الثورة ضد الاستبداد

د.أحمد محمد كنعان

.. ومن الملاحظ أن الثورة ضد الاستبداد تمر بمرحلتين حاسمتين ، ففي المرحلة الأولى ، فترة التحرر من السلطة المستبدة ، يتجاوز الناس خلافاتهم ومصالحهم المتناقضة ، وتظهر أفضل طاقاتهم ، وتتسامى نفوسهم فيعملون معاً توقاً إلى الحرية .
لكن ما إن يسقط المستبد حتى تبدأ المرحلة الثانية من الثورة ، وهي المرحلة الأخطر ، لأن فيها يبدأ الصراع على السلطة ، وفيها تظهر المصالح الشخصية على السطح ، ويركز الناس على ما يختلفون فيه وينسون ما يوحدهم ، ويخرج إلى السطح أسوأ ما في النفوس من أضغان ، وتبدأ تصفية الحسابات !
وهكذا رأينا مثلاً "الثورة الفرنسية" تحرر الفرنسيين من المَلَكيَّة لكن الثورة لم تلبث أن دخلت في مسلسل رهيب من التصفيات الجسدية العنيفة ، وكذلك فعلت "الثورة البلشفية" التي حررت الروس من استبداد القياصرة لكنها انتهت إلى حكم البلاشفة الذين كمموا الأفواه وملؤوا السجون وشردوا المخلصين من أبناء الوطن ، وكذلك فعلت "ثورة الخميني" في إيران التي حررت الناس من استبداد "الشاه" لكنها أخضعتهم إلى استبداد "ولاية الفقيه" التي أعادت إلى الأذهان سيرة الاستبداد الديني في أوروبا في العصور الوسطى .
وهكذا نرى أن الثورات قد تقضي على الاستبداد لكنها نادراً ما تتمكن من بناء دولة الحرية والقانون ، والسبب في هذا أن الثوار بعد نجاح ثورتهم يتصورون أن عليهم تغيير كل شيء لكي تكون ثورتهم ثورة حقيقية ، مما يدفعهم لممارسة "دكتاتورية مؤقتة" حسب ظنهم من أجل تحقيق ذلك التغيير ، ومن هذه النقطة الخفية يبدأ مسلسل الفشل ، ويعاود الاستبداد استنساخ نفسه بنفسه !
ولعل الثورة الوحيدة التي استطاعت في العصور الحديثة أن تنجز بناء دولة القانون والحرية دون أن تقع في فخ الاستبداد هي "الثورة الأمريكية" والذي ساعد الثورة على هذا الإنجاز الفريد أن "العالم الجديد" الذي شهد ولادة تلك الثورة كان مستعمراً من قبل حكومة دستورية هي الحكومة البريطانية ، كما أن أبناء ذلك العالم الجديد كانوا قد مارسوا الحكم لأكثر من قرن من الزمان قبل الثورة عبر مجالس حكم ملتزمة بالقانون البريطاني ، فكانت هذه المؤسسات صمام الأمان الذي حمى الثورة الأمريكية من الانحراف وساعدها في بناء دولة القانون والحرية ، والفضل في كل هذا يعود بالدرجة الأولى إلى قادة الثورة الكبار الذين حرصوا منذ البداية على تأسيس الدستور وبناء المؤسسات الدستورية (الكونجرس ، المحكمة العليا ..) وهذا ما حمى الثورة وصان الحرية وجعل الولايات المتحدة وطناً ديمقراطياً مستقراً منذ نشأته وحتى اليوم .
وفي هذا درس عظيم للثوار بأن يبدؤوا فور نجاح ثورتهم ببناء دولة القانون والحرية ، لأن الغاية من الثورة ليست استبدال نظام بنظام ، وإنما بناء نظام جديد يقوم على أسس قانونية راسخة تنقل البلاد إلى عهد جديد بريء من الاستبداد ، ملتزم بالقانون والحرية ، مراع لحقوق الإنسان

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين