الحثّ على تآخي المسلمين وتناصرهم

للدكتور محمد محمّد أبوشهبة

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما،  أن‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم‏ أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان‏ في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج‏ عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات‏ يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم‏ القيامة» (رواه البخاري ومسلم في صحيحهما.صحيح البخاري ، كتاب المظالم ، باب لا يظلم المسلم المسلم ، وصحيح مسلم ، كتاب الأدب باب تحريم الظلم).
«الشرح والبيان»
«عبد الله بن عمر» هو الصحابي الجليل‏ عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي‏ المدني أحد الأئمة الأعلام، وأحد السبعة المكثرين من الرواية عن رسول الله صلى الله‏ عليه وسلم وعلى آله وصحابته، هاجر مع أبيه‏ وهو ابن عشر سنين فشبَّ وترعرع في ظلِّ‏ الإسلام.
عُرض على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر الكبرى فاستصغره، ثم بأُحد فردَّه أيضاً ثم بالخندق فأجازه ، وكان سِنه يومئذ خمس عشرة سنة كما ثبت في الصحيح، وشهد بيعة الرضوان‏ والغزوات بعدها، وقد أثنى عليه النبي عليه‏ صلوات الله وسلامه ووجَّهه إلى الازدياد من العبادة فقال: «نِعْم الرجل عبد الله‏ لو كان يصلي من الليل» فكان لا ينام بعد ذلك من الليل إلا قليلاً.
روى عن النَّبي صلى الله عليه وسلم وعن‏ كثير من الصحابة منهم الخلفاء الأربعة، وروى عنه كثير من الصحابة والتابعين، وكان من‏ المتصدِّرين للفتوى والرواية، ومن أشدِّ الناس اتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه‏ وسلم وآثاره، ينزل حيث نزل، ويصلي حيث‏ صلى، ويقف حيث وقف، وكان كأبيه‏ رضي الله عنه زاهداً في الدنيا ولم تفتنه زهرتها توفي سنة ثلاث، أو أربع؛ أو سبع وسبعين عن سبع‏ وثمانين عاماً فرضي الله عنه وأرضاه.
«المسلم أخو المسلم»المسلم هو المعتنق‏ لدين الإسلام وهو الدين العام الخالد الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم والذي‏ يعتبر خاتم الأديان وأكملها وأوفاها [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ] {آل عمران:19}.
والمراد بالأخوة: الأخوة في الإسلام، وهذه الأخوة الدينيَّة فوق الأخوة النسبيّة،  وسواء فيها الحر والعبد، والرجل والمرأة،  والصغير والكبير، والغني والفقير، والعربي‏ وغير العربي . وعلى هذه الأخوة قام الإسلام‏ ولمَّا هاجر النبي صلى الله عليه وسلم‏ إلى المدينة كان أول عمل قام به أنه آخي بين‏ المهاجرين والأنصار، وكان عملاً أوفى على الغاية في الحكمة والحنكة السياسية، فقد كان‏ لهذا العمل الفذ آثاره البعيدة في تاريخ الدعوة الإسلامية، وبهذه الأخوة كانوا يترافقون،  ويتعاونون، ويتناصرون على الأعداء، بل‏ وكانوا بها يتوارثون حتى نسخ ذلك فيما بعد لما استقر المسلمون، وعزَّ الإسلام فصار التوارث بالقرابة قال عزَّ شأنه[وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ] {الأحزاب:6} ولهذه الأخوة حقوقها المؤكَّدة وقد ذكر النبي صلى الله‏ عليه وسلم بعض هذه الحقوق بقوله :«لا يظلمه‏ ولا يسلمه».
الظلم: نقص الحقوق أربابها، ويطلق‏ على وضع الشيء في غير موضعه، فمن حق المسلم على أخيه المسلم :أن لا يتنقصه حقَّه، ولا ينتهك حرمته في دين، أو نفس أو عرض‏ أو مال . وفي حجة الوداع صدع النبي صلى الله‏ عليه وسلم بهذه الحقوق فقال: «فإن دماءكم‏ وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا،  وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب‏ بعض، ثم قال: ألا هل بلغت؟قلنا نعم،  قال: اللهم اشهد»،رواه البخاري ومسلم،  وبذلك قرَّر الإسلام حقوق الإنسان قبل أن‏ يعرف العالم الحديث ذلك ببضعة عشر قرنا.
«ولا يُسلمه»بضم الياء، يقال: أسلم‏ فلان فلانا إذا ألقاه إلى الهلكة، ولم يحمه‏ من عدوه، أي : لا يسلمه لأعدائه، أو يدعهم‏ ينكلون به، بل يجب عليه أن ينصره ولاسيما إذا استنصر به، ويدفع عنه ظلم الأعداء ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وكذلك لا يسلمه‏ فيما ينزل به من غوائل ومصائب وكرب بل‏ عليه أن يساعده ويأخذ بيده حتى ينقذه مما ألم به، وفي رواية أخرى لمسلم: «ولا يخذله» أي: لا يترك نصره ومعونته إذا احتاج إليه‏ وذلك في كل ما هو حق، وفيها أيضا «ولا يحقره» فاحتقار المسلم للمسلم حرام ويتنافى‏ مع حقوق هذه الأخوَّة، روى مسلم في صحيحه‏ بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ـ هو أن يزيد في ثمن السلعة ولا رغبة له في شرائها بل ليغرَّ غيره ويخدعه ـ ، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض،  وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم‏ لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ههنا -ويشير إلى صدره ثلاثاً- بحسب أمري‏ء من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله» وإنما اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على هذه‏ الحقوق لأنها الأهم، فهي رمز إلى وحدة المسلمين وتعاونهم في السرّاء والضرّاء، وبها تكون العزة، والغلبة على الأعداء«[ وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ] {المنافقون:8}.
 
«ومن كان في حاجة أخيه كان الله في‏ حاجته»:
هذا حق آخر من حقوق الأخوة الدينية،  فمن سعى في قضاء حاجة أخيه في الله ‏ قضى الله سبحانه له حاجته وهو في معنى قوله‏ في حديث لمسلم :«والله في عون العبد ما كان‏ العبد في عون أخيه»، وهو مظهر من مظاهر التعاون على الخير، وهذه عدة من رسول الله‏ صادقة لا مَحَالة، ومن أصدق قيلاً من الله‏ ورسوله؟ «ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه‏ كربة من كربات يوم القيامة»:
الكُربة بضم الكاف: الغُمَّة، والكرب‏ الغم الذي يأخذ بالنفس-كما في القاموس- وكُرُبات بضم الكاف والراء جمع كُربة ويجوز فتح الراء، وسكونها والكربة تجمع على كرب أيضا وبها جاءت رواية الإمام مسلم، والكرب يجمع على كروب.
وهذا حقٌّ آخر من حقوق الأخوة، وهو مظهر من مظاهر التعاون في الضرَّاء والتكافل‏ بين المسلمين؛ وسواء أكان تفريجه الكربة بماله، أو مساعدته، أو جاهه، أو أزالها بإشارته ورأيه أو نحو ذلك كإبلاغها لمن يقدر على تفريجها ، وكان رسول الله صلى الله‏ عليه وسلم يقول لأصحابه: «أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، فإن من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبَّت الله قدمية على الصراط يوم القيامة»ـ أخرجه البيهقي والطبراني والترمذي في الشمائل النبوية ـ .
«ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة»:
وفي حديث أبي هريرة عند الترمذي:  «ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة» وهو أعمّ من الأوَّل وأشمل ، وهذا حق آخر من حقوق الأخوة ،وهو الستر على أخيه المسلم،  وهو أمر مندوب إليه إلا أن الحديث ليس على إطلاقه وظاهره، فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس معروفا بالأذى‏ والإفساد، وإنَّما صدر ذلك منه على سبيل‏ الهفوة والزلة. أما المعروف بالإفساد والأذى، والذي مَرن على المعاصي والفسق‏ والفجور، والاستهتار بالقيم الدينية والخلقية فالمستحب أن لا يستر عليه بل ترفع قضيته‏ إلى وليِّ الأمر ليقيم عليه العقوبة؛ لأنَّ الستر على مثل هذا يجرِّئه على الاسترسال في الإيذاء والإفساد، وانتهاك الحرمات، ويجعل غيره‏ يتجاسر على مثل فعله.
وهذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت.  أما معصية رآه عليها، وهو بعد متلبّس بها،  فتجب المبادرة إلى إنكارها عليه، ومنعه‏ منها إن قدر على ذلك امتثالاً لقول الرسول‏ الكريم صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم‏ منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» ـ رواه مسلم في صحيحه.
وقد جاءت الأجزية في الثلاثة من جنس العمل، وليس في الحديث‏ مخالفة لقوله تعالي: [مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ] {الأنعام:160} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة»رواه الشيخان‏ لأن التفاوت حاصل بالكيفيَّة، وشتّان‏ ما بين كربة الدنيا وكربة الآخرة، وما بين‏ ستر العبد على أخيه وستر الله عليه.
وقد تكفل هذا الحديث الشريف بالإفصاح‏ عن بعض الحقوق التي تقتضيها الأخوَّة في الله‏ وفي الدين، وتكفَّلت الأحاديث الأخرى‏ ببيان غيرها، فمن ذلك ما ورد في الحديث الصحيح‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«حق‏ المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس» رواه البخاري ومسلم.
  وروى مسلم في صحيحه بسنده أن النبي صلوات‏ الله وسلامه عليه قال: «حق المسلم على المسلم‏ ست. . »فذكر هذه الخمسة وزاد :«وإذا استنصحك فانصح له»إلى غير ذلك من الحقوق‏
(وبعد): فيا أيها المسلمون في مشارق‏ الأرض هذا هو نبيكم صلوات الله وسلامه‏ عليه يدعوكم إلى هديٍّ من هديه، ويذكِّركم‏ بالأخوّة الإسلامية التي تُميَّزتم بها عن غيركم‏ من أهل الملل والشعوب، أخوّة لا تنحاز في‏ زمان ولا مكان، وإنما هي أخوّة عامّة شاملة وصدق الله حيث يقول: [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] {الحجرات:10} أخوة جمعت بيننا في الآلام، والآمال‏ والمشاعر والأهداف. 
 وفي الحديث الصحيح  قال النبي صلى الله عليه وسلم :«ترى المؤمنين‏ في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم كمَثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»رواه البخاري ومسلم.
ألا ما أشدَّ حاجتَنا في هذا العصر الذي‏ تكالبت علينا فيه عوامل الشر والفساد،  والهدم والتَّخريب، إلى أن نكون يداً واحدة وعلى قلب رجل واحد، وأن نتناصر ونتعاون على الأعداء من إسرائيل ومن‏ وراءها، حتى نجليهم عن أرض الإسلام ، ونعيد الأرض المغتصبة إلى أبنائها الشرعيين الذين شرِّدوا في الصحاري والقفار،  بينما الصهاينة يتمتعون بخيرات الأرض الطيبة المباركة أرض فلسطين الشهيدة.
يا أيها المسلمون: إنَّ بيت المقدس ثاني‏ مسجد وضع في الأرض، وثالث المساجد المشرفة التي تشدُّ إليها الرحال، وأولى القبلتين،  ومهاجر الأنبياء، ومَسْرى خاتم المرسلين‏ يستصرخ بكم، ويستغيث، فهلموا إليه خفاقاً وثقالاً، وشيباً حتى تستخلصوه من‏ قبضة السفَّاحين الأفَّاكين، وما ذلك على عزيمتكم بعزيز.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر : الأزهر سنة 39 ذو القعدة 1387هـ ، جزء التاسع.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين