التفسيرات الأحمدية للملا
جيون
دراسة في المنهج والاتجاه
والأسلوب*[1]
محمد نوشاد النوري القاسمي
تمهيد:
في بداية المطاف أحمد الله
تعالى وأشكره على أنه وفقني لأعيش برهةً من الزمن في ظلال القرآن الكريم، أتدبر
معانيه، وأتشرف بدراسة موجزة للمنهج التفسيري والاتجاه الفكري لدى الشيخ الملا جيون الصديقي الجونفوري([2])
–رحمه الله – من خلال كتابه الشهير "التفسيرات الأحمدية"، وذلك في عرض
سائغ وبيان مقبول بإذن الله.
إن هذا البحث الموجز يعطي
صورةً إجماليةً عن الكتاب وصاحبه ومنهجه في التفسير والبيان، ويوضح الاتجاه
التفسيري لدى الشيخ الملاجيون رحمه الله، وبالمناسبة وقفتُ وقفةً قصيرةً من
الاتجاهات الفكرية لدى المفسرين، ثم تناولت صُلْبَ الموضوع ببيانٍ وجيزٍ، يكشف
القناع عن الكتاب ومافيه من معاني ومباحث.
ولا يخفى على القارئ
العزيز أن علم التفسير من أشرف العلوم عزًا ، وأرفعها قدرًا، وأسناها مكانًا،
وأغلاها هدفًا، وألذها طعمًا، وأكثرها نفعًا، فهو علم لايذهب بك مذاهب الشطط،
وطرائق الزلل، ولايسير بك في أوهام الناس ولايقحمك في أودية الخيال؛ وإنما هو علم
يريك الصراط المستقيم، ويذكِّرك بمصائر الماضين، ويجول بك في الأنفس والآفاق،
ويشرح لك سنة الله تعالى في الخلق والكون، ويبين لك مايريد منك ربك من المعتقد
والعمل والخُلُق، ويقص عليك قصصا، هي أحسن ما سمعته أذنا الإنسان وأجمل ماقرت به
عيناه وأصدق ما عَلِمه قلبُه، ويربطك بكلام، هو معجز في بلاغته، معجز في معانيه،
معجز في أخباره، معجز في أحكامه، معجز في جليله ودقيقه؛ يربطك بربك، وكفى!
نظرة في الاتجاهات الفكرية لدى
المفسرين:
إن النوع البشري ليس على
مستوى واحد من الفكر والعلم والخيال، وهذا شيء مقرر، ففيه عالم وجاهل، مثقف وأمي،
ومن العلماء متهافتون على اللفظ، ومنهم غارقون في المعاني، ومنهم باحثون في العلة،
ومنهم مجتهدون في النصوص، ومنهم مولعون بالجديد، ومنهم جامدون على القديم، ومنهم
جامعون بين هذا وذاك.
فظل اختلاف الاتجاه
والآراء واختلاف المنهج والأصول سمةً بارزة من سمات العلماء في كل علم وفن، برز
هذا الاختلاف في الاتجاه والمنهج في علم التفسير أيضاً؛ حتى نشأت مذاهب فكرية
ومنهجية في علم التفسير، هذا يمثل مذهب التفسير بالمأثور، وذاك ينطق بلسان مذهب
التفسير بالمعقول، وذالك ترجمان الاتجاه اللغوي، وآخر له صلة بالاتجاه العلمي،
وآخر له منهج أكثر ارتباطا بالاتجاه الإصلاحي، وهكذا وُجدتْ اتجاهات كثيرة في علم التفسير، بمافيها اتجاه التفسير بالأثر
واتجاه التفسيربالرأي، واتجاه التفسير اللغوي واتجاه التفسير العلمي واتجاه
التفسير الإصلاحي واتجاه التفسير الموضوعي واتجاه التفسير الفقهي واتجاه التفسير
الإشاري وغيرها.
نشأ مذهبان في التفسير في
وقت مبكر، عُرِف أحدهما بمذهب التفسير بالمأثور، وعُرِف الثاني بمذهب التفسير
بالرأي ، وكان بين هذين حوارٌ هادئ حينًا، وجدالٌ عنيف أحيانا، وقد وَجَدَ كل من
المذهبين رجالًا وأنصارًا، فأُلِّفَتْ عشرات الكتب مابين صغير كبير ووسيط، لتؤيد مايميل
إليه أصحابها من مذاهب، وما يتبنونه من اتجاهات، وكان الاتجاه اللغوي والفقهي هو
ثالث ورابع الاتجاهات الفكرية لدى المفسرين، مما ظهر ظهورا كبيرا، ووُضعت فيه كتب
كثيرة.
التفسير بالمأثور هو أقدم
الاتجاهات وأيسرها، وهو يعني تفسير القرآن بالقرآن وتفسير القرآن بالحديث وتفسير
القرآن بالمأثور الصحيح من أقوال التابعين وتبع التابعين، وقد اختلف العلماء في عد
أقوال الصحابة والتابعين في التفسير بالمأثور، والصحيح أن ما جاء من أقوال الصحابة
والتابعين وليس هو من قبيل الاجتهاد والقياس فهو محمول على السماع عن النبي صلى
الله عليه وسلم ، وهو مُلزَمٌ قبولُه إن صح سنده.
التفسير بالرأي اتجاه في
علم التفسير، وهو جانب كثُر فيه النزاع والجدل، وانقسم العلماء إلى قسمين: منهم من
يمنع التفسير بالرأي على الإطلاق، ومنهم من يؤيده، واستقر الرأي على أنه جائز
بشروط، ومن الشروط ما يتعلق بأهلية المفسر، ومنها ما يتعلق بنوعية التفسير.
وكتب التفسير بالرأي كثيرة، من أهمها
تفسير البيضاوي وتفسير الرازي وتفسير النسفي وتفسير الخازن.
إن الاتجاه اللغوي لتفسير
القرآن الكريم ليس اتجاهًا ناشئًا، فرضته ضرورة العصر وظروف الزمان؛ بل هو اتجاه
له أصالة وقدم فيما بين الاتجاهات التفسيرية، والمراد بالاتجاه اللغوي هو الاتجاه
الذي يعمد إلى غامض القرآن فَيَحُلُّه، ومشكلِ القرآن فيفسِّره ، وغريبِ القرآن
فيبيِّنه، وإلى الأسلوب القرآني فيوضح مدى بلاغته ويكشف عن وجوه الإعجاز فيه،
فيمكن تقسيم الاتجاه اللغوي إلى ثلاثة أقسام ، وإن كانت في نفسها متداخلة كالآتي:
1- القسم
الأول : مايتعلق بمفردات اللغة، وقد ترك العلماء لنا طائفة من المؤلفات، عُرفت بكتب
غريب القرآن.
2- القسم
الثاني: مايتعلق بالنحو والقضايا الإعرابية.
3- القسم
الثاني: ما يتعلق بالبلاغة والأساليب البيانية.
ومن الكتب التفسيرية التي
تمثل هذا الاتجاه "غريب القرآن" لابن قتيبة، و"غريب القرآن"
للسجستاني، و"المفردات في غريب القرآن" للأصفهاني، ومِن كتب القسم
الثاني "معاني القرآن" للفراء، و"البحر المحيط" لأبي حيان، ومِن
كتب القسم الثالث "الكشاف" للزمخشري، و"في ظلال القرآن" للسيد
قطب، وهناك كتب أخرى كثيرة في هذا الفن.
الاتجاة الفقهي:
أشار القرآن الكريم في أكثر من آية إلى الأحكام
التكليفية للإنسان، وهي آيات كثيرة عدَّها بعض العلماء فقال: إنها خمس مائة، وقال
الآخرون أقوالا أخرى، وأخذ بيان هذه الآيات الشرعية وتفسيرها قسطًا وافرًا من عنايات
المفسرين، حتى تكوَّن اتجاه سُمِّيَ بالاتجاه الفقهي، والاتجاه الفقهي يلتزم ببيان
الآيات التي فيها أحكام شرعية عملية، وقد ترك لنا الفقهاء المفسرون كثيرًا من
المؤلفات، وأودعوها اجتهاداتهم واستنباطاتهم، فكانت ثروة عظيمة.
ومما يجدر تسجيله هنا أن
الاتجاه الفقهي نشأ بشكل مستقل بعد استقرار المذاهب الفقهية المتبوعة، فغلبت على
المفسرين النزعة الترجيحية لما كانوا يتبعونه من مذاهب، فهناك كتب تفسيرية تمثل
المذهب الحنفي، والأخرى تمثل المذهب المالكي، والأخرى تمثل المذهب الشافعي،
والأخرى تمثل المذهب الحنبلي، وبعضها ظاهري وبعضها شيعي وما إليها من الاتجاهات
الفقهية.
وكتب هذا الاتجاه كثيرة كثرة تزيد على
الحصر.
الاتجاه الفكري لدى الشيخ الملا جيون
الجونفوري رحمه الله في تفسير القرآن الكريم:
كان الشيخ أحمد المعروف بـ
الملاجيون الجونفوري أحد رجالات علوم التفسير والفقه والأصول، فكان عالما ضليعا
يُشار إليه بالبنان ومنظورا إليه في عصره فيما يتعلق بمعضلات العلوم وعويصات
الفنون، كان الشيخ من العلماء القلائل الذين جمعوا بين عمق العلم والقدرة على
البيان، حيث كتب الشيخ عددا من الكتب القيمة التي عكفت عليها الأوساط العلمية
واعتبرتها مرجعا هاما في الموضوع، كان الشيخ عالما متمكنا في الفقه الحنفي، عارفا بأصوله وفروعه، ومؤلفا قديرا في المواضيع
الإسلامية.
يُعَدُّ الشيخ واحدًا من
العلماء الأفذاذ الذين سارت كتبهم مسير الركبان، وعمَّت فيوضهم في العلم والأدب،
فكتابه "نور الأنوار على المنار"
استطارت شهرته في الآفاق؛ حيث هو حتى الآن جزء من المقرر الدراسي في المدارس الإسلامية
في شبه القارة الهندية، وكُتبتْ له شروح وشروح ممايدل على مدى قبول الكتاب ونفعه.
و"التفسيرات الأحمدية"
من أعظم كتب الشيخ وأنفعها؛ فهو كتاب لا يوجد له نظير، كتاب يجمع غُرر المسائل
الفقهية المستنبطة من كتاب الله عبارةً أوإشارةً أودلالةً أو اقتضاءً، وقد أُلِّفتْ
في أحكام القرآن كتب كثيرة؛ ولكن كتاب "التفسيرات الأحمدية" يمتاز
بسهولة البيان وجمال العرض وعمق الثقافة وكثرة الأحكام الفقهية وحسن التأويل، وما
إليها.
منهج الشيخ الملاجيون في التفسير:
إن كتاب "التفسيرات
الأحمدية" خير مثال لمنهج الشيخ في التفسير، وهو كتاب يمثل الاتجاه الفقهي في
تفسير كتاب الله تعالى، فلا يعتني إلا بتفسير آيات تتعلق –من قريب أو
بعيد-بالأحكام التكليفية، و منهج الشيخ في الكتاب هو منهج تلقائي، فلا يبدو مقلدًا
لأحد في البيان ولا متبعًا لمنهج فلان وفلان في التفسير، وبما أنه كان عالمًا
حنفيًا متصلبًا، يوضح موقف الحنفية من الآيات القرآنية وتأويلهم ومنهجهم في
الاستخراج والاستنباط والبيان.
وقد سبق أن الاتجاه الفقهي في تفسير القرآن الكريم لم يكن اتجاهًا
جديدًا؛ وإنما هو اتجاه قديم استقر منذ نشوء المذاهب الفقهية وانتشارها، فكان هناك
كثير من العلماء الذين ألفوا كتبا تفسيرية، ترمي إلى بيان آيات الأحكام الشرعية
وحسب؛ وكان لكل مفسر اتجاه وأسلوب؛ ولكن الشيخ الملاجيون الجونفوري افترع طريقة
عذراء لم يُسبق إليها، فهو منهج تلقائي، يميزه عن غيره من المفسرين.
المنهج العام للكتاب:
المنهج العام للكتاب أن
المؤلف الفاضل لا يفسّر كل آية من القرآن، وإنما ينتقي آيات الأحكام، فسورة
الفاتحة لما كانت خالية عن آيات الاحكام طوى المؤلف كشحه عن تفسيرها. ومن أجل ذلك
بدأ تفسير سورة البقرة بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (سورة البقرة: 29)، وذاك أنه يُعني بتفسير آي الأحكام
بالدرجة الأولى دون غيرها، وهو خلاف منهج القرطبي - مثلاً - الذي التزم تفسير
الكل.
وإن الملامح التي ارتسمت في خاطري
بالنظر في الكتاب تتضح فيما يلي:
بيان الراجح من أقوال المذهب الحنفي:
كان الشيخ الملاجيون
الجونفوري عالما موسوعيًا للمذهب الحنفي، فهو يذكر الراجح من أقوال المذهب الحنفي،
ولا يذكر اختلاف الآراء إلا قليلاً، ولايتمكن منه إلا عالم موسوعي خبير، وكذلك
الشيخ الملاجيون؛ فهو مطلع على مصادر الفقه الحنفي ومسائله وماهو الراجح فيه،
ويختار الشيخ في سرد المسائل أسلوبًا هادئًا كأنه بحر ساكن لا يعرف تلاطم الأمواج
وتدافع المد والجزر، فيذكر كل المسائل المتعلقة بالآية والموضوع.
قلة الاعتناء بالدلائل ومناقشتها:
الجدير بالذكر أن الشيخ لا
يُعْنَى بالدلائل ومناقشتها قوةً وضعفًا، فلم يرض لنفسه أن يكون محاميا متعصبا
للفقه الحنفي، لا يقرر له قرار ولا يهدأ له بال إلا أن يقوي مذهبه ويرجح دليله ولو
بالتعسف والشطط، أجل ! شاء أن يكون مبينا لأحكام القرآن وفق ما تقرر في الفقه
الحنفي ، ولا بأس به.
نعم! قد يذكر دلائل المذهب
الحنفي إيضاحًا للمذهب وتحريًا لجانب الصواب فيه، فيقول في تفسير قوله تعالى : "وَرَبَّكَ
فَكَبِّرْ" [سورة المدثر: 3]: "والمراد تكبيرة الافتتاح، وهو ركن عند
الشافعي رحمه الله، لأنه يشترط لها ما يشترط لسائر الأركان، وعندنا هو شرط خارج عن
الصلاة، حتى إن من تحرم الفرض له أن يؤدي بها التطوع، لأنه تعالى قال: وَذَكَرَ
اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (سورة الأعلى: 15)، فقد عقب الصلاة بالذكر، وهو التكبير،
وعطف عليه بالباء، وهو يقتضي المغايرة، ولهذا لايتكرر كسائر الأركان، وإنما روعي
فيه شرائطها لأجل ما يتصل به من القيام على ما سيأتي"([3]).
فذَكَرَ دليل المذهب
الحنفي، ولم يتعرض لدلائل الشافعي، فهو يريد بيان المذهب الحنفي بالدليل، ولا
يُعنى بتغليبه على غيره من المذاهب.
ترجيح عقائد أهل السنة والجماعة:
إن كتاب "التفسيرات
الأحمدية" وإن كان كتاب المسائل دون العقائد إلا أن الشيخ المؤلف لايفوته
التنبيه على صحيح العقائد وسليمها لاسيما في المواضع التي زلَّت فيها أقدام
العلماء والمتكلمين فشطُّوا في أشواطهم وابتعدوا عن الصواب كالكرامية والمعتزلة.
ومن الأمثلة على ذلك قوله
في تفسير قوله تعالى: "ثم استوى إلى السماء" [البقرة: 29]أي قصد إليها
بإرادته أو استولى عليها وهو في اللغة طلب السواء وهو لايليق في حقه تعالى، فحمل
على ماذكرنا من المعنيين أو جعل من المتشابهات، فلا تمسك به للكرامية في إثبات
العلو والمكان له تعالى"([4]).
أما آيات صفات الله تعالى
في القرآن فلم يتعرض لها الشيخ كثيرا إلا في موضع واحد، وهو تفسير آية الكرسي،
فلاشتمالها على كثير من صفات البارئ سبحانه أراد الشيخ أن يذكر تفسير هذه الآية
الكريمة بذكر عظمة الخالق وقوته وعلمه، يقول الشيخ في تفسير هذه الآية:
"هذه الآية آية
الكرسي، وهي جامعة للتوحيد والصفات بأحسن وجه وأكمله، فلذلك اخترتها من بين
أخواتها، ثم يقول: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إثبات للألوهية ودال على
التوحيد والنزاع في تقدير الوجود والإمكان، أي لا إله موجود إلا هو أو لا إله ممكن
إلا هو، مشهور فيما بين العلماء مع الشبهة والجواب، وقوله تعالى: الْحَيُّ أي
الذي يصح أن يعلم ويقدر أو الباقي الذي لا سبيل للفناء إليه على ما في الكشاف، فيه إثبات حيويته، وهو حي
بحيويته الأبدية والأزلية، وقوله: الْقَيُّومُ أي الدائم القائم بتدبير
الخلق وحفظه، فيه إثبات لاستقلاله وعدم إعانة غيره لا في أمره، ولا في أمر غيره، وقوله
تعالى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ: السِّنة فتور يتقدم النوم،
وقيل: السنة ثقل في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب على مافي المدارك، وهو
دال على نفي الغفلة عن نفسه، ونفي ما يكون من صفات الحدوث وهو تأكيد للقيوم، لأن
من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوما، ولو أخذه السنة والنوم لزال السماوات
والأرض عن الإمساك، وفي قوله تعالى: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ إثبات مالكيته ونفاذ أمره وتصرفه ونفي شريكه إذ جميع ما في السماوات
وما في الأرض ملكه، فأنى يكون له شريك؟ ويدخل فيه نفس السماوات والأرض أيضا؛ بل هو
أبلغ من قوله تعالى له السماوات والأرض وما فيهن، وقوله تعالى: مَنْ ذَا
الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ بيان لعظمة شأنه وكبريائه وإثبات
هيبة ربوبيته، وفيه دليل على نفي الشفاعة للكفار على مافي الزاهدي، وأقول : يلزم
منه جواز الشفاعة بعد الإذن في الجملة للمؤمنين، فيكون ردا على المعتزلة في إنكار
الشفاعة لأهل الكبائر، وقوله تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا
خَلْفَهُمْ أي ما قبلهم وما بعدهم أو أمور الدنيا والآخرة، أو ما يدركونه وما
لا يدركونه، والضمير لما في السماوات والأرض أو لما دل عليه من ذا على ما في
البيضاوي، وهو دليل على إثبات كمال علمه، وقوله تعالى: وَلَا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ أي معلوماته، بيان لعجز الخلق
وجهلهم بأصل الخلقة، وأقول: في إطلاق لفظ علمه دليل على أن له علمًا قائمًا بذاته،
فيكون ردًا على المعتزلة؛ لأنهم قالوا عالم بلا علم، بخلاف قوله تعالى يعلم وعالم،
فإنهم يطلقونه عليه أيضا، وقوله تعالى: "إلا بماشاء" فيه إثبات مشيئته
وإرادته تعالى، وقوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
إما تصوير تعظيمه أو تمثيل مجرد، أو الكرسي مجاز عن العلم أو الملك أو القدرة فيدل
على إثبات علمه وملكه وقدرته أو هو العرش أو هو جسم تحت العرش، كما ورد في الحديث، وهو فلك البروج عند الحكماء على ما
قالوا، وقوله تعالى: وَلَا يَؤُوده حِفْظُهُمَا أي لا يثقله حفظ السماوات
والأرض، فيه إثبات كمال قدرته وتخليق الأشياء بإرادته دون الآلات، وقوله تعالى: وَهُوَ
الْعَلِيُّ أي المتعالى عن الأنداد والأشباه، الْعَظِيمُ أي مستحقر بالإضافة إليه كل
ما سواه، فيه إثبات علوه عن صفات الحدوث، وعظمته في عزه وجلاله وملكه وسلطانه"([5]).
ففي تفسير آية الكرسي سرد الشيخ
الملاجيون عقائد أهل السنة والجماعة بأسلوبٍ سهلٍ بدون التعريج على دلائلها، وفي
غضون البحث ردَّ على المذاهب الفاسدة، وهذا دأبه في الكتاب كله.
موقفه من السلف والخلف في العقيدة:
في تفسير قوله تعالى: هُوَ
الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ
الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [سورة آل عمران: 7] أوضح الشيخ أن في العقيدة
مذهبين: مذهب السلف ومذهب الخلف، يقول في الإجابة عن سؤالٍ حاصله: ما الفائدة في
إنزال المتشابهات؟: فالجواب أن في إنزالها ابتلاء للراسخين ونهيهم عن متمناهم،
فكما أن الجاهل يُبلَى بالتعلم جبرًا على خلاف هواه، كذالك العلماء يُبتلَون
بالتوقف عن اعتقاد حقية المراد على خلاف متمناهم الذي هو الحرص على زيادة علم كل
شيء، وهذا هو عند المتقدمين، وأما المتأخرون فلما عاينوا فساد الزمان حيث يحمل بعض
الملاحدة آيات الصفات على ظاهر معانيها التي يلزم منها الجهة والمكان والعورة لله
تعالى، وكون آدم عليه السلام عين روح الله وغيره، وعاينوا ضعف اعتقاد الأنام من
الشرائع أفتوا بجواز تأويلاتها بمعاني تخرج الآيات عن العقائد الفاسدة، وتوافق
عقائد أهل السنة التي عليها الصحابة والتابعون على ما نص به في بعض كتب
الأصول"([6]).
وبذلك نرى أن الشيخ لايفوته التنبيه
على الأشياء المهمة في كل موضع مناسب، مما يجعل الكتاب مرجعًا هامًّا في الباب.
ذكر القواعد الفقهية :
كان الشيخ عالمًا أصوليًا كبيرًا،
وقد شرح كتاب المنار في أصول الفقه الحنفي شرحًا وافيًا باسم "نور الأنوار
على المنار"، رزقه الله تعالى ذهنًا ثاقبًا وذاكرةً قويةً، وبذلك استطاع أن
يستنبط القواعد الفقهية من خلال السباحة في بحر الآيات القرآنية الكريمة، فقلما
وجد الشيخ آية، من شأنها أن تشير إلى القواعد إلا ويبادر إلى استخراجها وتوضيح
مدلولها وكيفية الدلالة عليها، ومن القواعد التي أرسى الشيخ دعائمها بالنصوص
القرآنية مايلي:
(أ) الأصل في الأشياء الإباحة:
هذا أصل مختلف فيه، استدل
الشيخ الملاجيون الجونفوري على إثباته بقوله تعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَ
لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا"[سورة البقرة:29]، فهو يقول: "يمكن
أن يستدل بها على أن الأصل في الأشياء الإباحة كما هو مذهب طائفة بخلاف الجمهور،
فإن عندهم الأصل هو الحرمة ... وبالجملة ففي الآية دليل على كون الإباحة أصلا في
الأشياء، صرح به صاحب الكشاف حيث قال: قد استدل بقوله تعالى خلق لكم على أن
الأشياء التي يصلح أن ينتفع بها ولم تجر مجرى المحظورات في العقل خلقت في الأصل
مباحةً مطلقا، لكل أحد أن يتناولها وينتفع بها"([7]).
(ب)الإجماع حجة كالكتاب والسنة،
ومخالفته حرام:
أثبت الشيخ حجية الإجماع
وحرمة مخالفته بأكثر من آية، ورد على من خالفه ، وجاء بكلام مشبع في تفسير قوله
تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ
جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [سورة النساء : 115]حيث قال : "والحاصل أن هذه
الآية هي التي تدل على أن الإجماع كالكتاب والسنة كما ذكر أهل الأصول والمفسرون
جميعا، وذلك لأن الله تعالى جعل اتباع غير سبيل المؤمنين كمشاقة الرسول عليه
السلام حيث جعل كلا منهما مشتركا في جزاء واحد وهو " نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى
وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ، فالآية تدل على حرمة مخالفة الإجماع؛ لأنه تعالى رتب الوعيد
الشديد على المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين"([8]).
(ج)القياس حجة شرعية:
ذكر الشيخ مسئلة القياس،
وردَّ على من أنكر القياس استدلالاً بالآية: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(سورة النساء: 59)،
فقال: "وبالجملة قد استدل به منكروا القياس على أن القياس ليس بحجة؛ لأن الله
أوجب رد المختلف إلى الكتاب والسنة دون القياس، ولنا أن ندفع شبهتهم بأن رد
المختلف إلى الكتاب والسنة إنما هو بالقياس عليهما، يدل عليه لفظ الرد، ولما أمر
به بعد إطاعة الله وإطاعة الرسول دل على أن الأ حكام ثلاثة، مثبت بظاهر الكتاب
ومثبت بظاهر السنة ومثبت بالرد عليهما على وجه القياس، فكانت الآية حجة لنا في أن
القياس حجة"([9]).
كما أن الشيخ استدل على حجية القياس
بآيات أخرى أيضا.
الاعتناء بالأحكام الفقهية:
قد
ذكرت أن كتاب التفسيرات الأحمدية يمثل الاتجاه الفقهي، فقد انصب اهتمام الشيخ
الملاجيون الجونفوري على استيعاب آيات الأحكام في القرآن، مع الإشارة إلى ما يُستنبط
منها من أحكام ومسائل فقهية، فهذا موضوع الكتاب.
ومن أمثلته على ذلك ما
قاله الشيخ في تفسير قوله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [سورة البقرة: 233]: "وفي قوله تعالى وعلى
المولود له الخ إشارة إلى أن النسب إلى الآباء، وإلى أن للأب حق التملك في مال ولده،
وأنه لايعاقب بسببه كالمالك بمملوكه، لأنه نسب إليه بلام الملك، وإلى انفراد الأب
بتحمل نفقة الولد، لأنه أوجبها عليه بهذه النسبة ولايشاركها فيه أحد، وإلى أن
الولد إذا كان غنيا والوالد محتاجا لم يشارك الولدَ أحد في تحمل نفقة الوالد، وفي
قوله تعالى رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ إشارة إلى أن أجرة الرضاع
يستغني عن التقدير بالكيل والوزن كما قال أبوحنيفة"([10]).
الاعتناء بأسباب النزول:
الجدير بالذكر أن الشيخ
ينص على أسباب النزول للآيات التي يريد تفسيرها، فيذكر الأسباب من الكتب الموثوق
بها في التفسير، وفي ضوء الأسباب يفسر الآيات، وبعدها يوضح ما تشتمل عليه الآيات
من معاني وأحكام.
الحاصل أن التفسيرات
الأحمدية كتاب جامع لأحكام القرآن الكريم، يحتوي على تفسير غرائب القرآن وأحكامه
الفقهية وأُلِّف في أسلوب سردي سهل، مع بيان مشرق.
الشيخ الملاجيون في سطور
هو العالم الهندي الكبير،
المفسر النابغ، الفقيه البارز، الأصولي البارع، المؤلف القدير، الشيخ أحمد المعروف
بالملاجيون الجونفوري الصديقي، ينحدر من سلالة عربية ينتهي نسبها إلى سيدنا أبي
بكر الصديق رضي الله عنه، هاجرت إلى الهند، وتوطنت في مدينة جونفور، التي تُعد
آنذاك عاصمة العلم والأدب، وملتقى العلماء والفضلاء، وفيها ولد الشيخ الملاجيون([11])،
وهنا نشأ وتلقى التعليم الابتدائي، ثم أكمل دراسة العلوم الإسلامية والأدبية لدى
الشيخ لطف الله الكوروي، ولما فرغ من التحصيل بدأ تدريس الكتب وتخريج الرجال في
مدينة جونفور، فاشتهر أمره ونبه ذكره، حتى بلغ أمره السلطان شاهجهان، وكان في ذلك
الوقت يبحث عن مدرس قدير، يقوم بتربية ابنه أورنك زيب عالمكير، فهُدِيَ إلى الشيخ
الملاجيون، فدعاه وعينه أستاذًا ومربيًا لابنه، وكان أورنك زيب عالمكير يحب أستاذه
ويكرمه، ويتعامل معه بكل أدب، وقد أقطعه السلطان أورنك زيب عالمكير أراضي كبيرة في
أميتهي بقرب لكناؤ، فانتقل الشيخ إليها، ومكث هناك هو وبعض ذريته؛ ولكن الشيخ مع
ذلك لم يترك مدينة جونفور، فكان يزورها بين فينة وأخرى، وهكذا ظل الشيخ رجلًا
مكرمًا محظيًا بالعناية والإكرام لدى سلاطين الهند، منذ السلطان شاهجهان إلى أبناء
السلطان أورنك زيب عالمكير، ولدى العامة والخاصة([12]).
كان الشيخ غاية في البساطة
وهضم الذات، وكان مولعا بالعلم، تفرغ لنشر العلم وخدمته، وكان ذا حافظة قوية
وذاكرة نادرة، كان يتلو نصوص الكتب الدراسية صفحات وصفحات اعتمادا على حفظه، وكان
يحفظ قصيدة طويلة بسماعه مرة واحدة.
تشرف بزيارة الحرمين
الكريمين وصرف عمره العزيز في التدريس والتأليف وتخريج الرجال وإصلاح العامة.
توفي في مدينة جونفور عام
ألف ومائة وثلاثين، ودفن في مقربة قريبة
من مصلى جونفور، وقبره يُزار([13])،
وقيل: إنه تُوفي بدهلي دار الخلافة عام ألف ومائة وثلاثين، ونقل جسده إلى أميتهي
ودفن هناك([14]).
ومن مصنفاته التفسيرات الأحمدية ونور
الأنوار شرح المنار في أصول الفقه وما إليها.
خاتمة:
وفي آخر الأشواط يجب أن
أذكر أهم النتائج والتوصيات التي توصل إليها الباحث، وهي كالتالي:
1-
إن علم التفسير أشرف العلوم على الإطلاق، وذلك لوجوه مسرودة في البحث.
2-
نشأت مذاهب فكرية ومنهجية في علم التفسير، بما فيها التفسير بالمنثور والتفسير
بالمعقول والتفسير الفقهي والتفسير الإصلاحي والتفسير اللغوي والتفسير الإشاري
والتفسير السياسي والتفسير العلمي والتفسير الموضوعي وما إليها.
3- منهج
الشيخ الملاجيون في التفسير هو منهج تلقائي متميز.
4-
إن التفسيرات الأحمدية تمثل الاتجاه الفقهي وفق المذهب الحنفي.
5- ومع
أن التفسيرات الأحمدية كتاب المسائل دون العقائد، إلا أنه في بعض المواضع الهامة
أشار إلى صحيح العقائد وما لصق بها من شكوك.
6- إن
الشيخ الملاجيون يؤيد كلا من مذهبي السلف والخلف في العقيدة، ويحمل الكلام على
محامل صحيحة.
7- الكتاب
يأتي بذكر القواعد الفقهية واستنباطها.
8- ومن
التوصيات التي أريد أن أذكرها هو أن الكتاب في حاجة إلى الخدمة، فقد طُبع في مصر
والهند وباكستان طبعة قديمة خالية من التعليق والتحقيق والتصحيح حتى التبويب، ومثل
هذا الكتاب لايُهمل أمره ولايُترك شأنه، ثم إن خدمة الكتاب لاتعني خدمة واحد من
كتب التراث وحسب؛ بل هي –كذلك –خدمة لكتاب الله العزيز، الذي لايشقى جليسه
ولاتنقضي عجائبه.
وصلى الله على سيدنا
ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] * مقال قُدم إلى
الندوة الوطنية، التي نظمها قسم اللغة العربية بالجامعة الملية الإسلامية، نيو
دلهي في رحاب الجامعة في الفترة بين 17-18 فبراير عام2016م، حول موضوع
"التراث العربي في الهند" بالتعاون مع منظمة العالم الإسلامي للتربية
والعلوم والثقافة (الإيسيسكو)، وتم نشره في مجلة الصحوة الإسلامية الصادرة عن
الجامعة الإسلامية حيدرآباد في السنة: 30، العدد: 76، جمادى الأولى 1438ه- فبراير
2017م.
([2]) كان الشيخ
الملاجيون ينحدر من سلالةٍ صديقيةٍ، هاجرت إلى الهند وتوطنت في مدينة جونفور، ولم
يُعرف متى سكنت هذه الأسرة مدينة جونفور، وقد أقطعه السلطان أورنك زيب عالمكير
قريةً في أميتهي بالقرب من مدينة لكناؤ، فسكنها هو وذريته، ومع ذلك لم يترك
جونفور، فسكن بعض أولاده جونفور، وبعد سقوط جونفور انتشرت ذريته ورجال أسرته في
مدن هندية مختلفة. (انظر: سيد إقبال أحمد، تاريخ شيراز هند جونپور، ص658-662)،
والمثير للعجب أن الشيخ غلام علي آزاد البلغرامي صاحب كتاب "سبحة المرجان في
آثار هندستان"، والشيخ عبد الحي الحسني صاحب كتاب "نزهة الخواطر"
لم يذكرا شيئًا عن انتماء الشيخ إلى مدينة جونفور، مع أن هذا معروف في الأسر
الجونفورية المنتشرة في مختلف المدن الهندية، لاسيما في عدد من مديريات يوبي
وبيهار.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول