الثورة السورية... وبشائرها المرتقبة

بقلم: حسن قاطرجي

قال الله عزّ وجلّ: )ولمنْ انتصر بعدَ ظُلْمِه فأولئكَ ما عليهم من سبيل
إنّما السَّبيلُ على الذينَ يَظْلمونَ الناسَ ويَبْغونَ في الأرضِ بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم(
وقال e: ((بشِّر هذه الأمّة بالسَّناء والرفعة والنصر)) رواه الإمام أحمد في المسند بسند صحيح
لا شكّ أننا نعيش منذ أوائل هذا العام ربيعاً حقيقياًَ مُزهِراًَ مخضَّباً بالدماء والتضحيات طال انتظاره منذ أمدٍ بعيد وبعيدٍ جداً كانت شعوبنا الإسلامية تنتظر ـ أثناءه مع الآلام واللهفة والأحلام ـ الفرصة التاريخية التي كانت تحسبها بعيدة المنال بل بعيدةً جداً لتحقيق حُلُمِها... وذلك من جراءالظلم والفساد والعَفَن السياسي في بلادنا والتخلُّف المُتفشّي وحالة الرعب المُسيطرة على النفوس من إرهاب الطاغوت المُمسك بأزمّة الأمور في كثير من بلادنا العربية والإسلامية، ومن جرَّاء تغوُّل الأجهزة الأمنية التابعة لكل نظام وبطشها الهَمَجي وقمعها الوحشي... فتحولت شعوبُنا خوفاً ورَهَباً إلى ما يشبه القطيع المرعوب من الوحوش المفترسة! فصدقَتْ فينا ما أخبر عنه الإمام عليّ مما له حُكم الرفع: "ستكون فتن تموج موج البحر يصير فيها الناس كالبهائم" رواه الحافظُ ابن أبي شَيْبة في ((المصنَّف)) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وكان من أهم مشاهد فصول الثورات فصل الثورة السورية... المباركة إن شاء الله عزّ وجلّ... ولقد اكتسبت أهميةً قُصوى نظراً لخطورة الموقع السياسي والجغرافي لسوريا بالنسبة لبلاد الشام وبالنسبة لمستقبل الصراع مع العدوّ اليهودي على أرض فلسطين، ونظراً لما كان متوهَّماً من استحالة توقُّع هذه الثورة في سوريا بالذات على المدى المنظور: إنْ كان من قِبَل المقهورين أو دعاة التغيير لما يعرفونه من طبيعة النظام الأمنية القاسية وصعوبة التحرك في ظل قبضته البوليسية، أو كان من قِبَل النظام المغرور نفسه لما كان يتوهّمه بصَلَف من أن أمور البلاد مستقرّة له.
ولكن الله غالبٌ على أمره... وقَدَرُه هو النافذ... سبحانه وتعالى.
فانطلقت الثورة بإصرار وبسالة وهذا من أهم وأروع التحوّلات التي أنجزتها في الشعب السوري بمُجمله وليس بثواره فحسب، ممّا شكّل أيضاً أرضية خِصْبة للتحولات الأخرى التي نتوق إليها والتي ستكون أولى أبرز ثمرات هذه الثورة الشعبية العارمة بإذن الله سبحانه، أذكر من أهمها:
1.    تحرُّر الشعب السوري من عقدة الرعب والخوف، وهذا التحرُّر هو المنطلق لكل أداء حضاري متألِّق لأي شعب، خاصة أن سوريا هي سُرّة بلاد الشام، وهذه البلاد المباركة خَيْريّتها مرآةُ خيريةِ الأمة بأكملها، والعكسُ بالعكس، بدليل ما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا فسد أهلُ الشام فلا خير فيكم" رواه الإمام أحمد والترمذي.
2.    التنمية الشاملة إنسانياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، لشعب تتالَتْ عليه عقود طويلة من الاحتلال الأجنبي البغيض ومن الانقلابات العسكرية المتتالية، ثم منذ خمسة عقود يُعاني من ظلم نظامه القمعي وقهره وطغيانه وخنقه للحريات وانسداد أُفُق أيّ إصلاح سياسي أو اجتماعي على يديه... مع حرب ضَروس على الإسلام الحقيقي المؤثّر الفاعل المحرِّر للإنسان والمُطلق لطاقاته والمحقّق لإنسانيّته وكرامته، ولدوره في الحياة وعزّته... الإسلام المُنزَل من عند الله الذي استبدلوا به إسلام أرباب الشعائر الباهتة والخاوية، وإسلام التذلُّل للطاغية والخنوعِ له والرغبة والرهبة منه، إنْ صح أن نسمِّيَه إسلاماً إذ دينُ الله بريء من ذلك.
3.    التحوُّل الكبير والخطير المنتظر إن شاء الله في مسار الصراع مع الكيان الصهيوني الشرِّير، الذي يمثل البؤرة السرطانية الأخطر والألدّ والأخبث في جسد المنطقة الأهم من مناطق العالم الإسلامي. وحينئذ سيعرف العالم من هي دولة الممانعة بصدق: أهي الدولة العادلة الحرّة التي يتوق لها الشعب السوري ومِنْ ورائه كل المسلمين في العالَم؟ أم دولة المقاومة الصُّورية العنترية ـ بالإعلام طبعاً أو باللَّعب بأوراق قوة الآخرين بعقلية انتهازية ـ التي تُظهر عن طريق الخداع صورةَ دولة الممانعة ظاهراً، في الوقت الذي تؤدّي فيه الدور الوظيفي في المنطقة لحماية الكيان الصهيوني حقيقةً وباطناً.
4.    فضح علماء السوء وكَهَنُوت السلطان، الذين أفسدوا الدين وأنتنوا الحياة وحوّلوا الإسلام إلى دينٍ لا يهفو إليه حُرّ ولا يبحث عنه عاقل... دين لا يُقاوم الظلم ولا ينكر المنكر ولا يواجه الطاغية... دين حُوّل الذين يَلْبَسون زِيَّه إلى طبقة لا يثق بها الناس ويعتبرونها مكرِّسة للعَفَن ومُقِرَّة للتخلُّف والعبودية للطاغية يُرغَب رضاه ويُرهَب بطشُه وأذاه، ويُلْهَث وراء فُتاتِهِ ودُنياه... لذا ما أروع انتفاضة هذا الشعب الحرّ بأهازيجه الرائعة: الموتُ ولا المذلّة... ثم صياغته المتقدمة الشجاعة لصرخات وهتافات تُعبّر عن مطالبه إلى أبعد حدّ، ولا يسعنا هنا إلا أن نرفع من مقامنا هذا في مؤتمرنا هذا دعواتٍ ضارعات إلى رب البريات نطلب فيها الرحمة وعظيم الثواب وأرفع المقامات لشهدائنا الأبرار وأبطالنا وأطفالنا، ولنسائنا الرائعات في بسالتهنّ وصبرهن وبطولاتهن، منهم ـ من كثيرين ـ خنساء سوريا والشهيدة طَلّ الملّوحي وأطفال درعا والأطفال حمزة الخطيب وثامر الشرعي وهاجر الخطيب والمجاهد بصوته وتحريضه وأهازيجه المُلْهِبة لأهل حَمَاة الأحرار: الشهيد إبراهيم قاشوش، رحمة الله عليه وجَعَل له الزُّلفى لديه.
وهذا التحول بالذات يحمّلنا نحن خاصة في هذا المؤتمر مسؤولية قيادة جيل جديد من العلماء وحَمَلة الدعوة الإسلامية لأنه مفتاح توجُّه الأمة كلها ـ بصدق وإخلاص، وعزيمة وإصرار ـ نحو دينها الذي أنزله الله لتؤدّي دورها الحضاري على أساس رسالته العظيمة ومن أجل تحقيق أهدافه الكبرى التي لخّصها الصحابي المغمور ـ رِبْعي رضي الله عنه ـ في جُمَلٍ ثلاث من أفصح عبارات العرب وأعمق دلالات الفِكْر مما لم ينجح أعظم الفلاسفة أن يأتي بمثل تأثيره وروعته ولو في مجلدات: (الله هو ابتعثنا: لنُخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، ولنُخرج من شاء من ضيق الدنيا إلى سَعَة الدنيا والآخرة، ولنخرج الناس من جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام).
لذا فإننا نناشد باسم هذا المؤتمر علماءَ المسلمين الربانيين الأحرار في بلادنا الإسلامية كلِّها أنْ يؤدّوا الأمانة التي حمّلهم إيّاها الله جلّ جلاله، وأن يكونوا طليعة المتصدّين للظلم والظالمين والمنكرين للمنكر والهادين للناس إلى رب الناس، ملك الناس، إله الناس، وأن يَنْفُضوا غُبار المذلّة ويخلعوا لبس النفاق والمهانة، وقد ضمّنت هذا النداء مقالاتي المتعددة التي كتبتها تترى في مجلة منبر الداعيات الإسلامية اللبنانية التي تصدرها جمعية الاتحاد الإسلامي التي واكبتْ الثورات طيلة أشهرها، وخاصّة فيما يتعلق بواجب العلماء المقالة الأخيرة (الثورات... ومسؤولية العلماء)، وأنوّه بالمواكبة الفكرية والتوعويّة والتحريضية للمفكر د. حاكم المطيري والكاتب الإسلامي د. عبد الكريم بكار وقد تعرّض في مقالتِه (سوريّة: علماؤها على هامشها) لوضع المشايخ في سورية، والأستاذ مجاهد ديرانية ود. حامد العلي والداعية د. أحمد خيري العمري وبالأخصّ مقالته الدقيقة الوصفيّة لواقع أداء المشايخ وأصنافهم المُعَنْونة (الثورة رَغْماً عن أنوفنا وليس بسببها).
أما إخوانُكم في لبنان ـ أيها العلماء ـ فقد أدّوْا جهداً نسأل الله تعالى أن يتقبَّله ويُلْهمهم المزيد، وهم يَعِدونكم بمناصرة إخوانهم الأبطال في سوريا بكل ما يستطيعون تقديمَه. وقد حَرَصوا على الرغم من الانقسام السياسي في لبنان بين قُوى موالية للنظام السوري ولها الآن الغَلَبة السياسية والنفوذ العسكري القويّ والقوى المرتَهنَة للإملاءات الأمريكية... حرصوا أن يكونوا مستقلين وأن يُثيروا قضية مناصرة الثورة السورية على منابر الجمعة وفي الاعتصامات والمظاهرات خاصّة في شمال لبنان، وفي لقاءات علمائية في طرابلس ثم بيروت ثم صيدا مع كل الصعوبات والمحاصرات التي أُحيطوا بها بشأن إفشال اللقاء العلمائي العام على مستوى كل لبنان الذي انعقد في بيروت حتى أُغلقت في وجوههم كل المساجد فكان منّا الإصرار أن يكون اللقاء ولو في الشارع في قلب بيروت وهو ما حصل بفضل الله وخذلانه للجبناء وللمتربصين، وقد تابعتم هذا الحَرَاك عبر الفضائيات. كما حرّكوا حملات إغاثية للاهتمام بشؤون النازحين والعائلات المهاجرة من سوريا إلى بعض المناطق على الحدود السورية اللبنانية في شمال لبنان... وكل ذلك جُهْد المُقِل ونستغفر الله من التقصير ونستعينه على المزيد. وهو واجبٌ نتشرّف به ونوقن أنه يجب علينا رفع مستوى المناصرة الإعلامية والإنسانية والحقوقية والسياسية والمالية للثورة السورية وهو واجبنا في لبنان وواجب علماء الإسلام نحو كل الثورات الصادقة في كل البلدان رجاءَ أن يكون لنا نصيبٌ من ثواب تضحيات المخلصين الأحرار... وما ذلك على الله بعزيز.
نسأل الله أن يعجِّل الفَرَج لإخواننا المسلمين في سوريا والخلاص من محنة تسلّط هذا النظام وإجرامه، وأن يرحم الشهداء ويشفي الجرحى ويخلِّص المعتقلين المسجونين ويخفّف آلامهم. إنه وليّ ذلك والقادر عليه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين