الجرأتان

- قالوا: ما أشدَّ وجْدَك بإبراهيم عليه السلام وشغفَك به، تلهج بذكره مولعًا به في شوق وحنين دون أن يأخذك إجهاد وفتور، أو يغلبك تعب ونصب، 

قلت: صدقتم، إذا تحدثت عنه سكرت وانتشيت فوق سكر الشاربين ونشوة ذوي الصبوح والغبوق، وصدق علي قول من قال:

سقوني وقالوا لا تغن ولو سقوا=جبال سليمى ما سقيت لغنت

- قالوا: تُدَرِّس عن حياته وعما أنعم الله عليه من خُلَّته والإمامة ساعات طوالا ونحن إلى مزيد من حديثك عنه متعطشون، وإلى تقصي كراماته وعجائبه متطلعون، فلو دللتنا على ما أحله هذه المنزلة الرفيعة وهذه الرتبة السامية التي دونها المنازل والرتب؟ 

قلت: أفلم تعُوا دروسي ولم تستوعبوا محاضرتي؟، قالوا: بلى، وانبهرنا بثقوبة نظره ورجاحة عقله وسلامة صدره، وجفون العيون ملأى مُترعة، والعبرات فائضة، والقلوب خاشعة هيبة له وإجلالا، قلت: إن سِرَّ ما بلغ إبراهيم عليه السلام من الذُّرى والعُلى في قوله تعالى "ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين" فهذا الرشد هو أساس جميع فضائله ومناقبه، بدأ مسيرته الحنيفية بالرشد صغيرا، وانتهى إلى الإسلام الكامل لله رب العالمين وإمامة الناس كبيرا.

- قالوا: أبِن الرشد رافعا عن معناه اللثام، ومزيلا عنه الغموض والخفاء، 

قلت: الرشد هو ما أوتي إبراهيم عليه السلام من استجابة لفطرته متساوقة مع فطرة الكون، قالوا: أو ليس العالم كله منسجما مع الفطرة؟ قلت: بلى، إن السماوات والأرض وما بينهما كلها إبراهيمية في توجهها إلى فاطرها آتية إليه طائعة، واعية لطبيعتها موفِّقة بينها وبين الطبائع حولها، إلا الإنسان. قالوا: فما لك استثنيتَ الإنسان مقصيًا إياه عن حكم الطبيعة؟ قلت: لأن الإنسان قادر على مقاومة طبيعته ومناقضتها، ومن ثم يطوِّر عادات ورسوما وحضارات وثقافات وآدابا وأعرافا منتظمة مع أهوائه في تلاؤم وتناسب، نافرة من جِبلِّته منابذة لها ومعادية، بينما لم يطور غيره من مظاهر الكون حضارات وثقافات مناوئة لطبائعها، ومبنى الرشد على الفصل بين الفطرة وما تقتضيه وبين ما يعاكسها ويضادها.

- قالوا: إذا نشأ الإنسان في بيئة ألف عاداتها ورسومها هاويا لها معتلقا، دون أن يخطر بباله التمييز بين ما يوافق فطرته منها وما يخالف؟ 

قلت: أحسنتم، إن الجماهير الغالبة من البشر لا تنتبه له رافعا إليه رأسا أو مولية له اهتماما، ومن هنا تتبين مزية إبراهيم وفضله على العالمين، ناشئا على التفريق بين الفطرة التي فطر الله الخلق عليها وبين العادات والثقافات والحضارات التي ابتدعتها فئات البشر في أعصارها وأمصارها وطورتها تطويرا، قالوا: ما له سَلِم حيث زلَّ غيره، وكيف نجح وقد فشل سواه؟ قلت: أعانته على ذلك جرأتاه العقلية والخلقية.

- قالوا: ما هي جرأته العقلية؟ 

قلت: عامَّة الورى لا يوظِّفون عقولهم إلا في نطاقات ضيقة ودوائر محدودة من حياتهم، حتى الفلاسفة والعقلاء والحكماء والعلماء يتطأطأون لعادات أقوامهم ورسومها غير مستفهميها ولا مستثيري الشكوك والأسئلة حولها، فترون مثلا الهند طافحة بهم يسجدون للأصنام، ويعبدون كل حقير ساقط، ويحتفلون بكل سخيف تافه، ممجِّدين له مُكْبِرين، وإن من سبقهم أو عاصرهم من فلاسفة الصين وفارس واليونان وسائر أوربا وعلمائها لآثارهم قاصُّون، وهم على منوالهم بكل ما تأباه الفِطَر وتمجُّه الألباب من الخرافات والخزعبلات والأساطير مؤمنون.

- قالوا: أليسوا متناقضين وقد زعموا اتباع العقل وإعمال النظر؟ 

قلت: بلى، قالوا: فما أوقعهم في هذا التناقض المشين؟ قلت: إنهم تقاعسوا ضعفاء جبناءعن توجيه الظنون نحو تلك الجهالات والأباطيل، ووضعها على محك البحث والنظر.

-ولكن إبراهيم عليه السلام كان جريء العقل ذا صواب فطنة وسداد بصيرة، ومؤنس نهية ونبوغ، وصفي نباهة وإدراك، بعيدا عن الجبن وضعف الرأي وفتور الهمة والعزيمة كل البعد، استحثَّته فطرته السليمة على استرابة عادات قومه ورسومه، ودفعته نجابته إلى امترائها، رأى أباه يسجد للأصنام فاستفسره: يا أبت لم تعبد ما يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا، وساءل قومه عبادتهم للأصنام وللكوكب والقمر والشمس، وأعلن أنه لا يحب الآفلين، وغيره حُبِّب إليه الأكل والشراب وبناء القصور وتجميع الأموال وصنوف اللذات من كل لون مع أن الأفول مقبل إليها، وفناؤهم سريع قريب، فرغب عن كل شيء لا إلى ذا وذاك، بل إلى الله حنيفا.

-قالوا: فما جرأته الخلقية؟ 

قلت: إن الجم الغفير من الأنام إذا عرف الحق الذي ليس عليه المحيط حوله كتمه خائفا، ولكن إبراهيم كان صِدِّيقا أمينا، حمله صدقه وأمانته على أن يُرِي قومه ما رأى وأن يستنقذهم من باطلهم وغوايتهم، بل وجادل الملك وقومه في عبادتهم للأصنام وللكوكب والقمر والشمس باهتًا إياهم بساطع الحجة ودامغ البرهان، وجهر بالحق غير مكترث بمعاداتهم وما يُعقب ذلك من محنة وفتنة، وقال لأبيه: يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، فهدده أبوه وقال: أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم، لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا، وكذلك أراد به قومه كيدا، فنجاه الله، وقال إبراهيم في غير خوف متوكلا على ربه: وأعتزلكم وما تدعون من دون الله عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا.

-قالوا: وما ضد هذا الرشد؟ 

قلت: السفه، فمن تخير أوضاع مجتمعه وعماياته مُؤْثرا لها مُفَضِّلا على ما تستدعيه الفطرة كان سفيهًا، ومن السفه أنماط الحضارة المعاصرة من السكرات والمُلهيات المعلَّقة بأيام قصار، والأحداث التي تستخفُّ الحجى ويطيش لها أولو الحلم والوقار، والمعايش التي تُفتَّك عن فضائحها الأستار، ومن كانت الدنيا همه سَبَتْه مُعلِّلات المنى واسترقَّتْه مستجدَّات الأطماع، وما المُعِدُّون للدنيا والناسُون للمنايا بأكياس وذوي ألباب، متردِّين في الشهوات والأهواء، ومتعمِّهين في السفه والأدواء، وعن غواياتهم في غير ارعواء، والرشد على الجهالات لا يزكو، والحكمة على الضلالات لا تنمو.

-قالوا: فما توصينا؟ 

قلت: أوصيكم ونفسي أن تستمسكوا بجميع ما لكم فيه رشد، واعي مقتضيات فطرتكم مستجيبين لها، غير قابلي عادات أقوام ولا تقاليدها ولا ثقافاتها إلا إذا استوثقتم من عدم مناقضتها للفطرة، وإن أظهر ما تناديكم فطرتكم أن تعرفوا ربكم شاكرين له عابدين مطيعين، وللموبقات من الذنوب والآثام مباعدين، قدرَ جهدكم أو فوق جهدكم، فإنكم جُبلتم على البر والطاعة، ولم تُجبلوا على الإثم والمعصية

نشرت 2017 وأعيد تنسيقها ونشرها 18/3/2019

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين