التَّكامل الموضوعي في السنة النبوية أساس منهجي في التعامل معها

فكرة الدراسة:

تقوم فكرة الدراسة على ضرورة التكامل الموضوعي في التعامل مع السنة النبوية باعتبارها وحدة متكاملة لاتعرف التجزئة، ذلك أنَّ التعامل مع السنة هو حكم، والحكم يحتاج للبحث عن كل ما ايتعلق به، فالقاضي مثلا عندما يحكم على إنسانٍ بالسفه أو الجنون... أو عندما يحكم أحدنا على الإنسانٍ بالأمانة أو الخيانة أو الصلاح لايكون ذلك انطلاقا من واقعة واحدة، بل بكل ما يرتبط بنوعية الحكم.

استنادا إلى هذا من الضروري عند النظر إلى حديثٍ ما أنْ يكون النَّاظر مؤهلا للحكم وأنْ ينظر إلى جميع الأحاديث المتصلة به بالقضية وعدم الانتقاء منها.

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد

فإنّ النّاظر إلى المصدرين الأساسين للدين الإسلامي كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يجد فيهما التكامل من جميع الجوانب، وهذا من أبرز استمرارية هذا التشريع وصلاحيته لكل زمانٍ وماكان، فالتشريع كلٌّ متكامل ينظم علاقة الإنسان بربه وببني جنسه وبمحيطه، يبين له الحلال والحرام، والخير والشر، يعلو بفكره ويهذِّب خلقه، يدعوه للتأمُّل والتَّفكُّر في الجانب العقلي، يُطالبه بتلبية حاجات نفسه من الطعام والشراب والزواج والتطبيب والنوم والرياضة، يحثه على الاستجابة لمتطلبات الروح من العبادة والذكر والتزكية، ينظِّف قلبه من الحقد والحسد والرياء، يشجعه على مخالطة الناس ودعوتهم إلى الله تعالى بالحسنى وتحمُّل أذاهم والصبر عليهم، وهذه ضرورة يقتضي الدينا وتقتصيها الحياة، وهذا لن يتمَّ إلا من خلال التعامل مع القرآن والسنة بشكل متكامل متجانس، لا يأخذ طرفا ويطرح طرفا، وهذا واضح بيِّن في القرآن والسنة والنبوية، ولن يستقيم حال المسلم إلا من خلال التوازن بأخذ التشريع كاملا، وأصل التشريع يقوم على مصدرين، الكتاب والسنة، والتفريع والتطبيق جاء في السنة النبوية أكثر من القرآنن ومن هنا يقتضي الأمر الوقوف عندها والنّظر إليها كوحدة متكاملة، فالانتقاء يخلُّ بالحكم ويبُعد السنة عن مقاصدها، وهذا ماجاءت به الدراسة لتبيّنه من خلال بعض النماذج. 

الكلمات المفتاحية: السنة النبوية، الكفر، الطاعة، العدل، الظلم، الحاكم، الربا

ضبط المصطلحات:

التكامل الموضوعي : هو القيام بعملية رصد وجمع للسنة النبوية وعدم الاقتصار على بعضها، وكذا الوقوف عند شراحها وعدم الأخذ منها مباشرة، ومن الواضح أنَّ الأمر ليس مرتبطا بالسنة فقط، فقد يكون التكامل مرتبطا بضرورة استحضار الآيات القرآنية المتعلقة بالموضوع، ولكنَّ الذي يعنينا في هذا المقام ضرورة إحضار السنة النبوية بشكل كامل.

السنة النبوية: المقصود بها ما صدر عن النبي عليه الصلاة والسلام من أقوال وأفعال وتقريرات وكل ماصدر عن النبي عليه الصلاة والسلام مما هو مرتبط بالحياة فكرا وسلوكا وروحا، وعدم الاقتصار على المعنى الفقهي القانوني، أو المعنى المتبادر عند الأصوليين في ضبط العلاقة مع القرآن الكريم نسخا وتخصيصا وتقييدا واستقلالا في التشريع. 

أسباب الاختيار:

تعود أسباب اختيار الدراسة إلى عملية الانتقاء المقصودة عند البعض لبحث الأحاديث التي تتوافق مع المصلحة التي يُراد لها، كما نرى الانتقاء عند بعض الوعاظ جهلا منهم بالأحاديث الأخرى، أو لتحريك مشاعر المستمع والتأثير عليه في الاستجابة 

الأدلة على ضرورة أخذ السُّنة كاملة.

الأدلة على ذلك واردة من طبيعة التشريع المرتبط بالقرآن والسنة، فعندما ننظر إلى التشريع نجد هذه الوحدة الموضوعية فيه، وما ذاك إلا لكونه صادرا من إله واحدٍ، فهو يذكر الواجبات والحقوق، وفي موطن المحرمات يذكر الحلال، وعند الترغيب يذكر الترهيب، وعند الحديث عن متطلبات الروح يُذكِّر بمتطلبات الجسد والعقل... والأدلة على هذا أكثر من أنْ تُحصى، منها قوله سبحانه وتعالى في المعاملات {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) } [المائدة: 96، 97].

وعندما وصف وظيفة النبي عليه الصلاة والسلام قال سبحانه {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وبعد أن ذكر المحرمات من النساء قال سبحانه { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24].

وفي مقام العبادة بعد أنْ بيَّن ربنا وجوب الصيام في النهار قال سبحانه {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ} [البقرة: 187]، وفي مقام الوعظ يأتي القرآن الكريم جامعا بين البشارة والنذارة وبين الترغيب والترهيب {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) } {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)} [المائدة:]، وإذا أردنا أن نذكر الأدلة كاملة فإننا نخرج من المقصود الأصلي للبحث. وما جاء في القرآن هنا جاء في السنة لأنَّها الدليل التفصيلي للقرآن.

بذور الاقتصار على جوانب محدَّدة من التشريع ومنها السنة النبوية:

هذه البدايات نجدها في عصر الصحابة رضوان الله عليهم، والدافع إلى هذا زيادة الحرص في بلوغ الكمال عند المقارنة بين حالهم وحال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنّها ماكانت هي الحال السائدة، وإنما هي حالات خاصة ببعض الصحابة اجتهادا منهم، وقد صحح لهم عليه الصلاة والسلام هذا المفهوم الذي ركّز فيه بعض الصحابة على جوانب محددة، والتركيز على بعض الجوانب يؤدي لامحالة إلى إهمال بعض الجوانب الأخرى وهذا يؤدي بدوره إلى الخلل وعدم التوازن في التشريع.

لانجد- عند الرجوع إلى السنة النبوية - نماذج كثيرة من هذا مما يدل على أنها حالات فردية منها قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص وقد كان يكثر من قيام الليل وقراءة القرآن «فإن لزوجك عليك حقا، ولزورك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا» (1)

وهذا ماكان يفعله أبو الدرداء رضي الله عنها حيث زار "سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما، فقال: كل؟ قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال: سلمان قم الآن، فصليا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق سلمان»"(2).

وللنظر هنا إلى نظافة صدور الصحابة رضوان الله عليهم، فلم تجد أم الدرداء حرجا أنْ تُلمِّح بحالها أمام سلمان الفارسي، فالقلوب نظيفة صافية، ولو حصل هذا في واقعنا لطلَّق الزوج زوجته، ولوصفت بقلة الحياء واشتهر أمرها بين الناس، ولشكَّ الضيف بالمرأة، لكنها القلوب النظيفة التي تربَّت على يديَّ المصطفى صلى الله عليه وسلم.

ومنها قصة النفر الثلاثة الذين سألوا عن عبادة النبي عليه الصلاة والسلام فلما " أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»(3).

ومما ينبغي ملاحظته من خلال ماذكرناه من السنة أنّه ليس المقصود هنا حالات الاستقراء بل التنويه إلى بذور المسألة. 

نماذج من تجزيئ السنة وعدم أخذها كاملا

هذا الخلل في الحقيقة ليس مقصورا على السنة فالخلل أيضا موجود في التعامل مع القرآن الكريم، ولعلنا نخصص له دراسة مستقلة في محور مناسب، ومن أنواع الخلل التي نلحظها في القرآن الكريم هو التركيز في أيامنا هذه في كثيرٍ من المراكز والمعاهد على حفظ القرآن من غير الاستعانة بمعرفة أحكامه ولو بشكل مختصر، والتركيز على هذا النوع قد يؤدي إلى الانحراف في المستقبل من جهة تطبيق النصوص على غير مرادها، ولهذا نقل المفسرون في تفاسيرهم عن "عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا. ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة"(4).

ولايُفهم من هذا أننا ندعو إلى عدم التحفيظ بل المقصود أن لايكون الحفظ مقصودا لذاته بمعزل عن معرفة الأحكام؛ لأن الحفظ بهذه الطريقة له مخاطره من جهة تطبيق ظواهر هذه الآيات بعيدا عن الخاص والعام والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ.

وقد أدَّى استخدام ظواهر القرآن من غير فهمها بالخوارج إلى تكفير بعض الصحابة انطلاقا من نصوص عامَّة، ورأينا كثيرا من غلاة داعش يحتجّون بالقرآن من غير فهمه وخاصّة الآيات التي فيها الولاء والبراء ومفهوم الحاكمية. 

1.النموذج الأول: الاهتمام بأحاديث الترهيب أكثر من الترغيب

من الضروري للتعامل مع السنة النبوية في مجال الترغيب والترهيب عدم الاقتصار على أحدهما دون الآخر، فالاقتصار على الترغيب يؤدي إلى التقليل من وقع المعاصي، والاقتصار على الترهيب يصنع قنوطا من العبد اتجاه ربه، ولهذا كانت هناك ضرورة للجمع بينهما وهذا هو منهج النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه.

والذي حصل أن البعض من الوعّاظ يهتمون بالترهيب أكثر من الترغيب ظنَّا منهم أنّ الخوف هو المانع الأساسي من اقتراف المعاصي، وما دروا أنّ محبة الله تعالى من أبرز أسباب التخلي عن المعاصي.

لهذا السبب تجد الحديث عن جهنم وزمهريرها وأفاعيها وعقاربها أكثر من الحديث عن الجنة ونعيمها وحورها ومياهها، ونحن هنا لا ندعو للاقتصار على جانب دون جانب، لكنَّ الملاحظ أنّ هناك اهتماما بجانب التخويف والتهويل أكثر من الترغيب والتحبيب، وهذا ليس قاصرا على جوانب الوعظ فقط، بل حتى في بيان الأحكام الشرعية عند الحديث عن المنهيات، حيث يتم تجاوز الأحاديث الصحيحة- في كثير من الأحيان- واللجوء إلى بعض الأحاديث شديدة الضعف بل والموضوعة.

يمكن أنْ نأخذ مثالا على ذلك التنفير من الربا، فالربا محرِّم في الشريعة الإسلامية وحرمته معلومة بالقطع، وورد التحريم بشكل صريح في القرآن الكريم والسنة النبوية، والذي يحصل في مسألتنا التي ندرسها أنْ يأتي الواعظ أو الذي ينقل الحكم بأحاديث ليست هي المشهورة المتداولة بين الناس كحديث"" رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر، فيرجع كما كان، فقلت ما هذا؟ فقال: الذي رأيته في النهر آكل الربا "(5) وحديث" لعن آكل الربا وموكله"(6).

اللجوء إلى أحاديث أخرى أكثر شدة ولو أنها أقل صحة أو لم تصح أصلا فيه هي حالة نفسية ليكون أكثر ردعا وأكثر إشهارا للأمر، وبالتالي قد يكون أكثر تأثيرا في المنع، فمن هُدِّد بالضرب بالعصا مثل ليس كمن هُدِّد بقطع اليد، وهكذا يعمل الواعظ على نفوس الناس.

ومن المعلوم في سياق الحديث عن الربا أن هناك أحاديث كثيرة لم تصح، فيلجأ الخطيب أو الواعظ أو ناقل الحكم إلى هذه الأحاديث وسردها تأثيرا ولفتا للانتباه.

والذي حصل معي أنَّي استمعتُ منذ عهد قريب إلى خطيب يتحدث عن خطورة الربا، فلجأ إلى أحاديث تالفة ومنها حديث عن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " "الربا سبعون حوبا، أيسرها أن ينكح الرجل أمه" (7) جاء في تحقيق سنن ابن ماجه:" رجاله ثقات، وقد روي موقوفا من وجوه، وهو الصحيح"(8).

وهذا الحديثُ مشكلٌ إذا أخذنا به ويتعذر التوفيق بينه وبين الأحاديث الأخرى والقواعد العامة في الشريعة، مع إقرارنا بحرمة الربا ومحقه وإثم فاعله وأنَّ الله تعالى قد آذنه بالحرب.

ظاهر هذا الحديث يهوِّن من شأن الزنا وخاصَّة بالأم، فكيف يكون الزنا بالأم أيسر أبواب الربا؟ وماهي أعلى أبواب الربا والذنوب يمكن تعدادها!؟ ومن اليقين أنَّ أعلاها لايكون كفرا إلا إذا أحلَّ الربا وعندها لن يكون الأمر مقصورا على الربا، فمن أحلَّ الزنا فهو كذلك لأنّ كليهما معلوم حرمته بالضرورة.

مع ملاحظة أنّ جريمة الزنا ليست سهلة وقد حذّر الله منها في كتابه، وإذا كان الزنا بحليلة الجار جاء مقرونا بالشرك بالله تعالى كما في حديث البخاري وغيره أن رجلا سأل النبي عليه الصلاة والسلام " أي الذنب عند الله أكبر، قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قلت: ثم أي؟ قال: «ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك» قلت: ثم أي؟ قال: «أن تزاني بحليلة جارك» قال: ونزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون} [الفرقان: 68] "(9) فكيف يكون الزنا بالأم التي هي أوَّل المحرمات بالنص القرآني؟!، وكيف يكون التعامل بالمال- ولو كان ربا- الذي هو المقصد الأخير من مقاصد الشريعة أعلى من المحافظة على العرض الذي هو أعلى من المحافظة على المال في ميزان الشرع.

وقد ناقشتُ الخطيب بعد أن نزل فقلتُ له على الأقل راجع الحديث قبل المجيء، واذكر ذلك بصيغة التضعيف، وأخذ يجادل بأنَّ رسول الله عندما يقول علينا أن نسكت، فقلتُ له لو أعلم أن رسول الله قاله لما ناقشتك فيه، ومما يؤسف أنه كرَّر في الخطبة الأخرى أحاديث ليست أقل من هذا الحديث، ونصحته مرة أخرى، فقال أنا أعرف الصحيح من غيره وعليك أن تدرس علوم الحديث، وعندما يئست هددتهُ بأنَّي سأرفع أمره للوزارة عندها- يعلم الله- أنه صار يخرِّج الحديث على المنبر ويقول جاء في صحيح البخاري كذا وكذا ... وماكان يفعل ذلك من قبل وصار ينتقي الأحاديث الصحيحة في خطبه اللاحقة.

وليس القصد من هذا الأمر مناقشة الأحاديث الواردة في الربا أكثر من ذلك، بل القصد أن يتنبَّه الوعاظ والخطباء إلى هذا ، وليأخذوا من الأحاديث الأصح، ولا يكون الخطيب أو الواعظ كحاطب ليل همُّه الوعظ والإرشاد، ففي بعض الأحاديث التي قد تُذكر لاتليق بمقام المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومما يؤسف له أن بعض الخطباء لايفكِّر بالخطبة إلا في صباح الجمعة، والبعض منهم لا يكلِّف نفسه الرجوع إلى تخريج الأحاديث وخاصة أنّ هذا الأمر صار ميسورا بفضل الله ثم بفضل الكُتُب الالكترونية أو المواقع الموثوقة التي يمكن أن يأخذ منها نظرة أولية عن الحديث.

النموذج الثاني: الأحاديث المتصلة بالصبر على الحاكم

شاعت هذه الأحاديث بداية الربيع العربي على يد فقهاء السلاطين، ووصل الأمر ببعض أولئك أن يطلبوا من الناس السكوت انطلاقا من هذه الأحاديث ولو رأوا الحاكم يزني أو يشرب الخمر.

وأكثر الأحاديث دورانا على ألسنتهم- ومن ذلك ماكان يردده الدكتور البوطي في الثورة السورية طيلة دروسه- هو حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه" دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا: «أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله»، قال: «إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان»"(10)، وحديث" «إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها»، قالوا: يا رسول الله، كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم»(11). وحديث «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم»، قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه، فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يدا من طاعة»(12).

ونسي هؤلاء أنَّ الأمر عندما يكون فتنة فعلى المتكلم أن يسكت، وإلا كيف تكون فتنة إذا كان يتحدث عن جهة ويسكت عن جهة كما كان يفعل الدكتور البوطي وابنه من خلفه.

وكان الحري بهؤلاء- إن كان المر فتنة- أنْ يقفوا محايدين، ويجلس كل واحدٍ في بيته، وهذا أقلُّ شيء يُتوقَّع منه، أما أن يخرج المتكلم واقفا مع النظام الحاكم ضد من يطالب بالحرية مستشهدا بهذه الأحاديث فهو جهل مركب بالأحاديث وبواقع الحال الذي عشناه.

كما نسي هؤلاء أنَّ الأحاديث الواردة في هذا الباب تنهى عن نزع الطاعة وحمل السيف، وليس المطالبة بالإصلاح وإقامة العدل، والخروج بشكل سلمي مطالبين بالإصلاح.

وليت يذكر لنا هؤلاء ماهو التكييف الفقهي للإعلام الذي يطالب السلطة بالإصلاح، أو التكييف الفقهي لخروج أشخاص يطالبون بحقوقهم ؟ هل هذا يسمى خروجا ؟ وعلى أي أساس سُمي بذلك ؟ .

ولو كان هذا خروجا لوجدنا تاريخ الأمم كله مملوءا بالخروج، ولَمَا خلت منه حقبة ، وهذا كله على فرض أنّه حاكم شرعي وصل إلى السلطة بالطرق الشرعية المعهودة فقها، ومن المعلوم فقها أنَّ الحاكم المتغلب فاسقٌ في حكمه لا تقبل له شهادة، وليست له شرعية الطاعة كحاكم، وإنما نتعامل معه كتعامل المضطر لأكل الجيفة، وأحكام الحاكم المتغلب الذي ذكره الفقهاء لاتنطبق على الحاكم المتغلب في بلدنا؛ ذلك لأن الحاكم المتغلب الذي ذكره الفقهاء هو من اجتمعت فيه صفات الحاكم ولكنَّه استولى عليها ونازع غيره(13).

تناسى هؤلاء الأحاديث التي تدعو الحاكم لإقامة العدل وتحذِّره من الظلم والغش والخيانة للأمانة كقوله صلى الله عليه وسلم «ما من وال يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم، إلا حرم الله عليه الجنة»(14)، وأي غش أعظم من نشر الموبقات والفواحش واغتصاب الحقوق ونهب الثروات وقتل الحريات وتسليط الأقرباء على الأموال العامة وإبرام الصفقات مع أعداء الأمة.

قال القاضي عياض :" فإذا خان فيما اؤتمن عليه فلم ينصح فيما قلده، إما بتضييعه تعريفهم ما يلزمهم من دينهم وأخذهم به، وإما بالقيام بما يتعين عليه من حفظ شرائعهم والذب عنها... أو تضييع حقوقهم أو ترك حماية حوزتهم ومجاهدة عدوهم أو ترك سيرة العدل فيهم، فقد غشهم "(15).

نجد في حديث مسلم- الذي لايذكره فقهاء السلاطين- ربط الوعيد بعدم النصيحة للرعية «ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة»(16).

إنّ هؤلاء لا يذكرون حتى الأحاديث، بل كلمة العدل لاتُذكر أبدا خوف أنْ يُقال إنه يتحدث عن السلطة. 

إنَّ فهما مثل هذا للشريعة يصنع من الأمة عبيدا ويجعل الحاكم متألِّها، ويصطدم هذا الفهم مع كل نصوص الشريعة التي تدعو لإقامة العدل والدفاع عن المظلوم والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى، يقول ابن حزم:" أما أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على أخذ المال وضرب الظهر فإنما ذلك بلا شك إذا تولى الإمام ذلك بحق وهذا ما لا شك فيه أنه فرض علينا الصبر له وإن امتنع من ذلك بل من ضرب رقبته إن وجب عليه فهو فاسق عاص لله تعالى وإما إن كان ذلك بباطل فمعاذ الله أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ذلك برهان هذا قول الله عز وجل {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ...فإذا كان هذا كذلك فيقين لا شك فيه ... أنَّ أخذ مال مسلم أو ذمي بغير حق وضرب ظهره بغير حق إثم وعدوان وحرام"(17).

النموذج الثالث: ذمُّ الدنيا ودعوة الناس للصبر على الفقر 

ذمُّ الدنيا على الاطلاق ليس صحيحا؛ فقد استخلفنا الله تعالى لنقيم شرعه وننشر دينه ونبني حضارة ونطعم الجائع ونكسي العريان وننفق على أنفسنا والآخرين، وكيف يكون للمسلمين عز وحضارة وهم بعيدون عن امتلاك المال والمعارف، وإذا لم يكن للمسلمين منزلة بين الناس فسيكونون عبيدا لهم وخدما، وكيف يكون المال مذموما وفي الإنفاق من الأجر مافيه، والكثير من الصحابة والسلف الصالح كانوا أثرياء، فإذا علمنا ذلك فنعلم قطعا أن المذموم من الدنيا أن تكون غاية بحد ذاتها دون الآخرة ، وأن يستولي حبها على النفوس، وأن يكون جمع المال والثراء للكنز والاحتكار، ويتصف صاحبه بالبخل والاقتار.

والأدلة من نصوص العلماء المؤيدة لهذا الفهم كثيرة، ومن ذلك ما أكثرَ من ذكره ابن الجوزي رحمه الله في كتابه الماتع" صيد الخاطر" حيث بين أنه لا يجوز التعلق بظواهر النصوص القرآنية التي تذم الدنيا كقوله تعالى { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} [آل عمران: 185] فالدنيا هي عبارة عن أرض الأقوات، وفيها الماء والهواء، والمزروعات والحيوانات منها ويُدفَن فيها الناس وهذه لاتُذم لذاتها لأنها سبب للبقاء وبقاء الإنسان فيها ليعرف ربه " فبان لنا أن الذم إنما هو لأفعال الجاهل، أو العاصي في الدنيا، فإنه إذا اقتنى المال المباح، وأدى زكاته، لم يلم؛ فقد علم ما خلف الزبير وابن عوف وغيرهما"(18) وذكر ابن الجوزي أدلة كثيرة على عدم ذمّ المال وجمعه.

فالدنيا إذا كانت بهذا الشكل فلا تُذم وكيف تذم والإنسان سيعيش فيها مالم تقم الساعة؟! 

وربما تعلَّق بعضهم كما سمعنا من بعض الخطباء على المنابر أنه عليه الصلاة والسلام كان فقيرا لا يملك قوت يومه وليلته، ويستدل هؤلاء بحديث «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير»(19) وحديث عائشة رضي الله عنها «ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة، من طعام البر ثلاث ليال تباعا، حتى قبض»(20).

وهذه الأحاديث في الحقيقة لاتنمُّ عن الحالة الحقيقية للنبي عليه الصلاة والسلام، فالنبي لم يكن فقيرا بهذه الصورة؛ بل أغناه الله سبحانه وتعالى بنص القرآن قال سبحانه {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى: 8] يقول الزمخشري:" فأغناك بمال خديجة، أو بما أفاء عليك من الغنائم"(21) وكيف يكون النبي عليه الصلاة والسلام فقيرا وكان له نصيب من الغنائم والخمس، ولكنْ لكثرة إنفاقه عليه الصلاة والسلام تمرُّ عليه أيام لايملك ما يُنفق فيُتصوّر أنه كان فقيرا فقرا مدقعاً.

على أنَّ هذه الحال لو كانت هي حال النبي عليه الصلاة والسلام فليس المقصود منها التأسي ودعوة الناس إلى الصبر ورمي الدنيا، فالأنبياء هاجروا من ديارهم في سبيل الدعوة ولا يعني هذا أننا نتأسى بهم في هذه الحال، لكن عندما يكون أحدنا مهاجرا يجعل من النبي حالة له ليواسي نفسه، والأحرى لو ثبت فقر النبي أنْ تُعالج حالات الفقر على أنها استثناء وليست هي الأصل، والأصل هو الغنى وعدم الاحتياج، وربما يحتجُّ بعضهم بتفضيل الفقر على الغنى، وهذا لايسلم له، يقول ابن رشد الجد:" إن الغنى أفضل من الفقر؛ لقول الله عز وجل: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] فلو كان الفقر أفضل من الغنى لكان تعالى قد أمرنا أن نسأله تبديل الأفضل بالأدنى، وذلك خلاف المعلوم من المعنى، وقوله عز وجل: {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] فلو كان الفقر أفضل من الغنى لكان تعالى قد امتن عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن نقله من الأفضل إلى الأدنى. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] فلو كان ما كانوا فيه أفضل وأولى لم يكن لحزنهم معنى، وقَوْله تَعَالَى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا} [البقرة: 268] وشتان في الفضل ما بين ما يعد الله به من الغنى، وما يعد به الشيطان من الفقر!"(22)

وبعض من هؤلاء ممن يطالبون الناس بالصبر يكون تابعا للسلطان، ويروج للناس أن الدنيا لا قيمة لها وأنَّ على الإنسان أن يصبر وأن الثواب الحقيقي هو يوم القيامة، وقد يذكر لهم حديث النبي عليه الصلاة «من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا»:"(23). ومن يدعو الناس إلى الصبر على الفقر ولا يدعو الحكام للإنفاق والعدالة الاجتماعية فهو مجرم مشارك للسلطان في ظلمه، والأحرى به أنْ يدعو الناس إلى استثمار خيرات الأرض والتمكن العلمي وبناء السفن والبوارج واستثمار المعادن وتحلية المياه وبناء الجيوش والعيش في الدنيا بكرامة يُنفق على الناس ولاينفقون عليه. 

النموذج الرابع: ذكر بعض الحقوق ونسيان أو تناسى الحقوق الأخرى 

من هذا القبيل أن يتم ذكر حقوق الآباء على الأبناء، أو الأزواج على الزوجات أو العكس، مع نسيان حقوق الطرف الآخر، من ذلك ترديد الإباء كقوله صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الكبائر فقال:« الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور»(24) ويتناسى الآباء الأحاديث التي تطلب العدالة والمساواة بين الأولاد كحديث بشير بن سعد حيث نَحَل ابنه النعمان غلاما دون بقية أبنائه فقالت له زوجه وهي أم النعمان لا أرضى حتى تُشهد رسول الله. فذهب بشير وأعلم رسول الله بذلك. فقال له رسول الله - عليه السلام -: "أكلَّ ولدك نحلت مثلَه؟ " قال: لا، قال: "لا تشهدني على جور"(25)، والأخطر من هذا كله هو تناسي كثير من الخطباء في أريافنا حقوق البنات في الإرث وهو شيء غريب، وقد بان لي أنَّ جزءا من هذه الأسباب أن بعض الخطباء لايطبق هذا على نفسه فيستحيي أن يتحدث عن ذلك، بمقابل هذا قد يذكر الأبناء حقوقهم على الآباء ويتناسون حقوق الإباء عليهم.

ومن هذا ما يتشدق به الرجال كثيرا بذكر حقوقهم على نسائهم كحديث :" إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت"(26)، ويتجاهلون أنَّ وصية النبي بالنساء كانت من أواخر وصايا النبي عليه الصلاة والسلام مما يدل على أهميتها، كما لا يتذكر بعض الرجال الشرعَ إلا عندما يريد التعدد في الزواج، فيقول الشرع أحلَّ التعدد وقد يكون بعضهم غير ملتزم بأداء الصلوات الخمس ، وبعض من هؤلاء لايتذكر العدل بين الزوجات إلا لاحقاً.

ومن هذا ما تردده النساء كحديث عائشة رضي الله عنها" أنها سئلت: ما كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟ قالت: «ما كان إلا بشرا من البشر، كان يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه»(27).

وتنسى الأحاديث التي تطالبها بطاعة زوجها فيما لايغضب الله.

النموذج الخامس: عمل المحدث بالحديث من غير الرجوع إلى ماقاله الفقهاء، أو عمل الفقيه من غير الرجوع إلى حكم المحدثين في الحديث

من المعلوم أنَّ نظر الفقهاء مختلف عن نظر المحدثين، فالمحدث ينظر إلى الحديث الذي أمامه ويحكم عليه بناء على شروط الصحة أو الحسن... فإذا لم تتحقق فيه شروط القبول يكون الحديث ضعيفا وقد يكون موضوعاً، فيقصر المحدث نظره إلى سند الحديث ومتنه، من غير النّظر إلى أحاديث أخرى، بينما يتجاوز نظر الفقيه إلى أحاديث أخرى أو إلى قواعد أصولية وفقهية وكلامية ولغوية، وهذا ما أدَّى إلى نشوء بعض العلوم المتصلة بعلم الحديث كعلم مشكل الحديث ومختلفه وناسخ الحديث ومنسوخه وغريب الحديث، وماذاك إلا لوجود مؤثرات كلامية وفقهية ولغوية. 

والأمر يقتضي للعمل بالحديث أنْ يرجع كلٌّ منهما إلى الآخر، فالإفتاء من الحديث من غير الرجوع إلى ما قاله الفقهاء يجر إلى اضطراب في الفتوى، وتجهيل للفقهاء وتقزيم لجهودهم، وأشبه ما يكون حال المحدث والفقيه بالطبيب والصيدلي، فالذي يعني الصيدلي هو التوافق بين الوصفة الطبية التي يكتبها الطبيب وبين نوعية الدواء، ولا يعنيه نوعية المرض، وهذا شأن المحدث الذي إذا توافرت شروط الحديث الصحيح حكم عليه بالصحة من غير التفات إلى حديثٍ آخر قد يعارضه، بينما الطبيب عليه أنْ يقارن بين نوعية المرض وبين الدواء الذي يناسب المرض وعليه أنْ يتأكد من تأثيرات هذا الدواء على الجسم، وهذا شأن الفقيه الذي لايقف عند حديثٍ بذاته، وإنما ينظر إلى ما يرتبطه به من نصوص أو قواعد 

أخرى، وليس في هذا الكلام ما يُفهم منه تفضيل الفقيه على المحدث أو العكس، كما لايصح القول أننا نفضل الطبيب على الصيدلي أو العكس، فكلٌّ منهما في الحقيقة لايستغني عن الآخر، أو قلْ مثلُ المحدث مثل المهندس المدني الذي يحكم بصحة تشييد بناء مكوّن من مائة طابق بناء على توفر المواد المطلوبة لذلك، ولكن هذا لايكفي هذا مالم تتوفر شروط أخرى من رُخَصة البناء وتوفر التهوية والإضاءة ... التي يعمل عليها المهندس المعماري.

ومن الابتداع القول باكتفاء المحدث بالحديث، أو أنَّ هذه المسألة كانت من اختراعات فقهاء المذاهب، فقد كانت جزءا من منهج الصحابة في تعاملهم مع الحديث النبوي وخاصة عند السيدة عائشة رضي الله عنه ومنها قولها:" أعدلتمونا بالكلب والحمار «لقد رأيتني مضطجعة على السرير، فيجيء النبي صلى الله عليه وسلم، فيتوسط السرير، فيصلي، فأكره أن أسنحه، فأنسل من قبل رجلي السرير حتى أنسل من لحافي»(28).

وهي تشير بذلك إلى حديث «يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل»(29).

وبذلك تُدرك خطأ ما يتناقله بعض طلبة العلم من مقولة الشافعي وغيره " إذا صح الحديث فهو مذهبي" ويأخذونها على عمومها، فالمقولة صحيحة، ولكنَّ ذلك إذا كان الآخذ فقيها وخلى الحديث من معارض أو نسخ أو تخصيص أو تقييد، وهذا معلوم لمن له أدنى معرفة بالفقه، يقول النووي بعد ذكر المقولة السابقة :" وهذا الذي قاله الشافعي ليس معناه أنَّ كل أحد رأى حديثا صحيحا قال هذا مذهب الشافعي وعمل بظاهره، وإنما هذا فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب على ما تقدم من صفته أو قريب منه، وشرطه أن يغلب على ظنه أن الشافعي رحمه الله لم يقف على هذا الحديث أو لم يعلم صحته، وهذا إنما يكون بعد مطالعة كتب الشافعي كلها ونحوها من كتبِ أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها، وهذا شرط صعب قلَّ من ينصف به، وإنما اشترطوا ما ذكرنا؛ لأن الشافعي رحمه الله ترك العمل بظاهر أحاديث كثيرة رآها وعلمها، لكنْ قام الدليل عنده على طعن فيها أو نسخها أو تخصيصها أو تأويلها أو نحو ذلك"(30).

يظهر لك بهذا ضرورة التعامل مع السنة النبوية من جهة الفقهاء وعدم الاستغناء عن المحدثين.

الخاتمة 

في ختام هذه الدراسة أردنا تبيين ضرورة جمع المادة العلمية للموضوع الذي نريد إعطاء الحكم فيه، من المصادر الصحيحة والمعتبرة وعدم اللجوء إلى بعض الأحاديث التي تروج لوجهة نظرٍ ونقصي الأحاديث الأخرى فالشريعة كلٌّ متكامل، كما لا يصح منهجيا أن نلجأ إلى الأحاديث الموضوعة وشديدة الضعف وما قاربها وفي جعبتنا من الصحيح الكثير.

ومن الضروري الانضباط في تعاملنا مع حديث النبي عليه الصلاة والسلام فهما وعملا ودفاعا عنه، والدفاع عنه يقتضي إبعاد مالم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن الغريب أنَّ ثائرة الناس تثور عندما يتم تضعيف حديثٍ صحيح، ولاتجد مثل هذه الثائرة عندما تُنسب أحاديث للنبي عليه الصلاة والسلام في مقام الوعظ. 

فلنتعامل مع سنة النبي عليه الصلاة والسلام على أنَّها كلٌّ لايتجزأ بعيدا عن رغباتنا الشخصية أو رغبات الآخرين.

جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وآخر دعوانا أنْ الحمد لله رب العالمين.

1 صحيح مسلم كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقا أو لم يفطر العيدين والتشريق، وبيان تفضيل صوم يوم، وإفطار يوم، رقم 1159، المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت. 

2 صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب الوصال إلى السحر، رقم: 1968، المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة الطبعة: الأولى، 1422هـ.

3 صحيح البخاري ، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، رقم: 5063.

4 تفسير القاسمي = محاسن التأويل: 1/ 15، محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي، المحقق: محمد باسل عيون السود، الناشر: دار الكتب العلميه – بيروت، الطبعة: الأولى - 1418 هـ .

5 صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب آكل الربا وشاهده وكاتبه، رقم: 2085.

6 صحيح البخاري، كتاب اللباس، باب من لعن المصور رقم: 5962.

7 سنن ابن ماجه، أبواب التجارة، باب التغليظ في الربا، رقم: 2274، سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر، دار إحياء الكتب العربية - فيصل عيسى البابي الحلبي.

8 جاء في التعليق على هذا الحديث:" إسناده ضعيف لضعف أبي معشر -وهو نجيح بن عبد الرحمن السندي- وقد تابعه غير واحد ممن لا يعتد بمتابعته: والذين حققوا الكتاب هم: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد - محمَّد كامل قره بللي - عَبد اللّطيف حرز الله، سنن ابن ماجه، ورواه البيهقي بلفظ" الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم " قال الشيخ أحمد: " هذا إسناد صحيح، والمتن منكر بهذا الإسناد، ولا أعلمه إلا وهما وكأنه دخل لبعض رواة الإسناد في إسناده " البيهقي، شعب الإيمان: 7/ 363،حققه وراجع نصوصه وخرج أحاديثه: الدكتور عبد العلي عبد الحميد حامد، أشرف على تحقيقه وتخريج أحاديثه: مختار أحمد الندوي، صاحب الدار السلفية ببومباي – الهند،: مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند، الطبعة: الأولى، 1423 هـ - 2003 م مع ملاحظة أن الحاكم رواه وقال:" هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".

9 صحيح البخاري، باب قول الله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم} [النساء: 93] رقم: 6861. 

10 صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية : 1709.

11 صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء، الأول فالأول 1843

12 صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم ، رقم: 1855. 

13 انظر: بحثي التغلُّب مفسدة تسقطُ به العدالة ولا تصح به الولاية https://sy-sic.com/?p=8255 

14 صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب من استرعي رعية فلم ينصح رقم: 7151

15 شرح النووي على مسلم: 2/ 166، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الثانية، 1392

16 صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم رقم: 142 .

17 الفصل في الملل والأهواء والنحل: 4/ 133، مكتبة الخانجي – القاهرة.

18 صيد الخاطر، ص،41 بعناية: حسن المساحي سويدان، الناشر: دار القلم – دمشق، الطبعة: الأولى، 1425هـ - 2004م .

19 صحيح البخاري، كتاب الأطعمة، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون رقم: 5414 

20 صحيح البخاري، كتاب الأطعمة، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون رقم: 5416

21 تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل: 4/ 768، الناشر: دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة - 1407 هـ

22 المقدمات الممهدات: 3/ 403، حقيقه: الدكتور محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1408 هـ - 1988 م

23 سنن الترمذي، كتاب الزهد، بَابٌ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ رقم: 2346 رواه الترمذي وقال :"هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث مروان بن معاوية " تحقيق وتعليق: أحمد محمد شاكر،ومحمد فؤاد عبد الباقي، وإبراهيم عطوة عوض المدرس في الأزهر الشريف، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر الطبعة: الثانية، 1395 هـ - 1975 م.

24 صحيح البخاري ، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، رقم: 2653. 

25 انظر صحيح البخاري، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليه، باب الهبة للولد، وإذا أعطى بعض ولده شيئا لم يجز، حتى يعدل بينهم ويعطي الآخرين مثله، ولا يشهد عليه، رقم: .2586

26 صحيح ابن حبان، كتاب النكاح، باب ذكر إيجاب الجنة للمرأة إذا أطاعت زوجها مع إقامة الفرائض لله جل وعلا، رقم: 4163 تحقيق: حسين سليم أسد الداراني، الناشر: دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1412 هـ - 2000 م. 

27 صحيح ابن حبان ، كتاب الحظر والإباحة، ذكر ما يستحب للمرء أن لا يأنف من العمل المستحقر في بيته بنفسه وإن كان عظيما في أعين البشر، رقم:5675

28 صحيح البخارين كتاب الصلاة، باب الصلاة إلى السرير، رقم: 508. 

29 صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلي رقم: 511، 

30 المجموع شرح المهذب: 1/ 64، دار الفكر. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين