الحب في الله والبغض في الله

الحب في الله والبغض في الله

أساليب تربوية ومفاهيم دعوية من حياة الشيخ أحمد عز الدين البيانوني

د. عبد المجيد أسعد البيانوني

 

الحبّ في الله، والبغض في الله، والتواضعُ لعبادِ الله، والتعاون معهم على البرّ والتقوى، وحسن الظَنّ بهم، والتماس العذرِ لهم فيما نخالفهم فيه، أو أخطأوا فيه: من أكرم صفات المؤمن الذي زكت نفسه، وحَسُنت سيرَته، وطابت سريرته، وخلاف ذلك من الأمراض النفسيّة التي يجب على المؤمن أن يجاهد نفسه للتخلّص منها، فضلاً عن الدعاة إلى الله تعالى، الذين نذروا أنفسهم لإصلاح الناس وهدايتهم، فما أقبح أن تكون العلل فيهم، وهم يدّعون الغيرة على دين الله، والنصرةَ لدعوة الله..

إنّ العمل الإسلاميّ عبء كبير، ومسئوليّة عظيمة، يفرح المؤمن الحقّ عندما يرى مِن حوله كثرةً من العاملين المتعاونين على حمل هذا العبء، وتحمّل مسئوليّاته، ومن ثمّ فهو لا يقبل التنافس والتحاسد، فذلك شأن أهْل الدنيا، الذين يؤثرونها، ويتنافسون على جمع حطامها، والتنافس والتحاسد بين المشايخ والدعاة إلى الله، من دلائل ضعف الإخلاص لله تعالى، وعدم الوَعي بحقيقةِ العمل الذي يقوموْن به.. كما أنّ العمل الإسلاميّ كالمشفى المفتوح لكافّة الناس، فهو لا يقبل التعصّب والتحزّب لفئة دون أخرى، فذلك من دلائل ضعف الإخلاص لله تعالى أيضاً..

والدعاة إلى الله تعالى، والعاملون للإسلام على اختلاف مناهجهم وأساليبهم بشر، يجتهدون في الدعوة، فيخطئون ويصيبون، وليس من العدل والإنصاف أن يمنحوا حقّ الاجتهاد، ولا يعذرون إن أخطأوا.. وخطأ المجتهد منهم لا يمنعنا أن نقتدي به في صوابه، ونستفيدَ ممّا وفّق إليه من علمه وعمله..

هذه المعاني وبما يقارب هذه الكلمات كثيراً ما كانت تدور على لسان الشيخ وحديثه في مجالسه العامّة والخاصّة، يقول ذلك دون أن يسمّي أحداً، وهو يعلم ويسمع عمّا يجري في حياة المشايخ وعلاقاتهم، وواقع العمل الإسلاميّ من مواقف، لا ينبغي أن تقعَ بين العاملين للإسلام، المخلصين لله بحال من الأحوال..

وكان يشبّه العمل الإسلاميّ بالصخرة العَظيمة، التي لا يستطيع أحد من الناس أن يحملها بنفسه، ولابدّ فيها من تعاون جمع من الناس على حملها، فكلّما كثر المتعاونون خفّ الحمل، وسهل الأمر، وتكامل العمل الإسلاميّ، وسُدّت ثغراته، ونما نموّاً طبيعيّاً، ومن يدّعي القدرة بنفسه فرداً كانَ أو جماعة على حمل هذه الصخرة فهو مخدوع جاهل..

وهذه المعاني الواضحة قد يسلّم بها كثير من الدعاة والعاملين للإسلام، ولكنّك ترى الواقع بخلاف ذلك، فالميزان إذن هو التعامل بها والاحتكام إليها.. ومن ثمّ فقد كان الشيخ رحمه الله يحرص على غرسها في نفوس أبنائه وإخوانه، والتعامل بها مع الناس بوعي وبصيرة، لتكون سلوكاً عمليّاً، لا حديثاً نظريّاً فحسب..

فكان من المنَاهج الفكريّة والتربويّة التي يقَرّرها عليْنَا، ويطالبنا بدراستها بعض الكتب الفكريّة والدعويّة لأعلام الدعوة المعاصرين، الذين عُرفوا بإخلاصهم لدين الله، والغيرة على دعوة الله، ولكنّ ذلك لم يمنعه أن ينتقد بعض أفكارهم فيها، ولا يقرّها، أو ينبّهَ على كتب أخرى لهم لم يوفّقوا فيهَا للصواب، فيعذرهم، وينبّه على ما فيها من الأخطاء، مع التقدير والاحترام لجهدهم واجتهادهم، إلاّ إذا كان فيها شذوذ عن إجماع الأمّة، أو خروج على رأي جمهورها وسوادها الأعظم..

لقد كان يعلم ألاّ عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلّ يؤخذ من قوله ويردّ، إلاّ المعصوم بعصمة الله تعالى، من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلاّ وحي يوحى، صلوات الله وسلامه عليه، ومنهج التناصح بين المؤمنين كفيل بسدّ الخلل، وتدارك التفريط، وكان يستشهد بقول الشاعر:

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلّها.؟!

** كفى المرء نبلاً أن تعدّ معايبه

وكان الشيخ يتعاون مع عدد من طلبة العلم الموثوقين في علمهم ودينهم، لتقرير مناهج العلوم الشرعيّة على بعض إخوانه، فغرس في نفوس إخوانه حبّ العلماء وتقديرهم بصورة عمليّة، كما حقّق التواصل بين إخوانه وبين العلماء والدعاة إلى الله تعالى..

وفي مقابل هذا الموقف من العلماء العاملين، والدعاة المخلصين كان الشيخ يبغض أولئك الذين اتّخذوا العلم والدين مطيّة لعرض الدنيا، واقتناص حطامها، وباعوا دينهم بدنيا غيرهم، من علماء السوء، السائرين في ركاب الباطل، اللاهثين وراء حطام الدنيا، لا يلوون في سبيلها على شيء، ولا يبالون لأجلها بغضب الله وسخطه، وكان لا يرى أن يعامل هؤلاء بشيء من المداراة أو المصانعة، وهم وإن كانوا موجودين في كلّ عصر، وقد حذّر منهم علماء السلف، ولكنّهم في هذا الزمن قد عمّ شرّهم، واشتدّ ضررهم ومكرهم، وهم أخطر على دين الله ودعوته من بعض شرار أعدائه، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.

وبعد ؛ فإنّ العمل التربويّ الدعويّ الذي أقامه الشيخ رحمه الله في المسجد لم يرد له أن يكون معزولاً عن المجتمع التربويّ والدعويّ العامّ المحيط به، أو أن يكون منغلقاً على نفسه، متقوقعاً على ذاته، وإنّما كان يعدّه نموذجاً للعمل المسجديّ، الذي يجدّد في الأمّة رسالة الإسلام ودعوته، وكان يتمنّى لو قام في كلّ مسجد وفي كلّ مدينة عمل تربويّ ودعويّ على غراره، برعاية طالب علم وتوجيهه، وإشرافه ومتابعته.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين