جهاد الوحدة :
إن نعمة الأخوة في الله نعمة عظيمة جعلت أبناء الأمة الإسلامية في رباط متين وعلاقة راسخة أقوى من علاقة النسب رغم اختلاف الألوان والأجناس واللغات ، ولذا كانت الوحدة الإسلامية فريضة إلهية ، يدل عليها قوله تعالى:? واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ? (آل عمران : 103)، وقوله صلى الله عليه وسلم : " مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " ([1])
وهي وثيقة الصلة بصحة المعتقد وسلامة المنهج وبقائه على صفائه كما أنزله الله ، لذلك جاءت البراءة من أهل الفرقة والاختلاف في القرآن على هذا الأساس:? إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ? (الأنعام : 159) لأن التشتت والتشرذم والتنازع سبب في فقدان الأمة الإسلامية لكيانها وهيبتها وعزتها وثرواتها وتجزئة أوطانها ، والأندلس المفقود خير شاهد عندما تنازع ملوك الطوائف أمام الصليبيين . ووجود الداء السرطاني المسمى الدولة المحتلة لفلسطين (إسرائيل) دليل على خذلان الأمة الإسلامية وتشتتها عبر سايكس بيكو والرضى بهذه الحدود الجغرافية .
إن الثورة السورية لا يمكن حلها ضمن الأطر الضيقة في الحدود الجنسية ، فجنسية المسلم عقيدته كما قال سيد قطب رحمه في كتابه معالم في الطريق . وإنما يكمن حلها في وحدة بلاد الشام ، ومن ثم وحدة البلاد العربية ووحدة العالم الإسلامي ..
إن سايكس بيكو ليس مجرد تجزئة للبلاد العربية والإسلامية فقط وإنما هي " معاهدة هيمنة استعمارية طويلة المدى صممت كمنظومة عمل تاريخية لتشتغل ذاتيا، بموجب آليات التفكيك والتبعية الدائمة ل" المركز "([2]) أي القوى الكبرى .
وهذا ما يفسر عجز البلاد العربية والإسلامية عن نصرة فلسطين ، وعن فعل أي شيء لمنع سقوط العراق وأفغانستان ، وتفكك الصومال ، وتقسيم السودان ، والعاجز التام عن نصرة سوريا ، فكل دولة تدافع عن حدودها الجغرافية ، وتحتفل بعيد الجلاء ، واليوم الوطني وكأن هذه الحدود قضبان سجن ، وبالتالي كل دولة معزولة عن الأخرى وفي نفس الوقت مفتخرة أنها ذات حضارة تاريخية .
إن الشعوب العربية والإسلامية قبل سايكس بيكو لم تعرف سوى الأخوة الإسلامية كأساس للعلاقة والتعايش بينهم ، وكان أهل الذمة يعيشون بينهم دون أي ظلم لهم أو انتقاص أو غياب لحقوقهم ..
والأخوة الإسلامية أساس حضاري عالمي ينشر الحب والسلام فلا مكان للتعصب " الأردن أولا " أو " قطري وافتخر" على سبيل المثال .
وبهذه الأخوة الحضارية نجد حلا لفلسطين ، ونجد حلا لسوريا في نصرتهم ، ونجد حلا لكل تآمر غربي ضد البلاد العربية والإسلامية " لقد وقعت المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله ، والتي لا تصنعها إلا هذه العقيدة ، فاستحالت هذه القلوب النافرة ، وهذه الطباع الشموس ، إلى هذه الكتلة المتراصة المتآخية الذلول بعضها لبعض ، المحب بعضها لبعض ، المتآلف بعضها مع بعض بهذا المستوى الذي لم يعرفه التاريخ والذي تتمثل فيه حيـاة الجنة وسمتها البارزة أو يمهد لحياة الجنة وسمتها البارزة والتي من صورها قوله تعالى : ? وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ? ( الحجر : 47) ، إن هذه العقيدة عجيبة فعلاً ، إنها حين تخالط القلوب تستحيل إلى مزاج من الحب والألفة ومودات القلوب فإذا نظرة العين ، ولمسة اليد ، وخفقة القلب ترانيم من التعارف والتعاطف والولاء والتناصر ، والسماحة والهوادة ، لا يعرف سرها إلا من ألف بين هذه القلوب ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب([3])
عن أبي نضرة قال: حدثني من سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق فقال: يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلّغت؟ قالوا: بلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: أي يوم هذا؟ قالوا يوم حرام. ثم قال: أي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام. ثم قال: أي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام. قال: فإن الله قد حرم بينكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ليبلغ الشاهد الغائب.([4])
إن الثورة السورية في اشد الحاجة الى وحدة الصف ، ووحدة الكلمة ، ووحدة الهدف، ووحدة الغاية بين أبناء الكتائب والألوية والجبهات ? إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ?
وبحاجة أقوى وأكبر إلى وحدة الكلمة بين الثوار في الداخل والمعارضة في الخارج ، فالمجاهد والسياسي وحدة متكاملة مترابطة ليس بينهما فرق ، أو فصام ، بل كل منهما يكمل الآخر ، فهدفهم واحد ، وطريقهم واحد ، ومصيرهم واحد .. ومن أجل فهم واستيعاب هذه الوحدة والتلاحم والترابط نذكر بعض الأصول التي تشكل أرضية صلبة تربط ما بين الجانب الجهادي والجانب السياسي : ([5])
1- شمولية العمل : الإسلام دين الفطرة ، وهو دين شامل يشمل الروح والجسد ، ويشمل الدنيا والآخرة ، ويشمل الحياة والموت ، ويشمل الجهاد والسياسة ، فالجهاد من الإسلام ، والسياسة من الإسلام ..ولا يمكن العمل لبناء الإنسان الصالح ذو الفطرة السليمة إلا بهذه الشمولية .. وبالتالي لا تنازل عن أحدهما في أي مرحلة من مراحل العمل الإسلامي ، وقد يغلب جانب على جانب أخر بحسب ظروف الواقع ولكن لا يقصيه ، فالجهاد والسياسية جناحا الثورة وبهما معا تطير .
2- الاعتصام بالله : قال تعالى ? وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ? وَاصْبِرُوا ? إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ? (الأنفال : 46) وهذا الأصل يحتم على الجانب الجهادي والسياسي ان تتسع صدورهم ، وأن يمتد أفقهم الفكري والتنظيمي ليشمل الجميع ليحلوا اشكالياتهم ، ويكون هناك تقارب وتفاهم للوصول إلى المصلحة العليا للمسلمين .. ومما يتعلق بهذا الأمر التخلص من كافة المقاييس والموازين المتأثرة بأعداء الإسلام ، ما بين وسطي معتدل وإرهابي متطرف ، فالجرح والتعديل هو الميزان العادل المستنبط وفق الكتاب والسنة .
3- الخلاف لا يمكن إنكاره ، ولكن هناك ثوابت ومتغيرات ويجب التمييز بينهما ، وبلغة أخرى معاصرة التمييز بين الاستراتيجي والتكتيكي .. والخلاف في التعامل مع القضايا الكبرى في وجود النصوص المؤيدة لكل منهما يمكن حدوثه .. ولكن تقدير الموقف وتحديد الثابت من المتغير ( الاستراتيجي والتكتيكي) هو الذي ينهي الخلاف ، ويأتلف الجميع تحت راية الحق .
4- التعامل السليم مع الفتن والملاحم : إن على الجانب الجهادي والسياسي استيعاب التحولات الدولية ، وطبيعة التحالفات الإقليمية واستثمار كل فرصة تلوح لهم من أجل دفع صراعهم إلى ساحة التمكين ، وهذا الاستيعاب ليس مفتوحا على مصراعيه بل مضبوط بضوابط منها : عدم التنازل عن أي مسألة من مسائل العقيدة . عدم التفريط في قضية الولاء والبراء ، والصراع موجه للأخطر فالأخطر من الأعداء .
5- دعم كل جانب للجانب الأخر : وعلى الجانب السياسي العاتق الأكبر من هذا الدعم ، فمن المعروف أن الجانب الجهادي تقع عليه كافة الضغوطات من قبل الأعداء ، والتي لا تقف عند حد معين ، فالعدو لا يريد الإنسان المسلم القوي بل يريد الإنسان المتخاذل التابع ، كما يتعرض الجانب الجهادي لأنواع شتى من حملات التشويه والمؤامرات حتى يترك سلاحه ، ولذا يجب على الجانب السياسي توجيه كافة أنواع وأشكال وألوان الدعم للجانب الجهادي والذود عنه والدفع عنه في كافة الأصعدة والحوارات .
6- إن هدف الجانب الجهادي والجانب السياسي هو تغيير الواقع من فاسد إلى صالح ، ومن عبودية للإنسان إلى عبودية لرب الإنسان ، ومن ظلم إلى عدل ، ولن يتحقق هذا التغيير إذا لم يكن تغييرا شاملا وليس تغييرا ترقيعيا ، ولذا لا أنصاف حلول ، ولا تصالح بن الصحة والمرض .. وعلى الجانب السياسي أن يلعب دورا بارزا وكبيرا في توضيح هذه الأصل في كافة تواجده ، وأمام أي إنسان . فكلا الجانبين في حرب ، فإذا كان الجانب الجهادي يحارب بالسلاح ، فالجانب السياسي يخوض حربا بالقلم والسياسة والمواجهة لأي مستهدف يستهدف عقيدة وأخلاق واقتصاد المسلمين .
7- التربية مهمة لكل من الجانبين ، بحيث تكون تربية شاملة متكاملة متوازنة ايجابية لكل من الجسم والروح والعقل ..
8- يجب على كل جانب أن يكون واعيا بطبيعة الطريق الذي يسلكه وفي كافة حركاته تصرفاته ، حتى لا يكون عونا لإنجاح مخططات العدو سواء شعر بذلك ام لم يشعر ، وعليهما أن يفقها جيدا أن مخططات العدو لا تنجح إلا بسبب ما يقدمه الآخرون لهم ? ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ? (آل عمران :112)
فالعدو ماذا يقدم للإسلام وللوطن وللناس عندما نعهد إليه تطوير اقتصادنا وجيوشنا ؟
وماذا يقدم العدو للإسلام وللوطن وللناس عندما نستشيرهم في أمورنا الداخلية ؟
وماذا يقدم العدو للإسلام وللوطن وللناس وهو عدو لهم يحاربهم في أفكارهم وتوجهاتهم وتصوراتهم ومبادئهم وأخلاقهم ؟
9- إن الإسلام ليس عدوا للغرب ، وليس عدوا للبشرية بل هو دين الهداية والسلام والعدالة والحرية ، بل العكس الغرب هو عدو للإسلام وللمسلمين .. والإسلام هو الدين الوحيد الذي يملك المنهج ليصحح أخطاء وتخبطات الغرب في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية ، ويجب توضيح هذه الحقائق لهم بالقدوة أولا وبالتبليغ ثانيا .
إن الأحداث العالمية ، والحرب الوجهة ضد الإسلام سياسيا وإعلاميا واقتصاديا وفكريا وتشعب الصراع أدت إلى التداخل ما بين السياسة والجهاد ، وحدث نوع من الفصام النكد بينهما ، بل وصل أحيانا إلى التصادم بينهما ، وهذا ما يريده أعداء الإسلام ، ولهذا نحتاج في هذه المرحلة إلى التواصي بهذه الأصول وتطبيقها ، والالتفاف حولها فلا يوجد في بناء بلادنا ـ سوريا الحضارة .. وسوريا الكرامة .. وسوريا العزة .. وسوريا الإسلام ـ جانب سياسي منفصل عن الجوانب الأخرى ، ولا يوجد جانب جهادي منفصل عن الجوانب الأخرى .. فالإسلام دين شامل متكامل لا يقبل منا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض.? أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ? (البقرة :85)
[1] ) مسلم ( 2586)
[2] ) بحث الثورات العربية ديناميات الفاعلين الاستراتيجين ، د. اكرم حجازي ص 16 .منشور في موقع المراقب .
[3] ) في ظلال القرآن ص 1548
[4] ) رواه أحمد في مسنده: 5/411، وأكثر ألفاظه في الصحيحين.
[5] ) للاستزادة مقال بعنوان جناحا الثورة (بين السياسة والجهاد) .
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول