الجهود السَّابقة بين التثمين والاستخفاف!

من الأمورِ التي لا تعجبني ولا تروقُ لي، تحويل ساحة البحث العلمي، والتثاقف المعرفي إلى ساحاتِ حرب، وترصد، وصراع، واستخفاف بأعمالِ الآخر، وبخسها، ونسفها بكلمةٍ واحدة تذهب بكلِّ جهدٍ قامَ به الكاتب!

ثمة ملمح نغفلُ عنه كثيرًا، عندما نرومُ التقويم، لأعمالٍ سابقة في ذاتِ الحقل الذي نشتغلُ به، ننسىٰ فكرة "التراكم المعرفي" الكبير، والنضج البحثي، وتعاقب السِّنين الطويلة.. ثم نأتي إلى دراسةٍ بعينها، بيننا وبينها أزمان متطاولة.. فنحاكمها إلى واقعِ اليوم، وقدراته المدهشة التي يسَّرت لنا كل الصعاب.. فنحكم عليها بأوصافٍ لا علاقةَ للأدبِ بها.

إنَّ "الدراسة السَّابقة" التي ننظرُ إليها اليوم باستخفاف.. تذكَّر أنها كانت ذات قيمة مهمة يومَ مولدها، قبل الشَّاملة، وظهور شيخ المعارف "جوجل"، واحتفىٰ بها أهل العلم.. وأشادوا بها.. ونقضها اليوم، إن كانت تستحقُّ النقض، أمرٌ مطلوب، بل، هو واجب المشتغل بالبحثِ والتَّحقيق.. لكن، لا يعني ذلك نسف جهود الآخرين ووصفها وصاحبها بطريقةٍ تفتقرُ للأدب!

يجب أن نتذكر دومًا أنَّ الأخطاء التي وقع فيها غيرنا، واتضحت اليوم بفعلِ عوامل عديدة؛ هي نقطة الانطلاق للباحثِ الجديد، لإظهار الخطأ، والبناء عليه بطريقةٍ صحيحة، تتجاوز مثالب الأعمال السَّابقة، ومن هنا يتضح أنَّ الدراسة السابقة وإن كانت في نظرنا خاطئة، وقامت على أسس معوجة؛ إلا أنها أسهمت بطريقة أو بأخرى لفتح آفاقٍ جديدة لباحثين جدد!

كثيرًا ما أستشهد في هذا الصَّدد ببعضِ الأعمال التي كانت قيمة وذات وزن عندما ظهرت إلى النور، ومع تسارعِ الحياة العلمية، وانفتاح الأفكار، وتلاقيها، وتلاقحها؛ باتت في حكم القديم الذي لا ينبغي الاستشهاد به، ولا التعويل عليه كثيرًا!

من هذه الأعمال على سبيل المثال: "الموسوعة المسيرة في الأديانِ والمذاهب"، كتبتُ حولها تعليقًا منذ فترة، مفاده: أنه لا ينبغي على الباحثِ الاكتفاء بها، وتناولِ ما وردَ فيها بوثوقيةٍ عالية. ففي الوقت الذي صدرتْ فيه، كانت جيدة في بابها، ربما لقلةِ المصادر في ذلكَ الوقت، أما اليوم وقد اتسعت دائرة تلقي المعلومة، وتطور المصطلحات والمفاهيم، وسهولة الوصول إلى المراجعِ الأصيلة للفرقةِ أو الدِّين أو الجماعة التي عليها مدارُ البحث، فليس من اللائق جعلها مرجعًا أساسيًّا. إلا إذا تعذَّر على الباحثِ أن يقفَ على مرجعٍ آخر!

وكذا كتاب "العلمانية" للعلامة الحوالي، فكَّ الله أسره.. عندما خرج إلى الساحة العلمية، كان يدلُّ على عقليةٍ عظيمة، وهمة شريفة، ودأبٍ كبير، وجهد شاق.. ومع تطور العلوم وتراكمها لا سيما في موضوع "العلمانية"، وما كُتبَ فيها حديثًا.. يجعل الباحث يتجاوز ما كتب عنها في تلكَ الحقبة، لكن لا يعني ذلك غمط الآخرين والانتقاص منهم ومما كتبوه قبل عقودٍ من الزمن!

في ندوةٍ تابعة "للمهجر الكندي"، تحدثَ فيها الأستاذ مهنا الحبيل عن قصور الاستشراق بين وائل حلاق وإدوارد سعيد، وكان مما قرره في اللقاء؛ أنَّ دراسة حلاق ربما أكثر تماسكًا وتمكنًا من دراسةِ سعيد.

وأتذكر أنني علقتُ في مداخلة على هذه الجزئية؛ بأنَّ إدوارد سعيد له شرفُ السبق، وخلق الفكرة، وابتكارها، ويومها - أي يوم صدرت الدراسة - كانت فائقة الأهمية؛ وحظيت بمكانةٍ كبرى لدىٰ القراء في الشرق والغرب.. وتجاوز حلاق - إن كان ذلك صحيحًا - يأتي بفعلِ التراكم المعرفي، والبناء، والاستفادة من طرح إدوارد وتجاوزه إلى آفاقٍ وأفكارٍ أخرى..!

في المحصلة النهائية؛ العلم تراكمي، يستفيد أحدهم من الآخر في علاقةٍ تكاملية، تسهمُ في البناء، وتساعد على تطور العلوم، والفنون، والمعارف، ولو ضربتُ أمثلة في هذا السِّياق لطال الأمر.. لأنَّ هذا هو الفعل الطبيعي على مستوىٰ الأفراد والأمم!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين