هذه خطبة قديمة القيتها في 5/جمادى الثاني /1398هـ 12/أيار/1978م منذ أكثر من أربعين عاماً وأنا في العشرين من عمري في جامع السلام بحلب ، وكنت أحضّر الخطبة وأعدها إعداداً جيداً وأكتبها من عدة مصادر، وألقيها ارتجالاً، وقد احتفظت بهذه الأوراق بخطي الناعم الجميل، وقام الأخ الحبيب طارق قباوة بصفها ،ويذكرني بتصحيحها ويحثني على نشرها، وقد راجعت هذه الخطبة وأعيد نشرها في موقع الرابطة، وأرجو أن تكون من العلم الذي ينتفع به.
إن سنة الله تعالى في الحياة أن لا يخلو المرء فيها من كوارث تصيبه، وشدائد تحل بساحته، وإذا كانت هذه سنةَ الله تعالى في الحياة عامةً، وفي الناس كافةً، فإنَّ أصحاب الإيمان الصادق، والإسلام الخالص أشدُّ تعرضاً لنكبات الدنيا وويلاتها، إنهم يدعون إلى الله فيحاربهم دعاة الطاغوت، وينادون بالحق فيقاومهم أنصار الباطل، ويهدون إلى الخيرِ فيعاديهم أنصار الشر، ويأمرون بالمعروف فيخاصمهم أهل المنكر، وبهذا يحيون في دوامةٍ من الابتلاءات وسلسلةٍ من الفتن، إنها سنة الله الذي خلق آدم وإبليس، وإبراهيم ونمرود، وموسى وفرعون، ومحمداً وأبا جهل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ المُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112].
والمؤمنون هم أكثر الناس ثباتاً على الشدائدِ والمحن فقد عرفوا أنها من سنة الله تعالى في خلقِ الإنسان: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2]. وعرَفوا من سنن أنبيائهم، والسائرين على دربهم، والداعين بدعوتهم أنهم من أشدِّ الناس ابتلاءً فرأوا فيهم الأسوة الحسنة، فقد روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أشد الناس ابتلاءً الأنبياءُ ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صُلباً اشتدَّ بلاؤه وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة».
لابدَّ أمام هذه الفتن والابتلاءات أن يثبت المسلم فإن تمت مرحلة الابتلاء والاختبار بثبات المسلم على الحق جاءت مرحلة الظفر والانتصار.
ومن أعظم الأمور التي يجب أن يثبت عليها المسلم هي أن يثبت على عقيدته دون الافتتان بعقائد الكفر... ذلك أن وجودنا إنما هو لإقرار دين الله في الأرض وتمكين سلطانه، وتحكيم منهجه، وتنفيذ شريعته...
وإن أعداء هذا الدين على مدار القرون وممر الأجيال يناصبون الإسلام العداء، ويحاربونه حرباً لا هوادة فيها...: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} [البقرة:109]. وهؤلاء الذي لم يثبتوا على عقيدتهم وانساقوا وراء الأهواء وانبهروا بحضارة الغرب وعلمانية الشرق، فإنهم لم يأخذوا الإسلام من منبعه ولم يتلقوه من مصدره بل تلقوه من مفاهيم الناس وعادات المجتمع، وأما المؤمن فلا يساوم على عقيدته، ولو قتل وقطع في سبيلها، فهذا حبيب بن زيد الأنصاري، لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أنَّ محمداً رسول الله فيقول: نعم، فيقول أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول: لا أسمع فلم يزل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك.
وهكذا يثبت المؤمن الحق على عقيدته ولو قدَّم في سبيل ذلك روحه ويقول لمن يفتنه عن عقيدته:
فلو أزهقتم الأرواح منا فلسنا عن عقيدتنا نكف
ولسنا ندعي قولاً ولكن هو الإسلام معركة وزحف
على رُغم المعاند والمعادي لواء محمدٍ أبداً يرف
وكما طلب الإسلام من المسلم الثبات على الإسلام عقيدةً، طلب منه أن يثبت أمام متاع الحياة الدنيا، بما فيها من أموالٍ وأولاد وفساد: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15]. وكم من المسلمين اليوم من ابتلي وفتن بأولاده فأقرهم على ترك الطاعات، وسكت عنهم في فعل المعاصي والمخالفاتِ... وكم فيهم من ابتلي وفتن ببناته، فخرجن سافرات عاريات، وأقرهنَّ على الانطلاق من قيود الحلال والحرام... والمسلم الصادق لا تفتنه الدنيا بما فيها من متاع وأموال وأولاد ونساء.
وهذا سيدنا يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام يثبت أمام فتنة النساء وفتنة الملك والقصر: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] . لقد امتحن بهذه المرأة التي اندفعت دون أن تحفل بحياء أنثوي، ولا كبرياء ذاتي، ولا فضيحة عائلية... ولكنَّ يوسف اجتاز الفتنة بثبات وصبر: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الجَاهِلِينَ} [يوسف:33].
وهذا التابعي الجليل عبيد بن عمير وقد أتته امرأة جميلة، تريد أن تفتنه عن دينه وصلاحه فأخرجها من أن تكون فاتنة من الفاتنات إلى عابدة من العابدات... فقد استأذنت زوجها لتفتن هذا الرجل فأذن لها، فأتته فاستفتته في المسجد، ثم أسفرت عن مثل فلقة القمر، فقال لها: يا أمة الله اتقي الله، قالت إني قد فتنت بك فانظر في أمري، قال: إني سأئلك عن شيء فإن أنت صدقتِ نظرت في أمرك، قالت لا تسلني عن شيء إلا صدقتك، قال: أخبريني لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك أكان يسُّرُكِ أني قضيتُ لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقتِ. قال: فلو أردت الممرَّ على الصراط ولا تدرين أتنجين أم لا تنجين أكان يَسرُّك أني قضيت لك هذه الحاجة ؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت. قال: فلو وقفت بين يدي الله للمسائلة أكان يسركِ أني قضيتُ لك هذه الحاجة ؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت. فاتقي الله يا أمة الله، فقد أنعم الله عليكِ، وأحسن إليك، قال: فرجعت إلى زوجها فقال لها: ما صنعتِ ؟ قالت: أنت بطَّال ونحن بطَّالون، فأقبلت على الصوم والصلاة، والعبادة. فكان زوجها يقول: مالي ولعبيد بن عمير أفسد عليَّ امرأتي، كانت كلَّ يوم عروساً، فصيَّرها راهبة.
ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذيفة السهمي أحد الصحابة رضوان الله عليهم أنه أسرته الروم، فجاءوا به إلى ملكهم، فقال له: تَنَصَّر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي. فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت. فقال: إذن أقتلك، فقال: أنت وذاك. قال: فأمر به فصلب، وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى. ثم أمر به فأنزل. ثم أمر بقدر. وفي رواية: بقرة من نحاس فأحميت، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر فإذا هو عظام تلوح. وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها. فرفع في البكرة ليلقى فيها فبكى. فطمع فيه ودعاه. فقال: إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله.
وفي رواية أنه سجنه، ومنع عنه الطعام والشراب أياما، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير، فلم يقربه، ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: أما إنه قد حل لي، ولكن لم أكن لأشمتك في. فقال له الملك: فقبل رأسي وأنا أطلقك. فقال: تطلق معي جميع أسارى المسلمين، فقال: نعم. فقبل رأسه، فأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده. فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ. فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما.
ذلك أن العقيدة أمر عظيم، لا هوادة فيها ولا ترخص، وثمن الاحتفاظ بها فادح، ولكنها ترجحه في نفس المؤمن، وعند الله. وهي أمانة لا يؤتمن عليها إلا من يفديها بحياته وهانت الحياة وهان كل ما فيها من نعيم».
وهذا ثابت بن قيس نموذج آخر من نماذج الصبر والثبات.. وقد خرج فيمن خرج لقتال مسيلمة الكذاب في اليمامة فلما انكشف الناس يوم اليمامة تحنَّط وقال: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ومما صنع هؤلاء، ثم تحنط وجعل لنفسه حفرة فدخل فيها وقاتل حتى قتل.
ما هو سر ثبات أولئك القوم: لقد كانت تزف لهم الدنيا بنسائها ومالها وشهواتها فيثبتون، ذلك أنهم عبدوا الله حق عبادته..وما عبدوه من أجل الدنيا، فمن عبد الله ابتغاء منفعة دنيوية أو متاع رخيص ثم لم يجد سعة الدنيا انقلب على عقبيه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل:92].
جاء رجل من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذهب بصره وماله بعد إسلامه فقال: إني لم أصب في ديني هذا خيراً، ذهب بصري، ومالي وولدي، فقال: يا يهودي! إن الإسلام يسبُك الرجال كما تسبك النار خبَث الذهب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً، ونتجت خيله قال: هذا دين صالح، فإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء... وفي أمثال هؤلاء أنزل الله تعالى قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ} [الحج:11].
فلا يكون الثبات إلا لمن أخلص لله تعالى... ولا يكون الثبات إلا لمن سلك طريق الإسلام، وقد تأتي على المؤمن لحظات من الضعف في هذا الطريق... فإنَّ الله تعالى قد تكفَّل بتثبيته ما دام على هذا الطريق: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
وإننا إذ نعيش جواً من الفتن والابتلاءات لابدَّ أن نوصي أنفسنا بالثبات، ولا سبيل للثبات إلا بالانضمام إلى الجماعة المسلمة، والبعد عن جو الفتنة و الضلال وجو الأنظمة الكافرة، فقد روى البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر قال: نعم، قلت: وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن ). قلت: وما دخنه ؟ قال: ( قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر ). قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال: ( نعم دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ). قلت: يا رسول الله صفهم لنا ؟ فقال: ( هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ). قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال (فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»
وروى الإمام مسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من يخذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» فلنكن ثابتين على المبدأ مع جماعة الحق، مهما كلفنا ذلك من ثمنٍ حتى نرى راية: لا إله إلا الله محمد رسول الله قد خفقت في سماء الدنيا عزيزة كريمةً.
إنه لابدَّ من الثبات... إنها سنة العقائد والدعوات... إنه طريق الجنة الذي حُفَّ بالمكاره إنه طريق التطهر والتعفف، والمصابرة والمرابطة والصبر والثبات، وعندها يكون النصر والظفر.
{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ} [البقرة:250]
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
نشرت 2012 وأعيد نشرها وتنسيقها 6/4/2020
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول