الحث على النفقة في وجوه البر والتحذير من الإمساك

 

أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالإنفاق في وجوه البر المختلفة، طاعةً لله تعالى، وعوناً للفقير والمسكين، وتوثيقاً للروابط والصلات بين أفراد المجتمع، حتى يعمّ الرخاء ويسود الود بين الناس فيعيشون متحابين لا يحسد بعضهم بعضاً،  ولا يحقد أحدٌ على أحد.

وبيَّن القرآن الكريم أن المال مال الله، وأن الإنسان مستخلف فيه، فأمرهم أن ينفقوا مما هم مستخلفين فيه، فقال تعالى: [ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيه] {الحديد:7}.  والله سبحانه يثيب المنفق ثواباً عظيماً، ويضاعف أجره إلى سبعمائة إلى أكثر من ذلك: [مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] {البقرة:261}.

وضرب الله تعالى مثلاً آخر لثواب المنفق في سبيله بجنة بربوة تثمر في كل حين وانتاجها مضاعف على مختلف الأحوال إذا أصابها مطر غزير أثمرت ثمراً مضاعفاً وإذا أصابها مطر قليل أثمرت كذلك. فكذلك انفاق المؤمن في سبيل الله صدقته رابحة بإذن الله في كل حال من الأحوال قليلة كانت أو كثيرة.

قال تعالى:[وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ] {البقرة:265}.

فلا يحسب أحدٌ أن الانفاق مطالب به الأغنياء دون الفقراء، ولكنه ميدان يتنافس فيه من يطلب مرضاة الله تعالى ويرجو ثوابه، فقد روى مالك 5/487 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا نساء المؤمنات لا تحقرن إحداكن أن تهدي لجارتها ولو كراع شاة محرقاً).

وروى البخاري 1/308 عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على كل مسلم صدقة، قالوا: يا نبي الله فمن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف قالوا: فإن لم يجد ؟ قال: فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة).

وروى مالك في الموطأ 5/487 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من تصدق بصدقة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا طيباً فإنه إنما يضعها في كف الرحمن يربيها كما يربي أحدكم فلّوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل).

والتسويف في الإنفاق أمر مذموم حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم لأن الإنسان لا يأمن الموت ولا يأمن العوائق.

روى مسلم 7/123 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: يا رسول الله أيّ الصدقة أعظم؟ فقال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان). انظر شرح النووي 7/123، والفتح 1/258.

والنبي صلى الله عليه وسلم هو القدوة في المسارعة بالانفاق وعدم التسويف روى البخاري 1/299 عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم العصرَ فأسرع ثم دخل البيت فلم يلبث أن خرج، فقلنا، أو قيل له، فقال: (كنت خلَّفت في البيت تبراً من الصدقة فكرهت أن أبيته فقسمته).

سبل الانفاق:

وجوه البر كثيرة: منها الإنفاق على ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، والسائلين، وفي الرقاب، و الغارمين،  وفي سبيل الله، وابن السبيل.

قال تعالى:[لَيْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَالمَلَائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ] {البقرة:177}. وانظر تفسير  ابن كثير 1/298.

قدر الإنفاق:

القدر المطلوب من الإنفاق بعد الزكاة الواجبة التي بيَّن الشرع نصابها هو ما فضل عن الحاجة من طيب المال من غير تبذير ولا تقتير.

قال تعالى:[يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ] {البقرة:219}. فالمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة، هذا أولى ما قيل في تأويل الآية ـ القرطبي 1/869.

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج العفو من المال ولم يشق على المسلمين.

التحذير من الإمساك:

قال تعالى:[وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] {البقرة:195}.:[ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ]. يعني لا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا. وقال المبرد: بأيديكم أي: بأنفسكم فعبر بالبعض عن الكل كقوله: بما كسبت أيديكم. القرطبي 1/736.

وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الإمساك وبيَّن أن فيهي ضيق العيش والفقر وغضب الرب روى أبو داود 2/133 عن عبد الله بن عمرو قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا).

وروى البخاري في صحيحه 3/36 قال صلى الله عليه وسلم: (ما  من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).

وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السخي قريب من الله، قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار، ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل).

والبخيل متلف لا محالة، بزوال ماله أو نفسه قال تعالى:[وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] {آل عمران:180}.

قصة أصحاب الجنة:

ومما قصَّ القرآن من عاقبة البخل أصحاب الجنة وهم إخوة ورثوا بستاناً عن والدهم واتفقوا أن لا يعطوا منه مسكيناً فدمره الله وهم نائمون.

الإنفاق من الطيب:

قال تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] {البقرة:268}.

الطيب هو: أن يكون حلالاً في كسبه، جيداً في نوعه، والخبيث: هو ما كان رديئاً في أصله حراماً في كسبه.

وتغمضوا: تتساهوا، واصل الغموض الخفاء، والمقصود من الإغماض في الآية: التساهل، أو امضاء البيع وغيره من العقود مع الحط من قدره لمعرفة العيب فيه.

أمر الله عزَّ وجل عباده المؤمنين بإنفاق الطيبات والتقرب إليه تعالى بأفضل ما يملكون لأن الله هو الغني الحميد، والمال مال الله ونعمه جعله مستخلف عليها، فينبغي أن يؤدي شكرها، وينفق الطيب منها ولا ينفق الخبيث الرديء.

ولو أعطي الإنسان المال الخبيث أيرضى أن يأخذه؟ لا يرضى إلا بالاغماض والتساهل وإمضاء الأمر مع معرفة عيبه، فكيف يرضى لغيره ما لا يرضى لنفسه؟

وبيَّن الله تعالى أن الشيطان هو الذي يحرض على الشح ويأمر بانفاق الخبيث: الشيطان يخوفكم الفقر، فيثير في نفوسكم الحرص والشحَّ والتكالب، والشيطان يأمركم بالفحشاء، وخوف الفقر كان يدعو القوم في جاهليتهم إلى وأد البنات وهو فاحشة، والحرص على جمع الثروة كان يؤدي ببعضهم إلى أكل الربا وهو فاحشة... وحين يعدكم الشيطان الفقر ويأمركم بالفحشاء، يعدكم الله المغفرة والعطاء، [وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا] {البقرة:268}. في ظلال القرآن 1/312.

ولا يقبل الله إلا طيباً:

روى مسلم 7/100 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: [يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ] {المؤمنون:51}.وقال:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ] {البقرة:172}. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب،ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك...

وروى مسلم 7/99 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربوا في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوّه أو فصيله).

التوسط في النفقة:

أرشد القرآن إلى طريقة الانفاق وهي التوسط فلا يقتِّر ولا يبذّر، ولا يبخل فيمسك، ولا ينفق كل ما عنده فيفقر ويضيع ماله.

قال تعالى: [وَآَتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا] {الإسراء:26-27}.

 [وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا] {الإسراء:30}.

وقد أمر الله تعالى بالتمتع بالطيبات من غير إسراف فقال: [يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ] {الأعراف:31}.

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمتع بالطيبات من غير إسراف، روى ابن ماجه في كتاب اللباس 2/1192 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلوا واشربوا وتصدقوا وألبسوا ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة)

وروى النسائي 8/173 عن الأحوص عن أبيه قال: دخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني سيء الهيئة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك من شيء؟ قال: نعم من كلِّ مالٍ قد آتاني الله، فقال: (إذا كان لك مال فليرَّ عليك).

[وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا] {الفرقان:67}. أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم بل عدلاً خياراً وخير الأمور أوسطها لا هذا ولا هذا )

التحذير من المنّ والرياء:

قال تعالى: [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ] {البقرة:263}.

المن: هو إظهار الاصطناع إليهم، والأذى شكايته منهم بسبب ما  أعطاهم.

(المن: عنصر كريه ليئم، وشعور خسيس فالنفس البشرية لا تمُّ بما أعطت إلا رغبة في الاستعلاء الكاذب، أو رغبة في إذلال الآخذ، أو رغبة في لفت أنظار الناس، فالتوجه إذن للناس لا لله بالعطاء... وكلها مشاعر لا تجيش في قلب طيب، ولا تخطر كذلك في قلب مؤمن فالمنّ من ثم يحيل الصدقة أذىً للواهب وللآخذ سواء. أذى للواهب بما يثير في نفسه من كبر وخيلاء ورغبة في رؤية أخيه ذليلاً له كسيراً لديه، وبما يملأ قلبه بالنفاق والرياء والبعد عن الله، وأذى للآخذ بما يثير في نفسه من انكسار وانهزام ومن ردَّ فعل بالحقد والانتقام.

وما أراد الإسلام بالانفاق مجرد سد الخلة، وملء البطن، كلا! وإنما أراده تهذيباً وتذكية وتطهيراً لنفس المعطي واستجاشة لمشاعره الإنسانية وارتباطه بأخيه الفقير، وتذكيراً له بنعمة الله عليه، وعهده عليه أن يأكل منها في غير سرف ولا مخيلة، وأن ينفق منها في سبيل الله في غير منع ولا منّ.

كما أراده ترضية وتندية لنفس الآخذ وتوثيقاً لصلته بأخيه في الله، وفي الإنسانية، وسداً لخلة الجماعة كلها لتقوم على أساس من التكافل والتعاون. والمنّ يذهب بهذا كله، ويحيل الانفاق أذى يثير السخائم والأحقاد. )ـ في ظلال القرآن 1/307.

وأما صاحب الكلمة الطيبة والقول المعروف، إذا أعطى جمع من المحسنين الكلمة الطيبة، والصدقة الخالصة من المن والأذى، وإذا لم يعط كان له أجر التصدق بالكلمة الطيبة، بل هو خير عند الله من المنفق المنّان.

قال تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ] {البقرة:263}. قال الطبري 5/520: (قول جميل ودعاء الرجل لأخيه المسلم، ومغفرة يعني وستر منه عليه لما علم من خلته وسوء حالته خير عند الله من صدقة يتصدقها عليه يتبعها أذى، يعني يشتكيه عليها ويؤذيه بسببها)

بطلان صدقة المنان والمرائي:

ضرب الله تعالى مثلاً لمن أبطل صدقته بالمنِّ والأذى، وبالنفاق والرياء، ولم يرد وجه الله تعالى، ضرب لهم مثلاً بالحجر الذي عليه تراب فلما أصابه المطر أزال ما عليه من التراب وتركه أملس لا شيء عليه.

قال تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ] {البقرة:264}.

والصفوان: هو الحجارة الملساء، والوابل: هو المطر الشديد، والصلد: هو الحجر الأملس.

قال الطبري 5/522: (لا تبطلوا أجور صدقاتكم بالمنِّ والأذى، كما أبطل كفر الذي ينفق ماله رئاء الناس، وهو مراآته إياهم بعمله، و ذلك أن ينفق ماله فيما يرى الناس في الظاهر أنه يريد الله تعالى فيحمدونه عليه، وهو غير مريد به الله، ولا طالب منه الثواب وإنما ينفقه كذلك ظاهراً ليحمده الناس عليه فيقولوا: هو سخي كريم، وهو رجل صالح، فيحسنوا عليه به الثناء، و هم لا يعلمون ما هو مستبطن من النية في إنفاقه ما أنفق، فلا يدرون ما هو عليه من التكذيب، بالله تعالى واليوم الآخر).

وقال الشوكاني 1/285: (مثَّل الله سبحانه هذا المنفق بصفوان عليه تراب يظنه الظان أرضاً منبتة طيبة، فإذا أصابه وابلٌ من المطر أذهب عنه التراب وبقي صلداً، أي نقياً من التراب الذي كان عليه، فكذلك هذا المرائي فإنَّ نفقته لا تنفعه كما لا ينفع المطر الواقع على الصفوان الذي عليه  تراب.

وضرب القرآن مثلاً آخر لبطلان صدقة المنان والمرائي برجل له ذرية ضعفاء وقد أصابه الكبر وهو في حاجة إلى ما يعول به ذريته، ولا يملك سوى حديقة فهو في أشدِّ الحرص عليها فأتتها نار أحرقتها فتلك حال المرائي والمنان، قال تعالى:[أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ] {البقرة:266}.

وقد نهى صلى الله عليه وسلم من المن والرياء وبيَّن أن ذلك مغضب لله تعالى مبطل للعمل روى مسلم 2/114 عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذي لا يعطي شيئاً إلا منة، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره).

وروى الترمذي في سننه 8/142 عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة خبٌّ ولا منان، ولا بخيل). والخب: هو الرجل الخداع.

الإنفاق الواجب:

أ ـ انفاق الإنسان على نفسه ومن يعولهم.

ب ـ الزكاة ومصارفها.

ج ـ الكفارات والنذورات المالية.

د ـ إنفاق المال في جهاد أعداء الإسلام.

النفقة على النفس:

أولى الناس انتفاعاً بالمال هو صاحب المال، فإذا أدى صاحب المال حقوق نفسه من ملبس ومأكل ومسكن ومركب... انتقل إلى الانفاق على الذي تلزمه نفقتهم من زوجة وأولاد ووالدين عند حاجتهما.

روى مسلم في كتاب الزكاة 7/83 عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا، يقول فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك).

وإنما كان الأمر بالصدقة على النفس أولاً، لأن النفس إذا لم تقض وطرها لا ترضى أن تهب شيئاً للغير، وإذا أمرت أن تعطي قبل أن تقضي حاجتها أنفق الإنسان وهو كاره ساخط.

روى أحمد في المسند 13/7413 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 0تصدقوا قال رجل، عندي دينار، قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي دينار آخر، قال: تصدق به على زوجتك، قال: عندي دينار آخر، قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي دينار آخر، تصدق به على خادمك، قال: عندي دينار آخر، قال: أنت أبصر به).

ولا تعارض بين هذا الإنفاق وبين الإيثار، لأن الإيثار لمن قوي إيمانه، وعظم صبره، ووقي شح نفسه.

النفقة على الزوجة:

والإنفاق على الزوجة يبدأ من الصداق، وهو أول حق للمرأة على زوجها، أمر الرجاء بأدائه، وحذر من أكله إلا عن طيب نفس من المرأة. قال تعالى:[وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا] {النساء:4}.

والنحلة: بكسر النون وضمها، لغتان، وأصلها من العطاء، نحلت فلاناً شيئاً أعطيته فالصداق عطية من الله تعالى للمرأة، انظر القرطبي 5/24.

ونفقة الرجال على النساء جاءت نتيجة التكوين البشري لكل منهما، وما جعل الله تبارك وتعالى القوامة للرجل على المرأة إلا أنه صاحب النفقة قال تعالى:[الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ] {النساء:34}. وإذا شح الرجل في النفقة على المرأة وأولادها جاز لها أن تأخذ من مال الزوج ما يكفيها هي وأولادها من غير علم الزوج، قال البخاري في كتاب النفقات ص507 باب: إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها. وروى بسنده عن عائشة رضي الله عنها أن هنداً بنت عتبة قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف.

والمرأة الصالحة هي التي ترضى بحالة الزوج في العسر واليسر، ولا تسأل زوجها نفقة ما ليس عنده.

قال تعالى:[يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآَخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا] {الأحزاب:29}. فاخترن الله ورسوله رضي الله عنهن، فجمع الله لهن بين خير الدنيا والآخرة.

النفقة على الأولاد والوالدين:

يجب على الرجل أن ينفق على أولاده الصغار من الكسب الحلال حتى يبلغ الذكر وتتزوج الأنثى، روى مسلم في صحيحه 7/81 عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله...).

وروى مسلم 16/180 عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه).

والانفاق على الوالدين واجب إذا كانوا فقراء محتاجين.

قال تعالى:[يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ] {البقرة:215}.

والإنسان إذا أنفق على أهله ووالديه فهو متصدق.

روى البخاري 9/497 قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة).

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين