الثورة ومسؤولية الأقوياء

لو أنصفنا وبحثنا عن السبب الأكبر الذي أوصلَنا إلى الحالة المُرّة التي تعيشها ثورتُنا اليوم لقررنا أنه "الخذلان". ولا يظنّنَّ أحدٌ أن المقصود هو خذلان العالم لثورتنا، فما كان يُرجَى منه أن يساعدنا قَطّ، ولا نحن استأذنّاه ولا طلبنا معونته يوم انطلقنا في ثورتنا المباركة أولَ مرة. لا، إنما أعني خذلاننا نحن لأنفسنا، إنما أعني الخاذلين من أنفسنا الذين خذلونا وخذلوا ثورتنا، هؤلاء هم قَتَلة الثورة الحقيقيون.

فمن هؤلاء الخاذلين قادة عسكريون مزّقوا الجسم الثوري في سبيل المناصب والمكاسب والجاه والسلطان، ومنهم سياسيون فرّطوا بحقوق الثورة ودحرجوها على سلالم التنازلات، ومنهم دعاة و"شرعيون" باعوا ضمائرهم وسخّروا علمهم لخدمة الظَّلَمة والدفاع عن المعتدين، ومنهم إعلاميون وكُتّاب عرفوا شرّ الغلاة ولبثوا ينافقون ويكذبون ويضلّلون الناس.

ولعل من أعظم الخاذلين خذلاناً وأشدّهم حساباً فصائلُ منحها الله القوة والقدرة ثم تخاذلت عن ردع الظالمين والفاسدين بسبب أخوّة المنهج والورع البارد أو مداراةً للداعمين ومجاملةً للجيران، فتفتّتَ بعضها وذَرَتْهُ الريح، وبقي بعضها ينظر بلامبالاة إلى الظلم والفساد وينتظر ذاتَ المصير.

* * *

يحسب كثيرون أن الزكاة حق في المال فحسب، وهذا تصور ناقص، فالإسلام يوجب حقاً للناس في كل عطاء أعطاه الله للإنسان، ففي مال الأغنياء حق للفقراء، وفي قوة الأقوياء حق للضعفاء، وفي علم العلماء حق للجاهلين، وفي شهادة الشهود حق لمن يحتاجون إليها... وتتربع على قمة هرم الحقوق نصرةُ المظلوم التي جعلها الله -تبارك في عُلاه- حقاً واجباً على كل قوي قادر على النصرة.

في حديث البخاري عن أبي بردة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "على كل مسلم صدقة". قالوا: يا نبيّ الله، فمَن لم يجد؟ قال: "يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق". قالوا: فإن لم يجد؟ قال: "يُعين ذا الحاجة الملهوف". وفي حديث مسلم: "من كان معه فَضْلُ ظَهر فليَعُدْ به على من لا ظَهرَ له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له". قال الراوي أبو سعيد الخدري: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حقَّ لأحد منا في فضل.

وفي الحديث العظيم المتفَق عليه: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسْلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة". قال أهل العلم: المقصود هو ترك نصرة المسلم مع وجود القدرة عليه بالقول أو الفعل، ومنه الحديث الذي أخرجه أحمد: "مَن أُذِلّ عنده مؤمن فلم ينصره و هو يقدر على أن ينصره أذلّه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة".

* * *

إذا علمنا ذلك أدركنا حجم المسؤولية التي يحملها الأقوياء القادرون على حماية الثورة وإنقاذها من الفاسدين والظَّلَمة والغلاة، ومَن فَقِهَ هذه المعاني ما كان له أن يقول في يوم مضى: "هؤلاء الظلمة المعتدون إخواننا في الدين فلن نقاتلهم دفاعاً عن المستضعفين"، ومَن فَقِهَها لن يقول في يوم آت: "هؤلاء الظلمة المعتدون في حماية جيراننا الداعمين فلا طاقة لنا بردّ أذاهم وكفّ شرهم عن الناس".

لو فقه الأوّلون هذه المعاني لَنَجَوا من حساب الله ولَنَجت الثورة مما أصابها من بلاء على أيدي الغلاة وتجّار الدين، ولو فقهها الآخِرون لنجوا من حساب الله ونجا ما بقي من الثورة من إفساد المفسدين وعبث العابثين. ولن يفعلوا، ستضيع هذه الصرخة في وديان التجاهل والنسيان كما ضاعت من قبلها آلاف الصرخات، ولن يصنع الآخِرون شيئاً كما لم يصنع شيئاً الأولون، يا ويلهم جميعاً من حساب الله ومن دعاء الناس ولعنة التاريخ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين