التنوير المظلم (5)

علي منصور كيالي (الجهل المركب)

نحن اليوم مع نمط من التنويريين طريف، كلامه أقرب للهزل عند سامعه، وإن كان في منتهى الجد عند قائله، ذلك أنه يدعي دعاوى عريضة لا يدعيها فطاحل العلماء ولا جهابذة المفسرين ولا أقطاب اللغويين، وحين يتكلّم في المادة المدعاة يهولك مبلغ الجهل، ويروعك مدى التخليط، حتى تحسبه هازلاً وهو جاد..

لن أتعرّض للشذوذات العقائدية والفقهية والتفسيرية التي أتى بها الكيالي كإنكاره للسنة إلا ما وافق عقله وهواه، ورده لأحاديث أجمعت الأمة على صحتها، وكإنكاره لعذاب القبر وللصراط والميزان وليأجوج ومأجوج، لن أتعرض لكلّ هذا لأن هناك من ردّ عليهاً ردوداً وافية كبرنامج (قرار إزالة) وقناة (مكافح الشبهات)، ولكنني سأعرض لأغلاطه الشنيعة في قراءة القرآن ولجهالته المريعة باللغة العربية.. ووالله لم أكن لأكلف نفسي عناء بيان هذه الطامّات لو كان صاحب هذه الأغلاط ممَّن لا يتعرض لعلوم الشريعة ويتصدى لتفسير القرآن مدَّعياً الاستنباط والاجتهاد، وأنّ تفسيره للقرآن هو الصحيح وما سواه باطل، ولا سيّما أنّه أضلّ بهذه الجهالات كثيراً من الذين ليس لديهم من العلم ما يكشفون زَيفها، ويتبينون بطلانها.

فلنبدأ بمصداق ذلك من بعض الأمثلة التي سمعتُها بأذنيّ، وشاهدتها بعينيّ، صوتاً وصورة من مقاطعه المنتشرة على اليوتيوب..

يدَّعي الكيالي أنه يحفظ القرآن بالقراءات منذ كان عمره خمس سنوات، وأنه خبير لغوي بلغة القبائل، وأنه يفسر القرآن ويستنبط منه ما لم يستنبطه أحد من علماء المسلمين.. فكيف تسلم له هذه الدعوى وفي قراءته للقرآن أغلاط فاحشة جداً لا يقع فيها طالب متوسط المستوى في حلقة تحفيظ في مسجد صغير في قرية نائية:

من ذلك: قرأ آية البقرة (مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَایَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَیۡرٍ مِّنۡهَاۤ أَوۡ مِثۡلِهَاۤ) فقال (ما ننسخُ من آية أو ننسها) برفع الفعل (ننسخ) وهو مجزوم كما هو معلوم لأنه فعل الشرط.. ثم زاد الطين بِلّة ليُظهر علمه بالإعراب فأعرب (ما) استئنافية.. وهذا اختراع في الإعراب لم يسبقه إليه أحد، ويجدر أن تسمى (ما الكيالية)

قرأ (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) فاستنتج أنه حضر وفاة إبراهيم ثلاثة أشخاص (ابناه: إسماعيل وإسحاق، وحفيده: يعقوب) على اعتبار بنيه: مثنى؟؟!!.. فلعله خلط بين (بنيه) التي هي جمع (وابنيه) التي هي مثنى..ثمّ على اعتبار (يعقوب) منصوباً مفعولاً به.. وهو مرفوع على أنه مبتدأ.. فكان ذلكم التفسير المبني على الجهل بأبسط قضايا اللغة والله المستعان.. فكيف يؤتمن من كان هذا مبلغه من علم العربية على تفسير القرآن العظيم؟

قرأ آية آل عمران (إِنَّ ٱلَّذِینَ یَشۡتَرُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَأَیۡمَـٰنِهِمۡ ثَمَناً قَلِیلًا) فقال: (إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلاً) فغيّر لفظة (أيمانهم) التي هي جمع يمين بمعنى القسم إلى (إيمانهم) التي هي مصدر آمن.. وعندما بيّن له أحدهم جهله وأن الصحيح (أيمانهم) وليس (إيمانهم) أخذته العزَّة بالإثم وأصرّ على أن قراءته هي الصحيحة؟؟ وأن المعنى يستقيم بها.. فهل وصل الأمر إلى هذا الحدّ.. أن يُصَحّحَ القرآنَ المتواتر، بالجهل المُكابِر؟؟

ادَّعى أن قرّاء القرآن في الدنيا كلها يُخطئون في قراءة قوله تعالى: (لَا ٱلشَّمۡسُ یَنۢبَغِی لَهَاۤ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّیۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ) لأنهم يحذفون ألف (لا) قبل كلمتي (الشمس والليل) ؟؟!!! وأن القراءة الصحيحة (لااااااـ ومدّ الألف طويلاً- ألْشمش ـ وقطع همزة الوصل في أل التعريف) فهل في الجهل أجهل من هذا.. ثمّ زاد على ذلك أن قال: إن القراء عندما يحذفون الألف تصير اللام هنا (لام التوكيد الثقيلة) فهل سمعت بهذه اللام من قبل؟؟ لا يهم أن تسمع أو لا تسمع فالذي يخترع (ما الاستئنافية) لا يعسر عليه ابتداع (لام التوكيد الثقيلة).

قرأ آية الإسراء (یَوۡمَ نَدۡعُوا۟ كُلَّ أُنَاسِۭ بِإِمَـٰمِهِمۡۖ) فقال (يوم ندعو كلُّ إناس بإمامهم) فرفع لفظة (كلَّ) لكنّه لم يُتحفنا بإعرابها لنزداد علماً.

قرأ آية المدثر (إِنَّهَا لَإِحۡدَى ٱلۡكُبَرِ) فقال: (إنها لَإحدى الكِبَر) فصارت (الكُبَر) التي هي العظائم من العقوبات (الكِبَر) التي هي التقدم في العمر.. فاسمع واعجب

قرأ آية النساء (وَمَن یَقۡتُلۡ مُؤۡمِناً مُّتَعَمِّداً) فقال (متعَمَّدا) فصار اسم الفاعل اسم مفعول بقدرة كيالية..

وقرأ (لَهُمۡ جَزَاۤءُ ٱلضِّعۡفِ) فقال: (الضُّعف) بضم الضاد فانقلب المعنى تماماً من مضاعفة الجزاء إلى كونه ضعيفاً .

وقرأ (فَأَنظِرۡنِیۤ إِلَىٰ یَوۡمِ یُبۡعَثُونَ) فقال: (وانظُرني) فصار الإنظار الذي هو الإمهال نظراً.

وقرأ (وَمَن یَبۡتَغِ غَیۡرَ ٱلۡإِسۡلَـٰمِ دِیناً) فقال: (الإسلامَ) بالنصب وربما كان هذا من اختراعاته الإعرابية، إذ يمكن إعرابه على الطريقة الكيالية (مضاف إليه منصوب).

وقرأ (ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِیعَةٍ) فقال: (لننزَعَنّ) ولا أعلم معناها.

وقرأ (هُوَ ٱلَّذِی یُصَلِّی عَلَیۡكُمۡ وَمَلَـٰۤئكَتُهُۥ) فقال: (وملائكتَه) بالنصب.

ومن الطرائف أنه ينسى الآية بلفظها الصحيح فيرتجل من عنده ألفاظاً أخرى و(يُمَشّي الحال).. فمثلاً أراد أن يقرأ قوله تعالى: (لَهَا سَبۡعَةُ أَبۡوَ ٰ⁠بٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنۡهُمۡ جُزْءٌ مَّقۡسُومٌ) فاختلطت في ذهنه الألفاظ فقال: (لها سبعة أبواب لكل قسم منهم جزء معلوم) وربّ يسّر، وأراد أن يقرأ (مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَـٰتُ ٱللَّهِۚ) فقال: (ما نفدت كلمات الرحمن) وما الضير كلّها أسماء حسنى؟، وأراد أن يقرأ (وَلَئن لَّمۡ یَفۡعَلۡ مَاۤ ءَامُرُهُۥ لَیُسۡجَنَنَّ) فقال: (وإلا يفعل ما آمرَنَّه ليسجنن) فلو فرضنا أنه يروي الآية بالمعنى – وهذا لا يجوز طبعاً – فكيف سمحت له سليقته اللغوية وهو العالم بلغة القبائل أن يُلحق نون التوكيد الثقيلة بالفعل المضارع بدون أي مسوّغ فقال (آمرَنَّه)؟؟؟!!!

والأطرف من ذلك أن تسمعه عندما يخلط بين آيتين فيركب منهما آية جديدة، فقد أراد أن يقرأ: (وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَشۡتَرِی لَهۡوَ ٱلۡحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ بِغَیۡرِ عِلۡمٍ وَیَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ) فقال: (ليُضل عن سبيل الله ويبغونها عوجاً)..

وأشد طرافةً من كلّ ما سبق أنّه عمل بعض الحلقات لتعليم النحو وقال إنه ينطلق فيها من قوله تعالى: (ومما رزقناهم يُنفقون) فهو يُنفقُ ممّا رزقه الله من علم العربية ليُسهّل على الطلاب علم النحو، وأنه لا يريد منهم جزاء ولا شكوراً.. فأتى بهذه الحلقات بمصائب وطوامّ تضحك الثكالى.. فمثلاً: أراد أن يشرح كيف يكون الاسم معتلّ الآخر.. فقال يكون الاسم معتلّ الآخر عندما يكون في آخره أحد أحرف العلة (الألف أو الواو أو الياء) واعتلال آخر الاسم بالواو اختراع كيالي لم يُسبق إليه، فالذي يعرفه كلّ طلاب المدارس أن الاسم يعتلّ آخره بالياء فيسمى منقوصاً (كالقاضي) أو بالألف فيسمى مقصوراً (كالفتى) أما أن يكون معتلّ الآخر بالواو فهذا من المكتشفات الكيالية التي خفيت عن سيبويه وابن هشام.. وعندما أراد التمثيل للاسم المعتلّ الآخر بالواو قال (وذلك مثل: عمرو، وسرو) فظن المسكين أن الواو في آخر عمرو حرف علة وطلاب الابتدائية يعلمون أنها واو تكتب ولا تلفظ وضعت للتفريق بين (عَمْرو) و(عُمَر) أما كلمة (سَرْو) فما قبل الواو ساكن وليكون الواو حرف علة يجب أن يكون ما قبله مضموماً.. هذه بدهيات في ألف باء العربية يجهلها العالم المفسر الفقيه الأصولي النحرير.. فعش رجباً، ترَ عَجَباً.

وهذا من أوضح أمثلة الجهل المركّب:

جهلتَ ولم تعلمْ بأنّك جاهلٌ *** فمن لي بأن تدري بأنّكَ لا تدْري؟

#علي_منصور_كيالي

#الجهل_المركب

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين