الجهاد طريق النجاة

 


ياسر محمد حجازي

- } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13){ سورة الصف

قال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم جميعاً:

"لو علمنا أي الأعمال أحبّ إلى الله لعملنا به أبداً , فدلهم الله تعالى على ذلك وجعله بمنزلة التجارة لمكان ربحهم فيه"

 

[1]

ولما نزلت { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} قال المسلمون :

لو علمنا ما هذه التجارة لأعطينا فيها الأموال والأهلين فبين لهم التجارة فقال:{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}[2]

وفي رواية قال المؤمنون:

يا رسول الله لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله لسارعنا إليها ، فنزلت:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فمكثوا زمانا يقولون: لو نعلم ما هي لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين ، فدلهم الله تعالى عليها بقول:{ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} الصف: 11"[3].

وقال مجاهد رحمه الله تعالى:

نزلت في نفر من الأنصار منهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه  ، قالوا: في مجلس لو نعلم أيّ الأعمال أحب إلى الله  عز وجل  لعملناها حتى نموت ، فأنزل الله  عز وجل  فيهم هذا ، فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه  :

لا أبرح حبيساً في سبيل الله  عز وجل  حتى أموت فقُتِل شهيداً رحمه الله[4].

وفي رواية أنها نزلت في عثمان بن مظعون رضي الله عنه  وذلك أنّه قال لرسول اللهصلى الله عليه وسلم :

لو أذنت لي فطلّقت خولة , وترهبت , واختصيت , وحرمت اللحم , ولا أنام الليل أبداً , ولا أفطر نهاراً أبداً !!

فقال صلى الله عليه وسلم : (إنّ من سنّتي النكاح , ولا رهبانية في الإسلام , إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله , وخصاء أمتي الصوم , ولا تحرموا طيّبات ما أحلّ لكم, ومن سنّتي أنام وأقوم وأفطر وأصوم فمن رغب عن سنّتي فليس منّي)

فقال: عثمان رضي الله عنه  : وددت يا نبي الله أن أعلم أيّ التجارات أحبّ إلى الله فأتجر فيها فنزلت[5].

لقد أخبر الله سبحانه في هذه الآية :

"أنّ النجاة من عذابه إنما هي بالإيمان بالله ورسوله , وبالجهاد في سبيله بالنفس والمال فتضمنت الآية الدلالة على فرض الجهاد من وجهين:

أحدهما: أنه قرنه إلى فرض الإيمان

والآخر: الإخبار بأنّ النجاة من عذاب الله به وبالإيمان , والعذاب لا يستحق إلا بترك الواجبات... فأكّد الله تعالى فرض الجهاد على سائر المكلفين بهذه الآية وبغيرها على حسب الإمكان ... فليس أحد من المكلفين إلا وعليه فرض الجهاد على مراتبه ... فأوجب الجهاد بكل ما أمكن الجهاد به , وليس بعد الإيمان بالله ورسوله فرض آكد ولا أولى بالإيجاب من الجهاد , وذلك أنه بالجهاد يمكن إظهار الإسلام وأداء الفرائض , وفي ترك الجهاد غلبة العدو ودروس الدين وذهاب الإسلام ... وقوله { وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } فأوجب فرض الجهاد بالمال والنفس جميعا , فمن كان له مال وهو مريض أو مقعد أو ضعيف لا يصلح للقتال فعليه الجهاد بماله بأنّ يعطيه غيره فيغزو به , كما أنّ من له قوة وجلد وأمكنه الجهاد بنفسه كان عليه الجهاد بنفسه وإن لم يكن ذا مال ويسار بعد أن يجد ما يبلغه , ومن قوي على القتال وله مال فعليه الجهاد بالنفس والمال , ومن كان عاجزا بنفسه معدما فعليه الجهاد بالنصح لله ولرسوله"

 

[6]

والجهاد في سبيل الله تعالى على خمسة أوجه  كما يقول الإمام الفخر الرازي رحمه الله تعالى[7]:

جهاد بالمال

وجهاد بالنفس

وجهاد فيما بين الإنسان وبين نفسه ، وهو : قهر النفس ، ومنعها عن اللذات والشهوات

وجهاد فيما بينه وبين الخلق ، وهو أن يدع الطمع منهم ، ويشفق عليهم ويرحمهم

وجهاد فيما بينه وبين الدنيا وهو أن يتخذها زاداً لمعاده ...

وعند الإمام الماتريدي الجهاد "أنواع أربعة:

1- جهاد في سبيل اللَّه بمقاتلة أعدائه، والاستقصاء في طاعته.

2- وجهاد فيما بين الإنسان ونفسه أن يجاهد في قهرها ومنعها عن لذاتها وشهواتها، وعما يعلم أنه يهلكها ويرديها.

3- وجهاد فيما بينه وبين الخلق، وهو أن يدع الطمع فيهم ، وأن يشفق عليهم ويرحمهم، وألا يرجوهم ولا يخافهم.

4- وجهاد فيما بينه وبين الدنيا وهو أن يتخذها زادا لمعاده ، أو مَرمَّة لمعاشه، ولا يأخذ منها ما يضره في عقباه.

وكل هذه الأنواع يستقيم أن يسميها جهادا في سبيل اللَّه"[8].

 

وقوله تعالى : { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ } يبين أنّ هذا المجموع وهو الإيمان بالله ورسوله والجهاد بالنفس والمال في سبيل الله خير في نفس الأمر.  

 

وفعل {تؤمنون بالله} مع {وتجاهدون} المراد به تجمعون بين الإيمان بالله ورسوله وبين الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم تنويها بشأن الجهاد.

وفي التعبير بالمضارع {تؤمنون } {تجاهدون} يفيد الأمر بالدوام والاستمرار على الإيمان والجهاد بالمال والنفس وتجديده في كل آن ، وذلك تعريض بالمنافقين وتحذير من التغافل عن ملازمة الإيمان والجهاد وشؤونهما[9].

إنها لأربح وأعظم تجارة أنْ يجاهد المؤمن في حياته القصيرة المعدودة الأيام ويعوض عنها رضوان الله وتلك الجنات وهذه المساكن في نعيم مقيم , وحقاً { ذلك الفوز العظيم }

وإنه لربح ضخم عظيم هائل أن يعطي المؤمن الدنيا ويأخذ الآخرة , فالذي يتجر بالدرهم فيكسب عشرة يغبطه كل من في السوق , فكيف بمن يتجر في أيام قليلة معدودة في هذه الأرض ، ومتاع محدود في هذه الدنيا، فيكسب به خلوداً لا يعلم له نهاية إلا ما شاء الله !!! ومتاعاً غير مقطوع ولا ممنوع ؟ وتبلغ الصفقة ذروة الربح الذي لا يعطيه إلا الله , فهي المغفرة والجنات والمساكن الطيبة والنعيم المقيم في الآخرة وفوقها النصر من الله والفتح القريب

فمن الذي يدله الله على هذه التجارة ثم  يتقاعس عنها أو يحيد عنها؟![10]

لقد تمت المبايعة على هذه الصفقة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنصار ليلة العقبة فقد قال عبد الله بن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم :

" اشترط لربك ولنفسك ما شئت " .

فقال صلى الله عليه وسلم: ( أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ).

قالوا : فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟     قال : (الجنة )

قالوا : ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل"[11]

والله سبحانه سمى هذا العقد وهذه البيعة بين المؤمنين ومالكهم وخالقهم تجارة لأنهم يربحون فيه رضا الله عز وجل ونيل جنته والنجاة من النار[12]

ونلاحظ في هذه الآية صورة حسية للمعنى تعتمد على  عنصر الإثارة والتشويق من خلال النداء { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } يعقبه الاستفهام المشوّق للجواب {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ }، واستحضار صورة التجارة الرابحة، وتحريك النفوس بها والتشويق إليها {تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وتوظيف هذه الصورة الذهنية، لتحقيق غرض ديني {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ }[13].

فالجهاد في سبيل الله تعالى بالمال والنفس له عاقبتان في الدنيا والآخرة

في الآخرة : سبب من أسباب رضى الله تعالى ومغفرة الذنوب والنجاة  من العذاب الأليم , والدخول إلى جنات الخلد والمساكن الطيبة في جنات عدن عند مليك مقتدر

وفي الدنيا : حياة العزة والكرامة والنـصر على الأعداء وفتـح البلدان.

فثمرة الجهاد بالمال والنفس مجد وعز وكرامة ورفعة في الدنيا والآخرة.

نسأل أن يكرمنا في الدنيا جهاداً في سبيله وفي الآخرة حشراً تحت لواء رسوله صلى الله عليه وسلم في زمرة الأنبياء والشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا.



[1] - انظر: تفسير ابن كثير 8/ 112 , وتفسير القرطبي  18/ 78

[2] - الدر المنثور  8/ 149

[3] - تفسير القرطبي  18/ 78

[4] - انظر: الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره وأحكامه وجمل من فنون علومه (11/ 7437) مكي بن أبي طالب (ت 437هـ), وتفسير القرطبي 18/79

[5] - انظر: تفسير القرطبي  18/ 87

[6] - أحكام القرآن للجصاص  4/ 313

[7] - تفسير الرازي  15/341

 

[8] - تفسير الماتريدي (تأويلات أهل السنة)  9/ 635

[9] - انظر: التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور28 / 194

[10] - انظر : في ظلال القرآن 7/198

[11] - رواه ابن جرير في تفسيره 14/499 , والحاكم في الإكليل بهذا اللفظ كما في فتح الباري  لابن حجر 6/4 , وهنالك روايات أخرى مع اختلاف يسير في مسند أحمد 25/92 وصحيح ابن حبان 15/471 وأخبار مكة للفاكهي 4/26

[12] - انظر: تفسير الخازن  6/ 93

[13] - انظر: وظيفة الصورة الفنية في القرآن - ص  113 - عبد السلام أحمد الراغب

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين