التوبة والاستغفار

 

يَروي علقمةُ الأسود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، أنه قال: في كتاب الله عزَّ وجل آيتان ما أذنبَ عبدٌ ذنباً فقرأهما، واستغفر الله عزَّ وجل إلا غفر الله تعالى له: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].

وقوله عزَّ وجل: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110].

ولقد قال صلى الله عليه وسلم في شأن الاستغفار الخالص فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أكثَرَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [أخرجه أحمد، وابن ماجه، وأبو داود، والحاكم وصحَّحه. وقال الذهبي: الحكم بن مصعب فيه جهالة].

وهذا الحديث الشريف يَسير في انسجام مع قوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)} [الجن].

وقوله تعالى على لسان نبيِّ الله هود صلى الله عليه وسلم: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود:52].

والاستغفار مُستحب في كل الأوقات، وإن لم يكن ذنب، يقول الله تعالى في إطلاق لا تحديد له: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3].

ومع هذا الإطلاق العام فإنَّ الله سبحانه وتعالى ذكر (الأسحار) باعتبارها من الأوقات التي يستغفر فيها المتَّقون، ومن أجل ذلك فإنَّ الذين يَستيقظون في ثُلث الليل الأخير حريصين على انتهاز فرصة نزول ربنا إلى سماء الدنيا مُنادياً فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللهَ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ، نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ" [أخرجه مسلم].

يخصصون دائماً أوقات الأسحار للاستغفار، مع استغفارهم كلما تفضَّل الله عليهم بتهيئة الفرصة لاستغفاره يقول تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)} [آل عمران].

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في استغفاره فيما رواه الشيخان عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَئِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ». 

ومن دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الجميل عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: " اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الَّذِينَ إِذَا أَحْسَنُوا اسْتَبْشَرُوا، وَإِذَا أَسَاءُوا اسْتَغْفَرُوا " [أخرجه أحمد، وابن ماجه، والبيهقي في شعب الإيمان. وَفِيه عَلّي بن زيد بن جدعَان مُخْتَلف فِيهِ]. 

وسيد الاستغفار هو ما رواه شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ " قَالَ: «وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ» [أخرجه البخاري]. 

ويروي الإمام الغزالي رحمه الله عن بعض العلماء أنَّه قال: (العبد بين ذنب ونعمة لا يصلحها إلا الاستغفار والحمد)، ويروى عن قتادة رحمه الله قوله: (القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، أما داؤكم فالذنب، وأما دواؤكم فالاستغفار).

صلاة التوبة:

ومما بين على قبول التوبة إن شاء الله القريب المجيب، الرحيم الودود، أن يصلي الإنسان، بين يدي توبته، صلاة التوبة، وهي – في أصحِّ رواياتها كما يلي: عن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له، ثم قرأ هذه الآية:{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ }[آل عمران:135]. [أخرجه أحمد، وابن ماجه، والترمذي].

فإذا ما كان الاستغفار، وتوفرت بقية شروط التوبة أصبح الإنسان في درجة البراءة من الذنوب والآثام. 

وإنَّ مِن حصانة الرأي، واتزان العقل أن يُعجل الإنسان بالتوبة الخالصة النصوح حتى لا تحيط به الخطيئة فيكون من الخاسرين، وذلك أنَّ السيئة تترك أثراً أسود أو نقطة سوداء في القلب، وهذه النقطة السوداء تسهل الإقدام على المعصية الثانية، وهكذا، كلما كَثُرت النقط السوداء وكلما اتسعت ظلمة القلب، سهلت المعاصي والذنوب، حتى تعمَّ الظلمة القلب كله، وهنا تكون إحاطة الخطيئة التي يقول الله تعالى في صاحبها: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: 81].

ومثل هذا، لا رجاء في نجاته والعياذ بالله، فعلى الإنسان أن يعجِّل بالتوبة حتى ينجو من إحاطة الخطيئة، وحتى ينجو من عذاب الله، وحتى ينجو من الشقاء الذي يُحيط بالإنسان بسبب معاصيه.

والتوبة أنواع:

منها توبة العامَّة: وهي من الذنوب والآثام وهي فرضٌ على المذنب.

ومنها وتوبة الصالحين: وهي من الغفلة عن الله إنَّهم لا يذنبون، فتوبتهم إنَّما هي من الغفلة.

أما الدرجة العليا من التوبة: فهي توبة المقرَّبين وتوبة الأنبياء والرسل، وهم لا يتوبون من المعاصي ولا من الغفلة، وإنما يتوبون توبة عبادة، إنَّهم يتوبون لأنَّ الله تعالى أمر بالتوبة وهم يكثرون من التوبة؛ لأنَّ الله سبحانه يحب الرجوع إليه في كل حين.

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوب إلى الله و يستغفره في كل يوم مرات تتراوح بين السبعين والمائة، ولقد حقَّق بذلك طريقاً من الطرق الكثيرة إلى حب الله، يضاف إلى الطرق الأخرى التي سلكها لحبه سبحانه، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ }[البقرة:222]. أي: يحب الذين يَرجعون إليه كثيراً، وفي كل حال، تائبين توبة عبادة مُتطهرين تطهر تَرَقٍ.

فإذا ما كانت التوبة الخالصة النصوح، فقد تمَّ الصلح مع الله سبحانه، ومتى تمَّ الصلح مع الله سبحانه فإنَّه يُهيئ للإنسان أسباب الطمأنينة في الدنيا والآخرة.

أما في الدنيا فإنَّ ذلك يكون في صور كثيرة منها:

1 – سعة الرزق، وقد رأينا أنَّ الله سبحانه رتَّب على الاستغفار الخالص، سعة كبيرة في الرزق: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:12]. وأيضاً: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود:52]، كل ذلك بسب الاستغفار الخالص.

2 – وما من شك في أنَّ الخير يُعدي كما أنَّ الشر يعدي، فإنْ أصلح الله أمر إنسان بالتوبة فإنَّ المحيط به من ابن وابنة وزوج وإخوة، يعديهم الخير قليلاً أو كثيراً فيتأسَّون بالتائب، كل بحسب استعداده.

3 – وإذا أصلحت ما بينك وبين الله أصلح الله ما بينك وبين الناس.

4 – وإذا أكثر الإنسان من التوبة فإنَّ الله يحبه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} أما إذا نظرنا من زاوية الآخرة فإنَّ التائب قدَّم الوسيلة للمغفرة وسلك السبيل للبراءة، وليس ذلك بالأمر الهيِّن. ويبقى بعد ذلك أن يملأ صحيفته البيضاء بصالح الأعمال.

هذا وبالله التوفيق.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة الجديد 15 سبتمبر 1977 - العدد 137).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين