التوازن والشمول، والواقعيّة والإيجابيّة

التوازن والشمول، والواقعيّة والإيجابيّة

أساليب تربوية ومفاهيم دعوية من حياة الشيخ أحمد عز الدين البيانوني

د. عبد المجيد أسعد البيانوني

 

ممّا لاحظه الشيخ رحمه الله على منهج كثير من المعاصرين له: الأخذ ببعض الأمور الشرعيّة، والاهتمام بها، والتمسّك بها، والحرص عليها في حديثهم في كلّ مجلس أو مناسبة، وإهمال أخرى، قد تكون أهمّ منها وأولى.. إمّا لأنهم أخذوا ذلك عمّن قبلهم من المشايخ، وألفوه بهذه الصورة، أو إيثاراً للبعد عن مخالفة الناس، فيما اعتادوه وعرفوه.. فكان من وراء ذلك إهمال كثير من أحكام الشريعة وتعطيلها، في أبناء الفئة الموصوفة بالصلاح، التي تلتفّ حول المشايخ، وتنتسب إليهم، وقد تكون تلك الأحكام على درجة كبيرة من الحيويّة والأهمّيّة الاجتماعيّة..

كما لاحظ رحمه الله أنّ نشاط كثير من المشايخ قاصر على فئة محدودة من أبناء الأمّة، من العامّة وأشباه العامّة، وبعيد عن الفئات الأخرى المتعلّمة المثقّفة، ولو كانت من أبناء تلك الفئة، ومَن هم أقرب الناس إليها..

كما أنّ هذه المناهج والأساليب المتّبعة، لا تتناسب مع عقليّة الناس وتوجّهاتهم في هذا العصر، وبخاصّة أولئك الشباب الذين تربّوا في المدارس العصريّة، وتلقّوا علومها ومناهجها، واتّصلوا بالثقافة الغربيّة، وسمعوا بالمبادئ والنظريّات المختلفة المتضاربة، التي تهبّ رياحها العاتية من هناك، فلا تدع بقعة من المعمورة إلاّ وصلتها وأثّرت فيها..

ومن هنا فقد حرص رحمه الله أن يتحقّق في منهجه التربويّ والدعويّ من المزايا والصفات ما يجعل دعوة الحقّ تتفتّح لها القلوب، وتستجيب لها النفوس، بل تجد فيها بغيتها المفقودة، وضالّتها المنشودة..

ولعلّ عمل الشيخ في المدارس العصريّة، وما أتاح له من اختلاط بالجيل الجديد من الشباب، وهو القادم من المسجد، ومن تربية المشايخ، وما عُرف من أساليبهم واهتماماتهم عَمّق في نفسه ضرورة تطوير الخطاب الدعويّ بما يتناسب مع متطلّبات العصر ومشكلاته.. ممّا جعله ينظر إلى تلك المناهج التي عاصرها، والأساليب التي رآها، بل وتربّى بها على أنّها اجتهادات من أولئك المشايخ الدعاة، لا يتحتّم علينا أن نتقيّد بها، ولا نخرج عنها.. لقد حرص على المضمون، ولم يقف عند الشكل، وتمسّك بالأصول، ولم يقف عند الجزئيّات والفروع.. ولقد وضع بكلامه وموقفه مناهجهم وأساليبهم بذلك في إطارها الصحيح، ولكنّه في نظر أتباعها أحدث حدثاً لا يستهان به، ممّا دفع بعضهم إلى القول: " إنّه خرج عن (الطريق.! ) ".

وانطلاقاً ممّا سبق فقد صاغ الشيخ رحمه الله منهجاً دعويّاً عمليّاً، يناسب الواقع، ويلبّي احتياجاته، ويكون إيجابيّاً فاعلاً في خطاب الجيل الجديد، وتعريفه بدينه..

فهل نجح الشيخ في الوصول إلى هدفه الذي أراد.؟

لقد أقبل الشباب بمختلف مستوياتهم وأعمارهم على دعوة الشيخ وإلى المسجد، إقبالاً بذلوا في سبيله كلّ غالٍ ونفيس، وخرجوا عن حظوظ أنفسهم الغضّة، المتفتّحة لزهرة الحياة الدنيا وزينتها، وقاوموا التيّار المعاكس في كلّ ميدان، بقوّة وعزيمة بهرت أنظار الناس، وبخاصّة أولئك المراهنين على هزيمة الإسلام في هذا العصر فيما يزعمون، عصر العلم والتقدّم، ورايات الفتن والتقنيّة المتحرّرة.. فماذا وجد الشباب في هذا المنهج.؟

لقد وجدوا فيه دعوة الفطرة التي تهفو إليها قلوبهم، وتتعطّش إليها عقولهم، وتحقّق الراحة النفسيّة والسكينة لأرواحهم، في مجتمع كثرت فيه الدعوات، وارتفعت الرايات، وحار الناس أمام مختلف الاتّجاهات والمسارات..

ووجدوا فيه الأسلوب المعاصر الذي يحسن خطابهم وحوارهم، مع الدعوة إلى التمسّك بالإسلام في صورته النقيّة الصافية، واتّخاذه منهجاً للحياة في كلّ شأن..

ملامح ومعالم من منهجه الدعوي والتربويّ:

ولا يتّسع لنا المقام هنا لعرض منهجه الدعوي والتربويّ ببسط وتفصيل، وإنّما نعرض ملامح موجزة، ومعالم عامّة تدلّل على ما قلت وتثبته، فمن أهمّ هذه الملامح والمعالم:

1 ـ الاهتمام بتربية الفرد والأسرة على مبادئ الإسلام وقيمه وآدابه.

2 ـ محاسبة النفس فرديّاً وجماعيّاً، على التمسّك بآداب الإسلام وفضائله، باعتماد وصايا إسلاميّة مقرّرة لكلّ مرحلة، تحقيقاً للتعاون على البرّ والتقوى، ولأنّ الإنسان ينشط بإخوانه، ويضعف بنفسه..

3 ـ الحرص على إحياء السنّة النبوّية في كلّ شأن، والتمسّك بها كما يتمسّك بالفرائض، والأخذ بالعزائم بوجه عامّ، والبعد عن التساهل وتتبّع الرخص.

4 ـ الذكر بما يتناسب مع نشأة الشابّ وظروفه وواجباته، وكان يتخيّره من الذكر المأثور، ولم ير الشيخ أن يكلّف الشابّ من الأذكار الكثيرة ما يجعله يقصّر في واجباته الأخرى..

5 ـ ملء فراغ الشباب بالنافع المفيد، بما يتناسب مع كلّ مرحلة من أعمار الشباب ومستوياتهم.

6 ـ الاهتمام بالرياضة بمختلف أنواعها ومجالاتها، انطلاقاً من حرص الإسلام على صحة الجسد وقوّته، واهتمامه بها.

7 ـ اعتماد العلوم الشرعيّة منهجاً فكريّاً ودعويّاً وتربويّاً، ممثّلة بعلوم القرآن الكريم، والسنّة النبويّة، والسيرة الشريفة، وفقه المذاهب الأربعة.

8 ـ تقريب العلوم الشرعيّة باعتماد الكتب الفقهيّة والفكريّة المعاصرة

9 ـ الأخذ بالوسائل الدعويّة والتربويّة المناسبة لتربية الشباب ورعايتهم: كالاعتكاف في رمضان، والإحياء لبعض الليالي، وإقامة المخيّمات الصيفيّة، والخروج إلى المتنزّهات، والزيارات في الله، وغير ذلك..

وكان يرى الالتزام بهذا المنهج الذي هداه الله إليه أشبه بالواجب المؤكّد، لا يسع أحداً أن يخرج عنه إلاّ مضطرّاً، وذلك لما رأى من آثارها الكبيرة الظاهرة في تربية الشباب، واستنهاض هممهم وعزائمهم..

وتنزيلاً على هذه الحقائق، فقد كان الشيخ يأبى أن يستجيب لأحد من إخوانه إذا طلب منه ما يخرج عن منهجه المرسوم، وخطّته المتّزنة: أذكر أنّ بعض الإخوة طلب منه أن يزيده على الأذكار المطلوبة من الإخوة في مرحلته، وطلب منه نوعاً محدّداً من الذكر، فلم يستجب له الشيخ، وأكّد عليه أن يحرص على النوعيّة المتقنة، ويهتمّ بواجباته الأخرى، فهو خير له من أن يحرص على كمّ أكثر، ثمّ لا يستطيع المحافظة عليه، أو يفرّط في سبيله بواجبات أخرى..

وانسجاماً منه رحمه الله بين فكره ومنهجه، وسلوكه وعمله، وكذلك كانت حياته كلّها.. فقد كان يشرف على تنفيذ هذا المنهج بنفسه، بكلّ ما فيه من جوانب، ويشارك فيه مشاركة إيجابيّة فعّالة، وكان لذلك أثره الكبير في نفوس الإخوة المشاركين.. وما كان يظنّه بعض الشباب من برامج ترفيهيّة في الرحلات والمخيّمات، أو يحاولون أن تكون كذلك، كان يدعوهم إلى تصحيح نيّتهم فيها، ويقول لهم: " إنّها عبادة أحبّ إلى الله تعالى من نوافل العبادات.. ".

وكان كثير من الإخوة يشعرون في المخيّمات الصيفيّة بلذّة روحيّة عارمة، لا تزيد عليها لذّة الحجّ أو الاعتكاف، إن لم تزد تلك عليها..

ولله تلك الأيّام ! التي عشناها معه رحمه الله في المخيّمات.! ما أمتعها ! وما أهناها ! كان يصلّي بنا في الليل ركعات من التهجّد، فيغلبه الخشوع ويبكي، ويصلّي بنا الفجر فيبكي، ويخشع لخشوعه الشباب، ويبكي الباكون ويتأثّرون.!

ولا تسل عن خبره في الاعتكاف في رمضان.! فما راءٍ كمَن سمِعا، وذاك أمر يحتاج أن يفرد بالحديث عنه، وتسلّط الأضواء عليه.!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين