التنوير المظلم (٢)

طه حسين

من طلائع أبواق المستشرقين ودعاة التغريب من سُمّيَ زوراً وبهتاناً عميد الأدب العربي.. وهو في الحقيقة لم ينل هذا اللقب إلا لأنه ردد كالببغاء أفكار الباحثين الغربيين من أمثال: اليهودي مرجليوث – ودور كايم – وبوردنير - ولويس ماسينيون – وهاملتون جب – وبول كازانوفا.. وترجم أشعار الفرنسي بودلير الإباحية والقصص الفرنسية الماجنة ونشرها بين المسلمين.. وكان من أكبر دعاة التغريب وانسلاخ الأمة عن هويتها التي أساسها الإسلام.. وقد كان ذلكم اللقب (عميد الأدب العربي) كالثوب الفضفاض على القزم الهزيل وإلا فقد كان في زمانه عمالقة أحق به منه.. ولكنّ كلّ من يأتي بمثل ما أتى به تُفَتَّح له الأبواب، وتُلَيَّنُ له الصعابْ، وتُمَهَّد له السُبل، وقد اعتبره الكثيرون ممّن يُطربهم نعيق غربان التغريب من أول طلائع الفكر التنويري الذي سميناه من قبل (التنوير المظلم) مع أنه كما قدّمنا لم يفعل شيئاً أكثر من نقل شبهات من ذكرنا بعضهم آنفاً ومطاعنهم في الإسلام وأنّ القرآن ليس إلا كتاباً من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم.. ولو ذهبنا نستقصي هذه الأفكار لطال بنا الأمر جداً وأكتفي ببعض الأمثلة التي تجلو حقيقة الرجل..

لقد تلقّى طه حسين من اليهودي (مرجليوث) فكرة أنّ الشعر الجاهلي كلّه موضوع مصنوع بعد الإسلام.. ولم تكن الغاية الحقيقية من وراء ذلك إلا الطعن في القرآن الكريم والتشكيك في لغته وبلاغته.. لأن شعر العرب في الجاهلية من أهمّ المرجعيات في دراسة بلاغة القرآن ولغته.. ونشر طه حسين هذه الفكرة في كتابه (في الشعر الجاهلي) سنة ١٩٢٤ وثارت حوله معارك طاحنة سجّلها الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي في كتابه (تحت راية القرآن)..

يقول طه حسين في هذا الكتاب:

(للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها. ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى.) [في الشعر الجاهلي – طبعة دار المعارف بتونس - ص ٣٨] .. فهل هناك أصرح من هذا في تكذيب أن القرآن وحي من الله.. إذ لا يكفي أن يتحدث القرآن عن إبراهيم وإسماعيل لإثبات أنهما موجودان تاريخياً.. وهل هذا الكلام إلا صياغة أخرى لقول المشركين عن القرآن (إن هذا إلا أساطير الأولين).. ثمّ إن ذِكر القرآن لقصة إبراهيم وإسماعيل اختلاقاً – والعياذ بالله – كان (نوعاً من الحيلة) ليتقرب العرب من اليهود.. فيا للعجب كيف يصنع الحمق بأهله.

إلى أن يقول (أمر هذه القصة إذن واضح فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام واستغلّها الإسلام لسبب ديني, وقبلتها مكة لسبب ديني وسياسي أيضاً, وإذن فيستطيع التاريخ الأدبي و اللغوي ألا يحفل بها عندما يريد أن

يتعرف أصل اللغة العربية الفصحى) [في الشعر الجاهلي – طبعة دار المعارف بتونس - ص ٤١] .. فليس هناك وحي ولا تنزيل بل اختلاقات افتريت لاستغلالها دينياً وسياسياً..

ويقول في محاضرة أملاها على طلابه في الجامعة سنة ١٩٢٧: (وصلنا في المحاضرة الماضية إلى موضوع اختلاف الأساليب في القرآن. وقررنا أنه ليس على نسق واحد, واليوم نوضح هذه الفكرة فنقول: لا شك أن الباحث الناقد, والمفكر الجريء, الذي لا يفرق في نقده بين القرآن وبين أي كتاب أدبي آخر, يلاحظ أن في القرآن أسلوبين متعارضين لا تربط الأول بالثاني صلة ولا علاقة, مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذا الكتاب قد خضع لظروف مختلفة, أو تأثر ببيئات متباينة. فمثلاً نرى القسم المكي منه يمتاز بكل مميزات الأوساط المنحطة, كما نشاهد أن القسم المدني أو اليثربي تلوح عليه أمارة الثقافة والاستنارة) [نص المحاضرة أورده النائب الدكتور عبدالحميد سعيد في بيانه في مجلس النواب في دورة سنة ١٩٣٢ م في جلسة لمناقشة أفكار طه حسين].. فكاتب القرآن إذاً تأثر بالبيئة التي عاش فيها فلا وحي ولا تنزيل.. وباقي المحاضرة على هذا النسق من الوقاحة والافتراء..

ويقول في كتابه (من بعيد) : (ومع ذلك ففي باريس آلهة يستحقون أن يتقدم إليهم الإنسان بالصلاة كما تقدّم (رينان) إلى آلهة الحكمة في مدينة أثينا) [من بعيد - ص ١٢٩] فتأمل

ويقول في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر): (علينا أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً, ولنكون لهم شركاء في الحضارة, خيرها وشرها, حلوها ومرّها, وما يحب منها وما يكره, وما يُحمد منها وما يُعاب. ومن زعم لنا غير ذلك فهو خادع أو مخدوع) (مستقبل الثقافة في مصر - ص ٥٤) فهل هناك دعوة للتغريب أصرح من هذه.. فالعميد لا يدعو إلى أن نأخذ من حضارة الغرب ما صفا وندع ما كدر ولا أن ننتقي منها ما يناسبنا ويتوافق مع معتقداتنا وقيمنا.. لا.. بل يجب أن نأخذها كلها (خيرها وشرها, حلوها ومرّها, وما يحب منها وما يكره, وما يُحمد منها وما يُعاب).. كما أوحى إليه من أوحى

وأضاليل الرجل كثيرة جداً تحتاج لاستقصائها والرد عليها كتباً.. والكتب موجودة ولله الحمد.. وحسب هذا المقال أن ينبّه المغترين بهذا اللقب الفضفاض (عميد الأدب العربي).. وما أحسن قول الرافعي فيه:

وكم ذا بمصرَ من المضحكات *** وحسبُك طه حسينٍ بها

ولكنّه ضحكٌ كالبُكا *** على علمها وعلى كُتْبها

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين