الجهاد من أركان الإيمان



ياسر محمد حجازي
قال الله تعالى:
- } إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
     الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
     ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا
     وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
     أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15){سورة الحجرات
 
تبدأ الآية الكريمة بإسلوب الحصر (إنما) الذي يدل على أن المذكورات بعده من أركان وشروط الإيمان الكامل :
أولها : الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم
وثانيها : طمأنينة القلب إلى العقيدة بالله تعالى ورسولهصلى الله عليه وسلم بكل أبعادها.
وثالثها : الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله تعالى
فالمسلم الذي تحققت فيه هذه الصفات جميعاً من صادقي الإسلام والإيمان بشهادة من الملك الديان سبحانه
فالجهاد بالمال والنفس في سبيل الله تعالى صفة أساسية من صفات الذين يؤمنون بهذا الدين بصدق ويقين
فقوله تعالى" { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} الكُمَّل {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} لم يشكوا ولا تزلزلوا ، بل ثبتوا على حال واحدة ، وهي التصديق المحض، {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } بذلوا مهجهم ونفائس أموالهم في طاعة الله ورضوانه {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } في قولهم إذا قالوا : إنهم مؤمنون، لا كبعض الأعراب الذين ليس معهم من الدين إلا الكلمة الظاهرة"
روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء:
الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا, وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله جل جلاله.
والذي يأمنه النّاس على أموالهم وأنفسهم.
ثم الذي إذا أشرف على طمع تركه لله عز وجل)
فليس المؤمنون إلا أولئك الذين آمنوا ولم يخالط إيمانهم ارتياب أو تشكك لأن "(إنّما) للحصر و(إنّ) التي هي جزء منها مفيدةٌ أيضاً للتعليل وقائمةٌ مقام فاء التفريع ، أي إنما لم تكونوا مؤمنين لأنّ الإيمان ينافيه الارتياب.
والقصر إضافي ، أي المؤمنون الذين هذه صفاتهم - الإيمان وعدم الشك والجهاد بالمال والنفس - غير هؤلاء الأعراب , فأفاد أن هؤلاء الأعراب انتفى عنهم الإيمان لأنهم انتفى عنهم مجموع هذه الصفات.... والمقصود من إدماج ذكر الجهاد التنويه بفضـل المؤمنين المجاهدين وتحريـض الذين دخلوا في الإيمان على الاستعداد إلى الجهاد
و(ثم) من قوله: { ثم لم يرتابوا } للتراخي الرتبي كشأنها في عطف الجمل ففي (ثم) إشارة إلى أن انتفاء الارتياب في إيمانهم أهم رتبة من الإيمان, إذ به قوام الإيمان"[iii]
فالله تعالى ذكره يقول لمن يدّعي الإيمان ولم يُقدم دليلاً على دعواه "إنما المؤمنون أيها القوم الذين صدّقوا الله ورسوله ، ثم لم يشكوا في وحدانية الله، ولا في نبوّة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وألزموا أنفسهم طاعة الله وطاعة رسوله، والعمل بما وجب عليه من فرائض الله بغير شكّ منهم في وجوب ذلك عليهم (وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يقول: جاهدوا المشركين بإنفاق أموالهم، وبذل مُهجِهم في جهادهم ، على ما أمرهم الله به من جهادهم ، وذلك سبيله لتكون كلمة الله العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.
وقوله ( أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) يقول: هؤلاء الذين يفعلون ذلك هم الصادقون في قولهم: إنا مؤمنون ، لا من دخل في الملة خوف السيف ليحقن دمه وماله"[iv].
فالإيمان الذي حصر الله تعالى الصدق في أصحابه "كان قد فُقِدَ من أكثر أهل الكتاب كما هو حال مجموع المسلمين في هذا العصر ، فإن الذي تصدق عليه هذه الأوصاف - الإيمان وعدم الشك والجهاد بالمال والنفس - صار نادراً جداً ولذلك حُرِمَ المسلمون ما وعد الله المؤمنين من العزة والنصر، والاستخلاف في الأرض ، ولن يعود لهم شيء من ذلك حتى يعودوا إلى التخلق بما ميز الله به المؤمنين من النعوت والأوصاف يستلزم العمل به... فما بال مدعي الإيمان بالكتاب قد أعرضوا عن امتثال أمره ونهيه حتى صروا يعدون حفظه وقراءته من موانع الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، فكان من قوانينهم أن حافظ القرآن لا يطالب بتعلم فنون الحرب والجهاد; لأنّه حافظ! وصار حملة الكتاب لا يطالبون ببذل شيء من مالهم في سبيل الله تعالى، حتى إذا ما طولب أحدهم ببذل شيء لإعانة المنكوبين أو لبناء مسجد ونحو ذلك اعتذر بأنه من العلماء أو الحفاظ لكتاب الله تعالى!!
بخل القراء والمتفقهة بفضل الله تعالى فجازاهم الله تعالى على بخلهم ، ووفاهم ما يستحقون على سوء ظنهم بربهم ، حتى صاروا في الغالب أذل الناس; لأنهم عالة على جميع الناس"[v]
فالذي يريده الله تعالى من المسلمين تصديقاً وإيماناً " لا يَرِدُ عليه شك ولا ارتياب, التصديق المطمئن الثابت المستيقن الذي لا يتزعزع ولا يضطرب، ولا تهجس فيه الهواجس، ولا يتلجلج فيه القلب والشعور , والذي ينبثق منه الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله , فالقلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان واطمأن إليه وثبت عليه ، لا بد مندفع لتحقيق حقيقته في خارج القلب , في واقع الحياة في دنيا الناس , يريد أن يوحد بين ما يستشعره في باطنه من حقيقة الإيمان، وما يحيط به في ظاهره من مجريات الأمور وواقع الحياة , ولا يطيق الصبر على المفارقة بين الصورة الإيمانية التي في حسه ، والصورة الواقعية من حوله , لأنّ هذه المفارقة تؤذيه وتصدمه في كل لحظة , ومن هنا هذا الانطلاق إلى الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس , فهو انطلاق ذاتي مننفس المؤمن , يريد به أن يحقق الصورة الوضيئة التي في قلبه ، ليراها ممثلة في واقع الحياة والناس ...
{ أولئك هم الصادقون } ...... الصادقون في عقيدتهم . الصـادقون حين
يقولون : إنهم مؤمنون ...
ونقف قليلاً أمام هذا الاحتراس المعترض في الآية : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله - ثم لم يرتابوا - } . . إنه ليس مجرد عبارة إنّما هو لمس لتجربة شعورية واقعية , وعلاج لحالة تقوم في النفس حتى بعد إيمانها .. وهي قد يعتور النفس المؤمنة تحت تأثير التجارب القاسية، والابتلاءات الشديدة من ارتياب ومن اضطراب"
فالإيمان الصادق يتأكد ويظهر و"يتمثل في الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله تعالى , والكفاح لرفع راية الحق , والنضال لمنع الظلم والفساد في الأرض, وكثيرًا ما يقترن الإيمان بالجهاد على أنه روحه ومظهره العملي"
ويرى حجة الإسلام ومفخرة المسلمين الإمام الغزالي - رحمه الله - أنّ الله تعالى جمع في هذه الآية حسن الخلق كله فقد "دّل الإيمان بالله ورسوله مع نفي الارتياب على العلم اليقين والحكمة الحقيقة التي لا يتصور حصولها إلا بإصلاح قوة الفكر ، ودلّ بالمجاهدة بالأموال على العفّة والجود ، اللذين هما تابعان بالضرورة لإصلاح الشهوة ، ودلّ بالمجاهدة بأنفسهم على الشجاعة والحلم ، اللذين هما تابعان بالضرورة لإصلاح الحمية وإسلالها للدين والعقل حتى تنبعث مهما انبعثت ، وتسكن مهما سكن"
نسأل الله أن يخرج الدنيا من قلوبنا ويضعها في أيدينا لنقول بالمال هكذا وهكذا في سبيل الله تعالى , لندخل في جملة المؤمنين الذين مدحهم الله تعالى في كتابه الكريم ونوه فيه بكريم شمائلهم وجميل صفاتهم.

 


[i]- تفسير ابن كثير 7 /390
[ii] - مسند أحمد - ط الرسالة 17/ 102 رقم11050 وفي كنز العمال في 1/165 أخرجه أحمد والحكيم , وحسن , وفي مجمع الزوائد 1/231: رواه أحمد وفيه دراج وثقه ابن معين وضعفه آخرون.
[iii] - التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور 26 / 267
[iv] - تفسير الطبري 22/ 318
[v] - تفسير المنار 2 / 92
[vi] - في ظلال القرآن 7/ 5
[vii] - العقائد الإسلامية (ص81 ) سيد سابق رحمه الله تعالى.
[viii] - ميزان العمل - ص 18- حجة الإسلام الغزالي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين