الجوائح في الإسلام عام الرمادة

(ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) صدق الله العظيم.

لقد شدتني المآسي التي تعم بلاد المسلمين من مجاعات وأعاصير وفيضانات وزلازل، ناهيك عن الاقتتال والحروب التي حصدت وتحصد مئات الألوف، وقد نتج عن تلك الحروب والجوائح مئات الألوف من هياكل إنسانية ضعافاً وهزالاً، لم تعد تنفع معهم الأدوية ولا الأغذية، ليعيشوا أشباحاً متأرجحين بين الموت والحياة.. هائمين متسكعين في البلاد يعيشون على فتات موائد الغرب والمنظمات الإنسانية. 

هذه المآسي دفعتني إلى تقليب صفحات تاريخنا الإسلامي الذي نتغنى بصحافه المجيدة التي خدّرتنا عشرات السنين، دون التوقف عند بعض مآسيه لتكون لنا عبرة نتعظ بها ودرساً نستفيد منه، فوجدت فيه، ويا لهول ما وجدت!!

عام الرمادة

(18ه/640م)

أصاب الناس في ذلك العام مجاعة شديدة، عقب جدب وقحط. فقد كانت الريح تسفي تراباً كالرمادة فسمي (عام الرمادة)، واشتد الجوع بالناس، حتى كانت الوحوش تأوي إلى الأنس، وكان الرجل يذبح الشاة فتعافها نفسه من ريحها وقبحها.

واشتد الحال بالناس مما أصابهم من قحط وغلاء ومجاعة تصديقاً لنبوءة (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه، بعد أن اقترف بعض المسلمين ما اقترفوه من شرب الخمر. فقد ورد كتاب أبي عبيدة بن الجراح على عمر يذكر فيه: (إن نفراً من المسلمين أصابوا الشراب - الخمر - منهم: ضرار بن الأزور، وأبو جندل. فتأولوا وقالوا: خُيرنا فاخترنا، قال: فهل أنتم منتهون ولم يعزم؟ علينا). فكتب عمر: (إنما معناه فانتهوا). وقال لأبي عبيدة: (ادعهم على رؤوس الناس وسلهم: أحلال الخمر أم حرام؟ فإن قالوا: حرام فاجلدهم ثمانين ثمانين، وإن قالوا: حلال فاضرب أعناقهم). فسألهم فقالوا: بل حرام. فجلدهم.

وندم الفاعلون ولزموا بيوتهم من حيائهم. فكتب أبو عبيدة إلى عمر بذلك فأرسل إليهم بالنصيحة والتذكرة. ومما جاء في كتاب عمر إلى أبي جندل قوله: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فتب وارفع رأسك وأبرز ولا تقنط فإن الله عز وجل يقول: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم).

وتنبأ عمر - عندما أتته أخبار ما فعله بعض المسلمين بالشام من شربهم للخمر - فقال: (ليحدثن فيكم يا أهل الشام حدث) وكان القحط والمجاعة بداية البلاء على المسلمين.

ويشارك خليفة المسلمين وإمامهم وقدوتهم عمر الفاروق الناس جوعهم وآلامهم، ويقسم أن لا يذوق سمناً ولا لبناً ولا لحماً حتى يحيا الناس. وتقدم إلى سوق المدينة عكة سمن، ووطب من لبن، فاشتراها غلام لعمر بأربعين درهماً ثم أتى بها إلى عمر قائلاً: يا أمير المؤمنين قد أبرَّ الله يمينك وعظم أجرك قدم السوق وطب من لبن وعكة سمن ابتعتهما بأربعين درهماً. فقال عمر: (أغليت بهما فتصدق بهما فإني أكره أن آكل إسرافاً، وقال: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يصبني ما أصابهم؟). 

وكتب عمر إلى أمراء الأمصار يستغيثهم لأهل المدينة، ومن حولها، ويستمدهم. فكان أول من قدم عليه أبو عبيدة بن الجراح بأربعة آلاف راحلة من طعام فولاّه قسمتها فيمن حول المدينة فقسمها. فلما فرغ ورجع إلى عمر أمر له بأربعة آلاف درهم. فقال: لا حاجة لي فيها يا أمير المؤمنين إنما أردت الله وما قبله فلا تدخل علي الدنيا. قال عمر: (خذها فلا بأس بذلك إن لم تطلبه). فأبى أبو عبيدة وكرر عمر ذلك مراراً فقبل أبو عبيدة، وانصرف إلى الشام.

وتتابعت قوافل الإغاثة على المدينة حتى استغنى أهل الحجاز. وخرج عمر وبصحبته العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمون يجأرون إلى الله، وعمر يقول: 

(اللهم عجزت عنّا أنصارنا، وعجز عنا حولنا وقوتنا، وعجزت عنا أنفسنا ولا حول ولا قوة إلا بك. اللهم فاسقنا وأحي العباد والبلاد). 

وأخذ عمر بيد العباس بن عبد المطلب، ودموع العباس تتحادر على لحيته، فقال: (اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك صلى الله عليه وسلم، وبقية آبائه وأكبر رجاله فإنك تقول وقولك الحق: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة) فحفظتهما بصلاح آبائهما فاحفظ اللهم نبيك صلى الله عليه وسلم في عمه فقد دلونا به إليك مستشفعين مستغفرين). ثم أقبل على الناس فقال: (استغفروا ربكم إنه كان غفاراً)

وكان العباس قد طال عمره، وعيناه تذرفان ولحيته تجول على صدره، وهو يقول: (اللهم أنت الراعي فلا تهمل الضالة، ولا تدع الكسير بدار مضيعة فقد صرخ الصغير، ورق الكبير، وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى. اللهم فأغنهم بغناك قبل أن يقنطوا فيهلكوا فإنه لا ييأس إلا القوم الكافرون). وأغاث الله المسلمين وأنزل عليهم الماء سقياً لهم ولدوابهم وزروعهم.

وعندما أمطر الناس قال الفضل بن العباس بن عتبة متفاخراً:

بعمي سقى الله الحجاز وأهلـه … عشية يستسقي بشيبته عمـر

توجه بالعباس في الجدب راغباً … إليه فما أن رام حتى أتي المطر

ومنا رسول الله فينا تراثــه … فهل فوق هذا للمفاخر مفتخر

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين