التفكر أس السعادة

الشيخ يوسف الدجوي

موضوع اليوم عن التفكر وفائدته ونتائجه، وبيان أن سعادة الدنيا والآخرة لا تكون إلا بالتفكر الصحيح، ولذلك حث الله عليه وناط الخير كله به في الآيات العديدة، وقد قال زين العابدين بن الحسين رضي الله عنهما: عجبت لمن يرى مخلوقات الله وما فيها من العجائب ثم يشك فيه! وعجبت لمن يرى النشأة الأولى ثم يشك في النشأة الآخرة! وعجبت لمن يرى الدنيا وفناءها ثم يؤثرها على الآخرة مع صفائها وبقائها! أو كما قال.
 
ورأيت أن سبب ذلك كله هو الغفلة وعدم التفكر، مع أن الأمر في غاية الوضوح، فالسموات شاهدة بكواكبها و شمسها وقمرها وحركتها ودورانها في طلوعها وغروبها، و الأرض شاهدة بما فيها من جبالها ومعادنها وأنهارها وبحارها وحيوانها ونباتها، وما بين السماء والأرض وهو الجو مدرك بغيومها وأمطارها وثلوجها ورعدها وبرقها وصواعقها وشهبها وعواصف رياحها، ولا تتحرك ذرة في السموات والأرض من جماد ولا نبات ولا حيوان ولا فلك ولا كوكب إلا والله تعالى هو محركها، وفي حركتها حكمة أو حكمتان أو عشر أو ألف حكمة، وكل ذلك شاهد لله تعالى بالوحدانية، ودال على جلالة وكبريائه وحكمته،:[فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] {يس:83}.
 
وقد حث القرآن على التفكر في هذه الآيات بأبلغ ما يكون وأقصى ما يتصور، مثل قوله تعالى:[إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ] {آل عمران:190}. إلى غير ذلك من الآيات: [وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ] {يوسف:105}. ومع ذلك فنظرك فيك يكفيك.
 
ففيك من العجائب الدالة على عظمة الله تعالى وما تنقضي الأعمال في الوقوف على عشر عشيره وأنت غافل عنه، ولا يزالون يكتشفون من أسرار ما أودع في الإنسان من العجائب حتى الآن وإلى ما شاء الله، مثل الغدد  وأعمالها، و مثل المخ ونقطه التي نيط بكل منها وظيفة مخصوصة مما يحيِّر اللب ويهيج القلب.
فيا من هو غافل عن نفسه وجاهل بها، كيف تطمع في معرفة غيرك وقد أمرك الله تعالى بالتدبر في نفسك في كتابه العزيز فقال جل جلاله:[وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ] {الذاريات:21}. وذكر أنك مخلوق من نطفة قذرة فقال جل وعلا: [قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ(17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ(20) ]. {عبس}.. ويقول تعالى: [وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ] {الرُّوم:20}.
 
ويقول سبحانه[أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى(37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى(38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى(39) ]. {القيامة}.. ويقول جل من قائل: [أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ] {المرسلات:20}.
 
وقد رأيت منذ زمان بعيد أن بعض الفلاسفة الأوروبيين قال: يكفيني في الدلالة على الله تعالى وجود الأنثى بجانب الذكر، وذلك ما أشار إليه القرآن العزيز في قوله:[وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] {الرُّوم:21} .
 
فانظر أيَّدك الله إلى النطفة وهي قطرة من الماء قذرة، لو تركت ساعة ليضربها الهواء فسدت وأنتنت، كيف أخرجها رب الأرباب من الصُّلب والترائب، وكيف جمع بين الذكر والأنثى وألقى الألفة والمحبة في قلوبهم، وكيف قادهم بسلسلة المحبة والشهوة إلى الاجتماع، وكيف استخرج النطفة من الرجل بحركة الوقاع، وكيف استجلب دم الحيض من أعماق العروق وجمعه في الرحم، ثم كيف خلق المولود من النطفة، وسقاه بماء الحيض وغذاه حتى نما وربا وكبر، وكيف جعل النطفة وهي بيضاء مشرقة علقة حمراء، ثم كيف جعلها مضغة، ثم كيف قسم أجزاء النطفة وهي متشابهة متساوية إلى العظام والأعصاب والعروق والأوتار واللحم، ثم كيف ركَّب من اللحوم والأعصاب والعروق الأعضاء الظاهرة، فدوَّر الرأس، وشقَّ السمع والبصر والأنف والفم وسائر المنافذ، ثم مدَّ اليد والرجل، وقسم رؤوسها بالأصابع، وقسَّم الأصابع بالأنامل، ثم كيف ركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء، كل واحد على شكل مخصوص ومقدار مخصوص لعمل مخصوص، ثم كيف ركّب كل عضو من هذه الأعضاء بأقسام أخر، فركب العين من سبع طبقات، لكل طبقة وصف مخصوص وهيئة مخصوصة لو فقدت طبقة منها أو زالت صفة من صفاتها تعطلت العين عن الإبصار، فلو ذهبنا إلى أن نصف ما في آحاد هذه الأعضاء من العجائب والآيات لانقضت فيها الأعمار.
 
ولنقف هاهنا اليوم. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة الأزهر المجلد الثاني عشر شوال 1360هـ الجزء العاشر.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين