الثورة السوريّة بين التمجيد والتشكيك

منذ أن هيّأ اللهُ لشعب سورية أن يثور على الطغيان والظلم والفساد... ما زلنا نرى أقلاماً تكتب، ونسمع أصواتاً ترتفع... فمنها ما يمجّد في هذه الثورة، ويعدّد مآثرها، ويؤكّد انتصارها... ومنها ما يشكّك بجدواها، ويغمز بفصائلها ورموزها والمتكلّمين باسمها.

ولسنا هنا بشأن النوايا والدوافع وراء التمجيد والتشكيك، إنما نريد أن نلقي نظرة موضوعية على مجريات الثورة لعلنا نتفهّم هذه المجريات ونسدّد ونقارب، والله المستعان:

1- إن سلسلة الجرائم التي مارستها السلطات في سورية منذ آذار 1963م عند بدء الفاجعة، وحتى آذار 2011م عندما ثار الشعب على تلك الجرائم... كانت كفيلة بقيام هذه الثورة. فإن العدوان على الدين والعِرض والمال، وقمع الحريات، والتمييز الطائفي، واحتكار السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية... لا بد أن تُولّد كبتاً وقهراً ثم انفجاراً. وإذن فقيام الثورة لم يكن منه بدّ، وإن كان من عجب فهو لماذا تأخّر قيامها؟!.

2- الشعب السوري بجُملته شعب مسلم. وعلى الرغم من عوامل الإفساد والتجهيل والتفسيق... التي تعرّض لها، تبقى في نفوس أبنائه جذوة الإيمان، يتفاوت توهّجها بين فرد وآخر.. لكنها تشكّل قاسماً مشتركاً بين معظم أبناء الشعب.

3- ليس المهم تلك الشرارة التي أشعلت الثورة، إنما المهم ذلك الغيظ الذي ملأ النفوس نتيجة صنوف الظلم التي وقعت على الشعب. ومن طبيعة الناس أن يتفاوتوا في المبادرة، ثم يتفاوتوا في الاستجابة. فمنهم مَن سارع إلى الالتحاق بالثورة منذ أسابيعها الأولى، ومنهم من انتظر شهوراً، ومنهم من بقي متفرّجاً متعاطفاً أو متأسّفاً!!.

4- الذين ثاروا على الظلم إنما تجمعهم النقمة على ممارسات السلطة الفاجرة، لكنهم يتفاوتون في تصوّرهم عن البديل المطلوب، كما يتفاوتون في مستواهم الفكري والخلقي والسلوكي. أليسوا ممن تعلّموا في مدارس النظام، وقرؤوا مناهجه المدرسية، وتسرّبت إلى عقولهم وإلى أخلاقهم وسلوكاتهم القيم التي كان النظام يبثّها فيهم؟ فهل نعجب إذا بدرت من بعضهم تصرفات خاطئة تنسجم مع ما زرعه النظام في نفوسهم، وإن كانوا قد ثاروا ضدّه؟!.

5- عندما عاش الشعب عقوداً من السنين، وقد حُظر عليه أن يناقش فكرة، أو ينقد تصرّفاً، أو يعبّر عن رأيه بمظاهرة سلمية أو غير سلمية، أو يشكّل حزباً سياسياً علنيّاً، أو يقيم ندوة، أو يصدر مجلة أو صحيفة، أو يُنشئ محطة فضائية... فهل ننتظر منه أن ينضوي بسهولةٍ تحت قيادة موحّدة؟. إن ما نراه من تعدّد التشكيلات السياسية التي يريد كل منها أن ينطق باسم الثورة، ويفاوض باسمها... وكذا التشكيلات العسكرية التي يريد كل منها أن يحتكر السيطرة على بقعة من الوطن... كل هذا أمر مفهوم ومتوقّع. وإن كان توحيد الصفوف، وتوحيد الكلمة، وتوحيد الموقف... أموراً مطلوبة ومَرجوَّة، وإنها إذ لم تتحقق فإن كل مَن يريد لهذه الثورة النصر فعليه أن يقول الكلمة التي تقرّب القلوب وتوحّد الصفوف وتُشيع الألفة والأخوّة.

6- كثير من أبناء الشعب، لا سيما مَن كان منهم يعيش خارج الوطن، أو أنه هاجر في أثناء الثورة، اكتفى بتأييده الثورة من وراء الميكروفون، أو من وراء اللابتوب. وليته وقف عند هذا الحد، بل إنه قد يسلُقُ المجاهدين والثائرين من هذا الفصيل أو ذاك، بلسان حادّ: يُخطّئ هذا، ويُخوّن ذاك... والمجاهدون بحاجة إلى مَن يشاركهم الجهاد في ساحة المعركة، وبحاجة إلى مَن يمدّهم بالمال، ومن يداوي جريحهم، ومن يرشدهم، ومن يوحّد صفوفهم، ومن يعلّمهم أمر دينهم حتى لا يقعوا في إفراط أو تفريط.

7- منذ أن انطلقت الثورة وحتى اليوم، نجد دولاً قريبة أو بعيدة، تعلن تأييدها للثورة، أو للطاغية الذي قامت عليه الثورة. فأما التي أيّدت الثورة فقد تفاوت مدى تأييدها عبر هذه السنين، وهي في الغالب، قدّمت للثورة كلاماً، وفي أحسن الأحوال استقبلت المهاجرين. أما التي دعمت الطاغية فقد قدّمت له السلاح المتطّور والمقاتلين، وقامت، دعماً له، بتدمير المدن والقرى، والمساجد والمدارس والمشافي... وقتل عشرات الآلاف ومئاتها.

8- كان الدعم الذي قدّمته بعض الدول، في بعض المراحل، للثوار، مشروطاً بما يوافق سياسات تلك الدول، أو سياسات الدول الكبرى التي تُملي الشروط.

9- تمكّنت دول عدّة، من زرع عملاء لها في الفصائل المجاهدة، أو في التشكيلات السياسية ولجان التفاوض... وهو أمرٌ مُؤسف لكنّه متوقَّع ولا فرار منه، إذ ما تزال الدول والكتل السياسية يتجسّس بعضها على بعض، ويخترق بعضها بعضاً. وليس الموقف الحكيم من ذلك هو التشكيك في الفصيل، وربما لم ينجُ فصيل واحد من وجود اختراق فيه. بل الصواب هو التحذير والتنبيه والنصح... حتى يحترز كل فصيل، وينفي الخَبَث عنه.

10- الشعب، بجُملته، لم يقصّر في تقديم التضحيات، وكان بحاجة إلى قبول الدعم من أي جهة كانت. لكن الوعي والإخلاص جديران بأن يحافظ المجاهدون على توجّههم، ولا يحوّلوا جهادهم لإرضاء أي جهة على حساب مصلحة الثورة.

11- ومن الجدير بالذكر أن الثورة، قبل أن تكون معركة بالسلاح، هي انقلاب على القيم الزائفة والمفاهيم الباطلة التي عمل الطغاة على نشرها في المجتمع. وقد قطعت الثورة شوطاً واسعاً في إبطال القيم الزائفة، وإحياء القيم العليا الأصيلة.

وأذكرُ مثالاً مما لمستُه في عدد من البلدات والقرى. كان الناس قبل الثورة قد تكيّفوا مع القهر والخنوع، بفعل الإرهاب الذي مارسه النظام، فكانوا يتهامسون بينهم، في مجالسهم الخاصة، فيما يرونه من تمييز طائفي، ومن قمع للحريات، ومن نشر للفساد المالي والخُلقي... لكن إذا تجرّأ رجل فأعلن كلمة حق في وجه السلطة الجائرة، وتعرّض نتيجة جرأته إلى الأذى والسجن، وربما التصفية الجسدية... كانت الألسن تلوكه باللوم أو بالإشفاق: لماذا عرّض نفسه لهذا؟ ألم يكن الأفضل له أن يلزم الصمت؟ أليس حراماً عليه أن يرمّل زوجته وييتّم أولاده؟...

أما بعد قيام الثورة، فقد وجدتُ أبناء بلدة أو قرية أو عشيرة يفخرون بما قدّموا من شهداء، ويرفعون رؤوسهم بما كابدوا من تضحيات. بل سمعتُ بعضهم يقول: والله نحن نخجل عندما نلتقي بأبناء القرية المجاورة، لقد قدّمت تلك القرية عشرين شهيداً، أما نحن فلم نقدّم سوى سبعة شهداء!.

أرأيتم كيف تبدّلت المفاهيم؟!.

إنها ثورة بحقّ. وإنها عروس الثورات.

وما ينبغي للقاعدين والمتفرّجين، سواء مَن كان معذوراً في قعوده، أو مَن لم يكن معذوراً، أن يُكثروا اللوم على أي فريق ممن يجاهد في الساحة. عليهم أن يدعموا بالجهد وبالمال وبالكلمة الطيبة وبالدعاء للمجاهدين بالوحدة والسداد والرشاد والنصر...

وإنّها لثورة منصورة بإذن الله.

(وَلَينصُرَنَّ الله مَن ينصرُه. إنّ اللهَ لقويٌّ عزيز). {سورة الحج: 40}.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين