الجوجري أرعبني والله

 
 
 
عبد السلام البسيوني
 
ارتعبت والله لما قرأت خبر وفاته في المصريون، ثم كدت (أعملها على نفسي) لما قرأت التعليقات: كان الخبر كلمات قليلة وواضحة وموجعة: (توفي الكاتب الصحفي المصري.... رئيس تحرير.... أثناء دفاعه عن نظام بشار الأسد في برنامج نقاط ساخنة على الهواء مباشرة على قناة.... وأفادت مصادر إعلامية بأن الجوجري أصيب بجلطة دماغية أثناء تعصبه من طروحات ضيف آخر كان من المعارضة السورية، وتم نقله للمستشفى إلا أنه فارق الحياة).
 
    لم يفجعني الخبر بقدر ما فجعتني التعليقات المرعبة التي كتبها القراء القساة: إلى جهنم/ في داهية/ يحشر معه إن شاء الله/ المرء مع من أحب/....
 
     وارتعبت: ما هذه الخاتمة؟ يدعو الناس على ميت بهذه الطريقة، والناس شهود الله في الأرض!؟ وهل يمكن أن يختم لي – والعياذ بالله – بمثل هذه الخاتمة؟ وهل نتألى على الله تعالى ألا يغفر للجوجري أو لأي أحد لم يعلن كفره؟ هل من حق الناس هذا!؟
 
ياااااه.. يا وجع القلب!
 
    لقد هزتني التعليقات لدرجة الارتعاب والإحساس بالشفقة على هذا الرجل رحمه الله، وتجسدت أمامي قيمة الآدمي الذي يُختم له بسوء، على حلمه وصبره وإمهاله سبحانه!
 
    ويرن بأذني قوله صلى الله عليه وسلم في تهيئة الرحمن الرحيم عبده قبل موته لعمل صالح يلقى ربه الكريم عليه، فهو احتفال واحتفاء وإكرام، وقد قال سيدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا عسله)، فقيل: يا رسول الله: وما عسله؟! قال: (فتح له عملاً صالحا بين يدي موته، حتى يرضي عنه من حوله).
 
        ياااااه! يهيئ الله من الأسباب ما يجعل الناس يرضون عنه، ليَطِيب ذكرُه وينتشر فضلُه، وليثني عليه من يعرفه ومن لا يعرفه، وليجعل الناس شفعاء له يوم القيامة، وشهودًا له في الأرض.
 
كثير من الصالحين خُتم لهم بسيناريوهات لافتة للأنظار، جعلتهم حديث الناس، وأجرت على الألسنة الدعاء لهم، وفي القلوب الوجع والترحم عليهم:
 
        يموت أحدهم في الجهاد في سبيل الله، أو تحت عجلات سيارة.
يموت ساجدًا أو في ليلة القدر.
يموت مبطونًا أو برشح الجبين.
يموت وهو يقرأ في المصحف، أو في معمعة مناظرة ينصر بها الحق، ويغضب لله الحق.. فطوبى لهم وحسن مآب.
        سبحان الله العظيم: عمر الفاروق، والحيي ذو النورين، وعلي أسد الله الغالب، يموتون ميتات كل منها مَثلٌ في الشناعة والقسوة، الأول يقتله مجوسي بخنجر مسموم وهو في صلاة الفجر، يضبط صفوف المصلين في المسجد النبوي، والثاني يقتله السبئيون المتآمرون المارقون، وهو يقرأ في المصحف، والثالث يغتاله أغبياء التدين من الخوارج، وأسد الله حمزة عم المصطفى صلى الله عليه وسلم يُمثَّلُ به ويُبْقَر بطنه، والراشد ابن عبد العزيز يموت في ريعان شبابه مسمومًا على أيدي الطامعين في الخلافة.. و.. و..
 
        امضِ معي في سيرة الصالحين، تجد نماذج فواحة لأناس لقوا الله تعالى وقد أكرمهم بعلامة أو أكثر من علامات حسن الخاتمة.
 
·        الفقيه الشافعي أبو الفتح نصر المقدسي يسمعه تلميذه المصيصي قبل موته بلحظات وهو يقول: يا سيدي أمهلوني، أنا مأمور وأنتم مأمورون، ثم يؤذن المؤذن لصلاة العصر، فيجلسه نصر المصيصي، ويوجهه ناحية القبلة، فيحرم بالصلاة.. الله أكبر.. ويضع يده اليمنى على اليسرى، ثم يتوفى من ساعته!
 
·       الوزير نظام الملك الذي بهر العقول جودًا وكرما وعدلاً وإحياء لمعالم الدين وإكراما للعلماء والصالحين، يختم الله له بالقتل ليلة جمعة، وهو ماضٍ في طريقه للحج، في شهر رمضان فيموت صائمًا، ناويًا للشعيرة، إذ أتاه باطني في هيئة درويش يتظاهر بأنه صاحب حاجة، ويمثل أنه يناوله ورقة، فلما همَّ بأخذها انقض عليه الخبيث فضربه بالسكين في فؤاده.
 
        ولم يزل التوفيق حليفه حتى آخر لحظة، إذ قال لمن حوله: لا تقتلوا قاتلي، قد عفوت، لا إله إلا الله، ثم تخرج روحه إلى رحمة الله تعالى، مخلفًا طيب الذكر وحسن الثناء.
 
·       والإمام العماد المقدسي الجماعيلي، يصلي المغرب بالجامع، ثم يعود ليفطر - بعد صيام - ثم يستقبل القبلة وهو يقول: يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، وينطق بالشهادتين، ثم يلقى الله تعالى مختوما له بالخير.
 
·       والإمام المحدث ابن بقي، يصلي الجمعة منتصف رمضان المبارك، ثم يدخل داره فتفيض روحه.
 
·       والمظفر سيف الدين قطز، يرفع الله به وبغيرته الإسلامية كابوس التتر عن صدر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويطهر منهم بلاد الشام، ويأبى الله إلا أن يموت غدرًا على أيدي الطامعين في كرسيه، وهو الذي لم يمت بأيدي التتر، فلم تفته الشهادة - فيما أرجو - في الطريق بعد أن فاتته في أرض المعركة.
 
 
 
وفي زمننا سمعنا بصالحين وصالحات اختارهم الله تعالى بعد أن (عسلهم) وهيأ لهم ما يذكر الناس بهم، ويسيل الألسنة بالترحم عليهم:
 
يموت جلال كشك وهو يناظر أحد العلمانيين العتاة وفاجأته الأزمة القلبية على الهواء مباشرة وهو يتحدث في ال BBC ، وكذا محمد الغزالي حين اصابته أزمة..
 
وعبد الحميد كشك - رحمه الله تعالى - يموت ساجدًا.. و..
 
إبراهيم عزت يموت صائمًا في طريقه للعمرة.. وصفوت نور الدين يصلي في الحرم ثم يعود للفندق، ويتجه للقبلة، ويضع جنبه، ويتشهد ويموت!
 
يا له من ختام.. ويا له من (عسل)!!
 
وأين من هذا التوفيق والعسل الميتات الفاضحة ؛ نعوذ بالله منها:
 
 ميتة من كرع من الخمر شرب البعير الهيمان حتى فاضت روحه، أو من تعاطى جرعة زائدة من المخدر حتى لم يحتمل جسمه، أو من سقط من كثرة الإجهاد بالرقص والعنف، أو من اجتالته الشياطين التي يعبدها فدفعته لأن يقتل نفسه، أو عباد الطواغيت الكثيرة التي تبرمج عابديها بالعصبية والخشونة، والجرأة على الدماء، واستسهال قتل البشر، فيموتون ملعونين بغيضين، إذ استراحت منهم البلاد والعباد، أو من مات مشيعًا بلعنات الناس وسخطهم ودعواتهم عليه بالنار وبئس القرار!.
 
اللهم اختم لنا بالخير، واسترنا بسترك الجميل، وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين.. يا رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين