التناسق والأخوة بين الكائنات

1- الأُخُوَّةُ الإيمانيةُ بين الكائنات الحية:

من تأمل في صفحة الكون، ورأى الحركة والسكون، وتخيل الجن وعاين الإنس، وتدبر الليل لمَّا عسعس، والصبح حين تنفس، وسار في مناكب الأرض، وآنس ببصره الدواب السائمة، والوحوش الهائمة، والأسماك العائمة، علم أن منظومةً متحدةً لهؤلاء لا تختلف، وأُخوةً إيمانيةً على الحق تأتلف!

وإنَّ من سار في شعاب الكون يتأمل المشهد الإيماني المتناسق سيخرج بتقريرٍ موسع، أبدؤه أنا لتكمله أنت في جولتك الخاصة!

حدثنا ربُّنا عزَّ وجلّ أنَّ السموات والأرض ومن فيهنَّ يسبحون بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم، وقد أفاد أبو العالية بقوله: " ما في السماءِ نجمٌ ولا شمسٌ ولا قمرٌ إلا يقعُ للهِ ساجدًا حيَن يغيب، ثمَّ لا ينصرفُ حتى يؤذنَ له، وأما الجبالُ والشجر فسجودُهما بفيءِ ظلالِهما عن اليمينِ والشمائل " وهذا اتفاق إيماني على إعلان التوحيد الصادق لجناب الله تعالى كما في سورتي الحج {18}، والنحل {48}..

ثم تبدأ أواصر الأخوة تتكامل في مشاهد حية، ألا ترى أن الملائكة تستغفر دومًا للذين آمنوا، وتدعو ربها أن يَقِيَهُم عذاب الجحيم، بل ويدخلهم جنات عدن التي وعَدَهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم؟! ألا ترى أن " أهل السماوات والأرضين حتى النمل في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير"؟! [سنن الترمذي، رقم الحديث: (2685)، والحديث عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه]

أخي:

بلغت الأخوة بالأرض أنها تفسح جنباتها للمؤمن في قبره بأمر الله تعالى، حتى يتسع له مَدَّ بصره، أما الكافر فإنها تضيق عليه، حتى تختلف أضلاعه، ثم تأخذ في البكاء على أخيها المؤمن، قال ابن عباس م: ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه، ومنه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن أُغلق، فيبكي عليه، وإذا فقده مُصَلَّاه في الأرض التي كان يصلي فيها، ويذكر ربه عزَّ وجلّ عليها، فيبكي عليه أربعين صباحًا! [قصص القرآن].

وَكَأَنَّ الرِّيبَةَ حلت بأحد جُلَّاس ابن عباس، فقال عَجِبًا: أتبكي الأرضُ؟ فردَّ عليه على عجل: وما للأرض لا تبكي على عبدٍ كان يعمرها بالركوع والسجود، وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دويٌّ كدوي النحل؟! أما أولئكم الكفرة الفساق، أهل الكذب والنفاق، كآل فرعون ومن حل عليهم الشقاق؛ {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان29]!

ومن المشاهد:

سجودُ الجَمَلِ لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وبكاءُ الجذع على فراقه صلى الله عليه وسلم، وهو من قال عن جبل أُحُدٍ: هو جبل يُحِبُّنَا ونُحِبُّه، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم استفاد دعاء سجود التلاوة من شجرةٍ، وصالُ الحُبِّ قائم بيننا وبينها!

فقد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس م قال: جاءَ رجلٌ فقال: يا رسولَ الله، إنِّي رأيتُني الليلةَ وأنا نائم كأنِّي أُصَلِّي خلفَ شجرة فسجدتُ، فسجدتِ الشجرةُ لسجودي، فسمعْتُها وهيَ تقول: اللهمَّ اكتبْ لي بِها عندكَ أجرًا، وضعْ عنِّي بها وزرًا، واجعلْها لي عندَك ذُخْرًا، وتقبَّلْهَا منِّي كما تقبَّلتَهَا منْ عبدِك داود!، وهي إشارة إلى قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } [ص: 24].

قال ابنُ عباس: فقرأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَجْدَةً، ثمَّ سجدَ، فسمعتُه وهو يقولُ مثلَ ما أخبَرهُ الرجلُ عنْ قولِ الشجرة. سنن الترمذي، رقم الحديث: (579).

وفي ختام هذا التقرير:

ألم تلحظ أن الله عزَّ وجلّ نقل لنا أسرار الكائنات الحية، فمن أدرانا بصلاتهم وسجودهم، وطوافهم واستغفارهم لنا، ورحمتهم بنا، ليتأكد لك أن كلَّ سِرٍّ صادقٍ، مَآلُهُ ظهورٌ ناطق، وعلوٌ سامق؛ لِيَعتَبِرَ أولو الأبصار!

2- جولة ملائكية:

أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ، يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا.. " صحيح البخاري، رقم الحديث: (6408)، (3/226).

رسالة الحديث:

أفاد الحديث النفيس أن لله عزَّ وجلّ ملائكةً طَوَّافين في مناكب الأرض، بحثًا عن كل مُسَبِّحٍ وحامد، أو ذاكرٍ وعابد، فإذا عثروا بك جالسوك، وبأجنحتهم حَفُّوك، وقد بَيَّنَ النووي أن هؤلاء لا وظيفة لهم إلا أنت، فهم زائدون على الحفظة، وما تَلفِظُ من شيء إلا كتبوه، حتى لو كان الذكر في قلبك، ولم تنطق به شفتاك فيقيدوه، بعد أن يهديهم الله لعلامة بها يعرفونه! [النووي/ شرحه على مسلم (9/56). المسألة خلافية، وقد رجح النووي هذا القول، يؤيده قول الله عزَّ وجلّ {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الإنفطار: 10 - 12]]

أيُّ شرفٍ هذا؟!، أي كرامة هذه؟!

فليسعد كل ذاكر، لجناب التوحيد شاكر، فإن الله ينقل للخلق أوراده السرية، حتى لو كانت أذكارًا قلبية، فالملائكة تعرفها بعلامةٍ ربانية، فطوبى لأهل السرائر الحسنة، وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا..

3- جولة حول العرش:

أخرج الإمام ابن ماجه في سننه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ مِمَّا تَذْكُرُونَ مِنْ جَلَالِ اللَّهِ التَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّحْمِيدَ، يَنْعَطِفْنَ حَوْلَ الْعَرْشِ، لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، تُذَكِّرُ بِصَاحِبِهَا، أَمَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَوْ لَا يَزَالَ لَهُ مَنْ يُذَكِّرُ بِهِ " سنن ابن ماجه، رقم الحديث: (3809).

رسالة الحديث:

يا غافلًا عن الأذكار، يا غارقًا في دفتر الأفكار، الكلام إليك، وأقلام الترغيب تعرض نفسها عليك..

إذا ذكر العبد ربَّه طارت أذكاره إلى العرش مبتدئة بطواف القدوم، لها دويٌّ كدويِّ النحل، ثم تنادي: أنا تسبيحة فلان بن فلان، أما من ذكر ربَّه مائة مرة فالتسابيح تسير في حشد مليح قائلة: نحن تحميدات فلان بن فلان، أمَّا ذاك الذي استحوذ حُبُّ الإله على لُبِّه، وغرس الله الإيمان في قلبه، وأمضى وقته في ذكر ربه، سواء في الجهر أو خفاءً في نفسه، فبشره بمسيراتٍ ألفيةٍ أو مليونيةٍ، تطوف حول العرش تنادي باسمه، وهو على ظهر الأرض يسير بجسمه!

يا صاحب السر:

ساحة الكون وسيلة إعلامية تبصر أفعالك، وتحصي أعمالك، وتراقب أقوالك، لكن الجاهل يكتفي أن يرفع اسمه في حدود قريته التي يسكن، وجيله الذي يعرف، وزمنه الذي يعيش، أما نباريس الإخلاص فذكرهم في الأرض والسماء قائم، وفي الأجيال المتعاقبة دائم!

أخي:

منن الإله ثمينة يعجز عن اقتناصها مشلولو الهدى، ويعمى عن رؤيتها أرباب الهوى، فالمرعى أخضر لكن الأعنُزَ مريضة، والله المستعان، وإليه المشتكى! خالد أبو شادي / صفقات رابحة ص (2).

4- جولة في القبور:

إذا ثبت أن سِرَّكَ معلومٌ عند أهل السماء، فالأمر كذلك في باطن الأرض، فإن الله ينقل لعشيرتك وأصدقائك الأموات ما تَسلُكُهُ أنت من حلالٍ وحرام، وطاعاتٍ وآثام!

أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا اسْتَبْشَرُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ، قَالُوا: اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُمْ حَتَّى تَهْدِيَهُمْ كَمَا هَدَيْتَنَا " [مسند أحمد، رقم الحديث: (12683)].

رسالة الحديث:

سمع أبو الدرداء بهذا الحديث، فتضرع سريعًا إلى الله قائلًا: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ أَنْ أَعْمَلَ عَمَلاً أُخْزَى بِهِ عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بنِ رَوَاحَة. [ابن رجب / أهوال القبور ص (150). يظهر أن الصحابة الكرام فهموا من الحديث قرابة النسب، وقرابة المؤمنين العامة، فقالوا ما قالوا..]

وروى ابن أبي الدنيا عنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: " غَزَوْنَا حَتَّى إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ مَدِينَةِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ إِذَا قَاصٌّ يَقُولُ: مَنْ عَمِلَ عَمَلًا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ عُرِضَ عَلَى مَعَارِفِهِ إِذَا أَمْسَى مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا مِنْ آخِرِ النَّهَارِ عُرِضَ عَلَى مَعَارِفِهِ إِذَا أَصْبَحَ مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ: أَيُّهَا الْقَاصُّ، انْظُرْ مَا تَقُولُ، قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ ذَلِكَ لَكَذَلِكَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَفْضَحْنِي عِنْدَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَلَا عِنْدَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِيمَا عَمِلْتُ بَعْدَهُمَا، فَقَالَ الْقَاصُّ: وَإِنَّهُ وَاللَّهُ مَا كَتَبَ اللَّهَ مَا كَتَبَ وِلَايَتَهُ لِعَبْدٍ إِلَّا سَتَرَ عَلَيْهِ عَوْرَتَهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِأَحْسَنِ عَمَلِهِ "[ ابن أبي الدنيا / الأولياء ص (21).]!

ولله دَرُّ عَبَّادِ بنِ عَبَّاد من مؤمنٍ مُوغلٍ في درب اليقين، دخل يومًا على أمير فلسطين إبراهيم بن صالح، فقال له إبراهيم: عظني رحمك الله، فقال عباد: بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الموتى، فانظرْ ماذا يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عملك؟! فبكى إبراهيم حتى سالت دموعه على لحيته!

فانظر بعقلك، وتدبر بلبك؛ كيف أن الله عزَّ وجلّ قد نقل لهم ما تفعل، فإن الله عزَّ وجلّ رأى منك كُرْهَ نقل الطاعة فنقلها، وحُبَّ ستر المعصية، فَعَرَّفهم بها، جزاءً وفاقًا!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين