى المسلمين، غير أنّه غير ملحوظٍ في المعجم المسيحيّ.

شابّاتٌ مسيحيّاتٌ يرتدين الحجاب بسبب الرغبة في إعادة تطبيق الممارسات الدينيّة الأصليّة، وفق خبيرةٍ اجتماعيّة.

ويقول الكاتب (داميان فابر) في تقريره الذي نشرته صحيفة "لاكروا"؛ إنّ علماء الاجتماع يرون أن ظاهرة ارتداء الحجاب من طرف شابّاتٍ مسيحيّاتٍ يدلّ على ضبابيّة الحدود الفاصلة بين الأديان.

ويوضّح الكاتب أنّ مقاطع الفيديو، التي تعود لفتيات أطلَقْنَ على أنفسهنّ أسماء مستعارة، حصدت ملايين المشاهدات. إذ تختبئ خلف هذه الأسماء مئات الفتيات المراهقات، أو الشابّات المسيحيّات، اللواتي يُروّجْنَ لارتداء الحجاب على موقع "التيك توك". ورغم أنّ هذه الظاهرة حديثةٌ لا يتعدّى تاريخُ أوّلِ ظهورٍ لها أربعةَ أشهر، فإنّها اكتسحت نطاقاً رقميّاً واسعاً!

ووفق الكاتب؛ فإنّ بعض الفتيات يَلْفِتنَ النظر إلى (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس) التي جاء فيها: "كلّ امرأة تصلّي، أو تقوم بالدعاء ورأسُها غير مغطّى، فتتشبّه رأسُها برأسِ (الرجل) لأنّها والمحلوقةَ شيءٌ واحدٌ بعينه".[3]

ويبيّن الكاتب أنّ فتاةً تُدعى هيلينا (22 عاماً)، كشفتْ لصحيفة "لاكروا" أنّها قبل شهرين من الزمن كانت ملحدة. وبعد مواجهتها مشاكلَ شخصيّةً، لجأت إلى التضرّع إلى الله وحضور الجلسات لاعتناق (أو العودة إلى) المسيحيّة. وفي المقابل؛ يصف مدير أبرشيّةٍ للتعليم الدينيّ حجابَها، الذي ترتديه بشكلٍ يوميٍّ، بالمحتشَم والجميل، وبأنّه "يشبه حجاب السيّدة مريم"، وفق اعتقاده.

وسوّغت هيلينا اختيارها؛ برغبتها في إعادة إحياء أصولها الإسبانيّة داخلها، عن طريق ارتداء حجاب "مانتيلا" (Mantilla)، وهو غطاء رأسٍ (مَنديل) مصنوعٌ من الحرير المخرّم الدانتيل - يُلبَس فوق الرأس والكتفين. كما ترى أنّ هذه الممارسة خطوةٌ نحو دخول مرحلةٍ جديدةٍ يسودها الإيمان، فضلاً عن أنّها حمايةٌ ذاتيّة.

أمّا ليانا (14 عاماً)، فقد سوّغت هذه الممارسةَ برغبتها "في تقليد السيدة مريم، والشعور بالقرب من الله"، وفق قولها.

وخلال مقاطع الفيديو التي تغزو شبكة "التيك توك" تتبادل هؤلاء الفتيات المراهقات النصائح، ويُثنين على حبّ المسيح (ع)، ويشرحن كيفيّة ربط الحجاب بشكلٍ مبسّط.

وترى عالمةُ الاجتماع الدينيّ (إيزابيل جونفو) أنّ هذه الممارسة ناتجةٌ عن رغبة المؤمنين الشباب في إعادة تطبيق الممارسات الدينيّة الأصليّة والتزهّد بشكلٍ ملموس.

وتضيف إيزابيل جونفو؛ أنّه، منذ قرارات المجمع الفاتيكانيّ الثاني التي صدرت بين عامَي 1962 و1965، اختفى كثيرٌ من الممارسات (الدينيّة)، على غرار الصيام (مثلاً)، إذ تفتقد الكاثوليكيّة إلى القيود، وقد عُوِّضت (هذه القيود المفقودة) في بعض الأحيان؛ بالممارسات التي تُمليها التقاليد الدينيّة الأخرى، مثلِ ارتداء الحجاب مِن قِبَل النساء المسلمات.

ويعتقد الكاتب أنّ هذا الاتجاه يعكس تأثير البروتستانتيّة الإنجيليّة. إذ تعمل منظّمة "حركة غطاء الرأس" (Head Covering Movement)  في أمريكا الشماليّة على الترويج لارتداء النساء المسيحيّات للحجاب منذ عام 2014".[4]

 



[1] الترجمة من كتاب كولن ولسن (الشعر والصوفيّة). ترجمة عمر الديراوي أبو حجلة. دار الآداب، بيروت: 1972. ص: 257-258.

[2] إليزابيت درو. الشعر، كيف نفهمه ونتذوّقه. ص: 321.

[3] يشير إلى قول بولس في رسالته إلى أهل كورنثوس: 5 وكلُّ امرأةٍ تصلّي أو تتنبّأ وهي مكشوفة الرأس تُهين رأسَها، أي زوجَها، كما لو كانت محلوقةَ الشعر. 6 وإذا كانتِ المرأةُ لا تُغطّي رأسَها، فأَولى بها أن تَقُصَّ شَعرَها، ولكنْ إذا كان من العارِ على المرأةِ أن تقصَّ شَعرَها أو تَحلُقَه، فعليها أن تُغطّيَ رأسَها. [كورنثوس 1: 11: 4-6].

[4] الجزيرة نت. 8.6.2022.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين