التكافل الاجتماعي

بقلم: د.طه محمد فارس

في ظل ما يعيشه أهلنا في سورية الحبيبة من ظروف استثنائية صعبة في هذه الأيام العصيبة، حيث تقطعت الأرزاق، وانقطعت الموارد، وارتفعت الشكوى، وانطلقت نداءات الاستغاثة، تستثير كرم الخيرين، ونجدة المنجدين، وإيثار المؤثرين، يّجْدُر بنا أن نتكلم عن مبدأ عظيم من مبادئ التشريع الإسلامي، ولازم أكيد من لوازم الأخوة الإيمانية، ألا وهو التكافل الاجتماعي.
حيث ترتقي من خلاله المشاعر الإيمانية، ليقوم أفراد المجتمع المسلم بواجباتهم تجاه بعضهم البعض، ويتضامن أبناء المجتمع سواء كانوا أفراداً أو جماعات، لاتخاذ مواقف إيجابية تصب في مصلحة أصحاب الحاجات، وذلك من خلال رعاية المنكوبين، والجوعى، والمصابين والثكلى، والفقراء واليتامى والمرضى ...
إلى جانب مقاومة كل ما يخل باستقرار وكفاية المجتمع، من أصحاب النفوس المريضة التي تستغل مثل هذه الظروف، وترقص على جراح الناس وآلامهم، كالاحتكار والغش؛ والفساد، واستغلال حاجة الناس، والغلاء ...، وغير ذلك.
متمثلين في كل ما سبق قول الله تعالى:[ وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ] {المائدة:2}.
وإن من تمام الإيمان أن يحب المؤمن لأخيه من الخير والمعروف ما يحب لنفسه، مما يوثِّق بنيان الأخوة الإسلامية، ويدعم أركان المجتمع، ليصبح مجتمعاً متماسكاً متعاوناً، هذا ما أصَّله رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:« لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ». [البخاري:13؛ مسلم:45]، وبقولهصلى الله عليه وسلم: « إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»، وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ. [البخاري:467؛ مسلم:2585]. .
وقد ضرب لنا النبي  صلى الله عليه وسلم مثالاً رائعاً للتكافل والتعاون بين أفراد المجتمع المسلم، فشبه المجتمع المسلم بالجسد الواحد الذي يؤلمه ما يؤلم أعضاءه، فقال  صلى الله عليه وسلم: « تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى». [البخاري:5665 واللفظ له؛ ومسلم:2586].
كما أثنى الله تعالى على أهل المدينة من الأنصار عندما هاجر إليهم إخوانهم المسلمون من أهل مكة، وخلفوا وراءهم أموالهم وديارهم هرباً بدينهم، فما كان من الأنصار إلا أن شاطروهم ديارهم وأموالهم، وضربوا أروع صور التكافل فيما بينهم، فقال تعالى:[وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:9} .
وقد جاء التوجيه والإرشاد النبوي لمن يملك شيئاً زائداً عن حاجته، أن يبذله لمن يحتاجه، محتسباً أجره عند الله تعالى، فقال  صلى الله عليه وسلم:« مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ».[مسلم:1728؛ أبو داود:1663]، وقال  صلى الله عليه وسلم:« مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَلَاثَةٍ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ بِسَادِسٍ». [مسلم:2057].
وجاءت الأحاديث النبوية كذلك لتبين عظيم فضل نفع المسلمين، وقضاء حاجة المحتاجين، وتفريج كربة المكروبين من المسلمين، فقال  صلى الله عليه وسلم: « أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل: سرور يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه ديناً، أو يطرد عنه جوعاً». [ رواه ابن أبي الدنيا، وهو حسن]، وقال صلى الله عليه وسلم:« مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ». [مسلم: 2699].
كما وعد الله تعالى أولئك الذين يبذلون أموالهم في سبيل أن ييسر لهم طريقهم إلى فعل الخيرات وطاعة الله تعالى، التي توصلهم إلى الجنة ونعيمها، فقال تعالى: [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى] {الليل:7}
وأوعد أولئك البخلاء الممسكين لأموالهم عن إنفاقها في طرق الخير وأبوابه، مستغنين عن فضل الله تعالى ومثوبته، أوعدهم بأن يسهل لهم طريق الشر الذي يؤدي بهم إلى النار، حيث لا ينفعه وقد هلك وأصبح مصيره إلى نار جهنم، فقال[فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8) وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى(9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى(11) ]. {الليل}. . كما أخبرنا تعالى عن أولئك الذين يجمعون الدنيا، ثم يمسكونها عن إنفاقها في سبيل الله، فلا يؤدون حق الله فيها، أنها ستكون عليهم وبالاً يوم القيامة، ويعذبون بها، فقال تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ] {التوبة:35} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولئك الذين يجمعون الدنيا ولا ينفقونها في أبواب الخير وطرقه:« إِنَّ الْأَكْثَرِينَ هُمْ الْأَقَلُّونَ، إِلَّا مَنْ قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا ..، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ». [ البخاري: 2258؛ مسلم:94].
وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:« مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا». [البخاري:1374؛ مسلم:1010].
ومما ينبغي أن نعلمه أن التكافل الاجتماعي لا يقتصر دوره على الجانب المادي فحسب، بل يتعداه ليشمل الجانب المعنوي؛ وذلك من خلال ما يسود بين أفراد المجتمع من مواساة وتناصح وتوجيه وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وقد يكون تأخير النصر والفرج عن الأمة بسبب المفاسد والمنكرات التي تنتشر فيها.
وعندما امتدح الله عز وجل الأمة المحمدية بالخيرية بين أن من أخلاقها أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، يدفعها إلى ذلك إيمانها ويقينها بالله رب العالمين، فقال تعالى:. [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ] {آل عمران:110} ، ولذلك توجه الأمر الرباني لهذه الأمة بأن يكون منها جماعة ممن يمتلك القدرة لانتهاج خلق الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال تعالى:[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {آل عمران:104} ، كما جاء الأمر النبوي لجميع أفراد المجتمع الإسلامي بأن يقوموا بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن كل على قدر استطاعته وقدر إيمانه، فقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ». [مسلم:49؛ أبو داود:1140؛ الترمذي:2171؛ النسائي:5008؛ ابن ماجه:1275].
ولعل من أبلغ وأروع ما يمثل لنا ضرورة التناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين أفراد المجتمع المسلم، ذلك المثال الذي ضربه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مجتمع يحوي الصالحين المستقيمين، والفاسدين المنحرفين، فلو أن الصالحين تركوا ما أمرهم الله تعالى به من التناصح والتوجيه والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهلك المجتمع جميعاً، لعموم الفساد في المجتمع وحلول غضب الله تعالى عليه، أمَّا إذا قاموا بما أمرهم الله تعالى به من التناصح والتوجيه والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعند ذلك يزداد الصالحون، ويتلاشى المفسدون، ويعم الصلاح والخير في المجتمع، فقال صلى الله عليه وسلم:«مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا». [البخاري:2361؛ الترمذي:2173].
فإلى كل ميسور وموسع عليه في الدنيا أن يُريَ الله من نفسه خيراً في هذه الظروف العصيبة، فيقوم بواجبه تجاه أمته ومجتمعه وأهله، ويحقق الوظيفة المثلى لما رزقه الله إياه، فيأخذ المال من حله، ويضعه في محله.
وإلى كل صاحب علم ومعرفة وبيان أن يوجه أمته ومجتمعه إلى سبل الحق، ويعزز حقائق الإيمان والرضا بقضاء الله تعالى في نفوسهم، أمام ما يعتريهم من مصائب ومحن ونوازل.
سائلين المولى في علاه أن يكشف الكربة، ويرفع النقمة ويعجل بالفرج والنصر، ويبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز به أهل طاعته، ويذل به أهل معصيته، ويعمل فيه بكتاب الله وسنة نبيه، نعم من يسأل ربنا ونعم النصير إلهنا، والحمد لله رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين