الجهاد بالمال والنفس من صفات الرسل وأتباعهم


ياسر محمد حجازي
قال الله تعالى:
- } لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)  { سورة التوبة
افتتاح الآية بحرف الاستدراك (لكن) " يُؤْذِن بأنّ مضمون هذا الكلام نقيض مضمون الكلام الذي قبله أصلاً وتفريعاً.
فلما كان قعود المنافقين عن الجهاد مُسَبَبَاً على كفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم ، كان المؤمنون على الضد من ذلك.
وابتدئ وصف أحوالهم بوصف حال الرسول صلى الله عليه وسلم لأنّ تعلقهم به واتباعهم إياه هو أصل كمالهم وخيرهم.
وقوله تعالى: { جاهدوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ }
مقابل قوله تعالى: { اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ }
وقوله تعالى: { وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
مقابل قوله تعالى: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ }
وفي حرف الاستدراك (لكن) إشارة إلى الاستغناء عن نصرة المنافقين بنصرة المؤمنين للرسول صلى الله عليه وسلم ...
وفي قوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ } تعريض بأنّ الذين لم يجاهدوا دون عذر ليسوا بمؤمنين"[1].إيماناً كاملاً مرضياً لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم
يقول الله تعالى ذكره "لم يجاهد هؤلاء المنافقون الذين اقتصصت قصصهم المشركين ، لكنّ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والذين صدقوا الله ورسوله معه ، هم الذين جاهدوا المشركين بأموالهم وأنفسهم ، فأنفقوا في جهادهم أموالهم واتعبوا في قتالهم أنفسهم وبذلوها
وللرسول صلى الله عليه وسلم وللذين آمنوا معه , الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم {الْخَيْرَات}، وهي خيرات الآخرة ، وذلك : نساؤها ، وجناتها ، ونعيمها. واحدتها "خَيْرَة"، و"الخيرة"، من كل شيء  الفاضلة.
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} يقول: وأولئك هم المخلدون في الجنات، الباقون فيها، الفائزون بها"[2].
فالرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه "هم طراز آخر غير ذلك الطراز {جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } فنهضوا بتكاليف العقيدة ، وأدوا واجب الإيمان؛ وعملوا للعزة التي لا تنال بالقعود {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} خيرات الدنيا والآخرة
في الدنيا لهم العزة ولهم الكرامة ولهم المغنم ولهم الكلمة العالية .
وفي الآخرة لهم الجزاء الأوفى ، ولهم رضوان الله الكريم {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفلاح في الدنيا بالعيش الكريم القويم والفلاح في الآخرة بالأجر العظيم: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }"[3] .
فالاستدراك - ( لَكِنِ ) - في الآية الكريمة "للانتقال ممن ارتضوا المنزل الهون إلى الذين لم يريدوا إلا العزة والكرامة والرفعة، ومن امتلأت قلوبهم بحب الله تعالى فآثروه على كل الوجود ، ورضوا بالمشقة وإن اشتدت ؛ مرضاة له سبحانه وتعالى ، فالاستدراك لبيان الرفعة التي وصل إليها المؤمنون في مقابل الذلة التي ارتضاها الآخرون ... والمعنى: إن استرخى هؤلاء عن الجهاد، ورضوا بالقعود مع الضعفاء والنساء فالرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ، وقوله:
(لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ. . .)
التعبير بالرسول في هذا المقام للإشارة إلى أن مقام الرسول يوجب الجهاد؛ لأنّه تبليغ للدعوة وحماية لها ودفع للذين يعاندونها ، وذكر بجوار مقام الرسالة من معه ، أي من آمنوا ، وصاروا معه في جهاده الذي حمل عبئه بحمله عبء الرسالة ، والرسول وما عطف عليه مبتدأ خبره ما جاء بعد ذلك ، وهو قوله تعالى: (جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ) أي قدموا النفس والنفيس ، وقدم سبحانه وتعالى الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، مع أن النفس أغلى وأعز، والجود بها أقصى غاية الجود ، قدم المال مع ذلك ؛ لأن الإنفاق في سبيل الله هو عدة الجهاد ابتداءً ، وامتشاق السيوف هو نهايتها ، ولأن ذلك يشير إلى أنهم باعوا أنفسهم لله تعالى واطرحوا الدنيا اطراحاً ، فالمال يطلب لغايات الدنيا ، وقد اشترى الله من المؤمنين أنفسهم فلا حياة لهم إلا مع الله ,  وقوله تعالى: (وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ) الإشارات إلى الموصوفين بالأوصاف السابقة، أي أولئك الذين كانوا مع الرسول ، ولزموه في جهاده ، ولم يتخلفوا عنه ، وأحبوا الله تعالى وبذلوا أموالهم وأنفسهم ، ولم يريدوا شيئا إلا إرضاء الله، لهم الخيرات، الخيرات جمع خير ، وعبر بالجمع للدلالة على كثرة ما يمنحهم الله من خير وتنوعه ، فخير في الرزق ، وخير في نيل المطالب ، وخير في النصرة ، وخير في العزة ، وخير في منع تحكم الأعداء، وخير في رضا الله تعالى ، وخير في صلاح الولد ، وخير في الهداية. . . إلى آخره من الخيرات في الدنيا ، والخير الأكبر في الآخرة.
ثم قال: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي المشار إليهم المتصفون بهذه الصفات هم الفائزون بنعيم الآخرة ، ورضوان الله تعالى والقرب منه، وقد قصر الله تعالى الفلاح عليهم بتعريف الطرفين ، لأن تعريف الطرفين ؛ يفيد القصر، وبضمير الفصل، أي أن الفلاح لهم ، وليس لغيرهم"[4].
 
يقول الإمام الماتريدي رحمه الله تعالى :
"قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ)
يقول : إنّ الرسول والذين حققوا الإيمان والتصديق جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ، أي: بذلوا أنفسهم وأموالهم لنصر دين اللَّه ، وإظهار سبيله ، ولم يبخلوا كما بخل أهل النفاق في بذل أموالهم وأنفسهم في نصر دينه بالمجاهدة مع أعدائه ، ولم يحققوا الإيمان والتصديق ؛ أخبر أنّ للمؤمنين الذين حققوا الإيمان والتصديق، وبذلوا أنفسهم وأموالهم ، وجاهدوا بها في نصر دين اللَّه ، وإظهار سبيله - لهم الخيرات.
قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَهُمُ الْخَيْرَاتُ): بالذكر في الدنيا ، والثناء الحسن ، وسلوك الناس طريقهم ، وفي الآخرة الثواب والجزاء.
وقيل: الخيرات في الآخرة ؛ لما بذلوا أنفسهم وأموالهم في نصر دينه، والمجاهدة مع عدوه.
وقيل: الخيرات: الحور العين ؛ كقوله: (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ)، والله أعلم"[5].
فإحدى الصفات الأساسية الملازمة للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه إلى يوم القيامة كما هو منطوق هذه الآية:
 الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله تعالى , وبذل كل غالٍ ونفيس في سبيل مرضاته سبحانه , وفي سبيل رفعة وعزة دينه عزَّ وجل
والآية تسجل شهادة من الله عزَّ وجل وثناء على الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وما كانوا عليه من جهاد وتضحية في سبيل هذا الدين , وأنهم من أهل الفلاح والخير في الدنيا والآخرة
"فشهادة القرآن الكريم لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم  بالإيمان لا تقف في حدود الدنيا فقط بل تمتد لتشمل حسن الخاتمة بالموت على ذلك وما يستتبعه من وعد الله لهم بالمغفرة والرضوان وحسن المثوبة في الجنان"[6] .
"ففي هاتين الآيتين وعد من الله جل وعلا لرسوله وللذين آمنوا معه بالخيرات والدرجات العلى في جنات الفردوس، فهل يكون هذا الوعد لقوم علم الله أنهم سيرتدون على أعقابهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل كان هؤلاء ثلاثة أشخاص، أو عشرة كما يزعم الزاعمون أم أنهم جيوش تحقق بهم نصـر الله وتمكن من مواجهة جيوش دولة الروم التي كانت في زمنهم أقوى
وأعظم دولة على وجه الأرض؟"[7].
وإن "من يتدبر في هذه الآيات الكريمات يعلم علم اليقين أن تلك الصفوة المختارة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي مشت تحت راية الرسول صلى الله عليه وسلم ودافعت عن الإسـلام بدمها ومالها واشتركت معه صلى الله عليه وسلم في بناء مجد الإسلام والدفاع
عن الأخطار التي أحدقت به ، إنهم كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار
الذي كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم  في السراء والضراء يلازمونه ملازمة الظل لصاحبه حتى يكون لهم أسوة في حياتهم ويحمونه من الأعداء والمتربصين بالإسلام، وهناك صورة مشرقة نيّرة لهذه الصفوة المختارة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم تعني كل كلمة منها صفاء ذلك العصر وعظمته وجلالته وروعته وإخلاص الصحابة وتفانيهم في الإسلام وفي الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم "
 


[1] - تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور 10 / 290
[2]- تفسير الطبري 14/ 414
[3] - في ظلال القرآن 4/ 59
[4] - زهرة التفاسير للإمام محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى 7/ 3404
[5] - تفسير الماتريدي (تأويلات أهل السنة) 5/ 443
[6] - منزلة الصحابة في القرآن (ص 13) صلاح الصاوي
[7] - عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام (3/ 955) ناصر بن علي عائض حسن الشيخ.
[8]- الشيعة والتصحيح , الصراع بين الشيعة والتشيع (ص 31 ) د. موسى الموسوي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين