التعليم في المناطق المحررة آلامٌ . . وآمال (1)

العلم والتعليم أولى التوجيهات السماويّة التي أُمر بها المصطفى صلّى الله عليه وسلّم؛ ليجعلها مصابيح من نورٍ في طريق البشريّة ليهتدوا إلى طريق السعادة والنور.

فالعلم هو الغذاء الشافي للروح والعقل، يفتح القلب فيزيده نورًا وبصيرةً، ويُهذّب النفس، ويعدّل السلوك، ويُخرِّجُ الفردَ السويَّ الصالح القادر على إدارة ذاته وحياته ومجتمعه... ويُعدّ التعليم من الأمور الأساسيّة لأيّ مجتمعٍ، فهو الذي يُكسِب الإنسان المعرفة الحقيقيّة التي تعينه على تطوير ذاته ومجتمعه؛ فيسعى نحو الإصلاح والبعد عن الفساد فيعيش حرًّا سعيدًا.

التعليم في مناطق سيطرة الثوار: بدايات وآلام.

تأثّر التعليم في سوريا كثيرًا بسبب الظروف الجائرة للحرب التي مضى على بدئها أكثر من سبع سنوات، وكذلك بسبب النزوح وتراجع الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، فمنذ أن خطّت أنامل أطفال درعا على جدار إحدى مدارسها "يسقط النظام" تحوّلت المنشآت التعليمية والمدارس وطلابها إلى هدفٍ مشروعٍ لنظامٍ لا يملك الشرعيّة، وإنّما كلّ ما كان يملكه هو همجيّة حوّلها بكل جرائمه إلى دمارٍ أصاب كلّ ما يحيط به، لقد حوّل مراكز العلم إلى معتقلاتٍ وسجونٍ للثوار، وجعل من أسطحها أبراجًا للقنّاصين لإزهاق الأرواح بدل إحيائها، فأصبحت متاريس عسكريّة لحماية قصوره.

وما إن بدأت رقعة المناطق المحررة تزداد من درعا جنوبًا إلى حلب وإدلب شمالًا، ومن ريف اللاذقية غربًا حتى الجزيرة والبادية شرقًا مرورًا بحمص وغيرها؛ حتى أصبحت مدارس هذه المناطق هدفًا لجميع أنواع القصف بالطيران والبراميل المتفجرة وبأنواع الأسلحة كافّة، وعمل على حرمان المناطق الثائرة من المخصصات التعليميّة والاحتياجات اللازمة، وبدأ باعتقال المئات من الكوادر التعليميّة من أبناء المناطق الثائرة، إضافةً إلى قتل وتشريد فئةٍ كبيرةٍ منهم.

هذه الوحشيّة أدّت إلى خسارة الكثير من الطلاب والمعلمين حياتهم، وبدأ الانقطاع عن التعليم يزداد يومًا بعد يوم، فضاعت الأعوام الدراسيّة الكاملة على عددٍ كبيرٍ من الطلاب، وحُرمت فئةٌ منهم من التعليم نهائيًّا بسبب القصف المستمرّ والظروف الحياتيّة الصعبة.

وهكذا قام النظام المجرم بتدمير أكثر من /2300/ مدرسة، وحَرَمَ ملايين الطلاب من مدارسهم وتحصيلهم العلميّ.

إنّ إدراكَ الأحرارِ لأهميّة العلم في حياة الشعب السوريّ وخطر الجهل على الجيل جعلهم ينطلقون في تنظيم التعليم من خلال مبادراتٍ فرديّةٍ لتلبية الواجب في تعليم أبنائنا، متَحَدّين المخاطرَ العظيمة والهمجيّة التي اتّبعها نظام الأسد في محاربة العلم والتعليم باستهدافه المنظّم للمدارس والطلاب والكوادر التعليميّة، فمن قصف إلى تشريد إلى اعتقال...

إنّ كلّ الويلات التي صبّها قصف النظام على المناطق المحرّرة لم تُثنِ من عزيمة الأحرار، فقد بدأ المختصّون في مجال التربية من الثوار بتعليم الأطفال في البيوت والأقبية والمساجد وسرعان ما طوّروا عملهم، حيث أسسوا المكاتب التعليميّة المرتبطة بالمجالس المحليّة، وبدؤوا بإعادة تأهيل المدارس وافتتاحها.

كانت الصعوبات جمّة، وكان من أكثرها تعقيدًا نقصُ الكوادر التعليميّة، ونقصُ الكتب المدرسيّة، وتخوّف الأهالي من إرسال أبنائهم إلى المدارس خوف القصف.

أخذ المعلّمون المتطوّعون على عاتقهم العمل على تجاوز العقبات للانطلاق بعمليّة التعليم المدرسيّ؛ لأنّهم كانوا على يقين أنّ هذه المرحلة من أهم المراحل التي يُعتمد عليها في بناء البلد والتطوّر والنمو المستقبليّ للجوانب المجتمعيّة جميعها، فبدؤوا بإعداد المعلّمين المتطوّعين بتنظيم دورات تأهيلٍ تُسهم في رفع سويّة المعلّم، وقاموا بتصوير الكتب المدرسيّة من خلال التواصل مع الجهات الداعمة، وتطوّر الأمر لطباعة الكتب، ونظّموا حملاتٍ لتشجيع الأهالي لإرسال أبنائهم إلى المدارس لمتابعة تحصيلهم العلميّ؛ كي يتخرّجوا جيلًا منتجًا فاعلًا قادرًا على التفكير السليم متطلعًا نحو البناء والإبداع، يسعى لاستخدام قدراته ومواهبه كافّة من أجل إعمار وطنه.

وعلى الرغم من تعرّض قطّاع التعليم -خاصّة المدارس- إلى الاستهداف المباشر من قبل طيران النظام وحلفائه، حيث دُمّر ما يقارب /2300/ مدرسة بالقصف إمّا تدميرًا كليًّا أو جزئيًّا -كما سبق- فإنّ العمل التعليميّ لم يتوقّف بل تطوّر تطوّرًا ملحوظًا.

وبما أنّ الثورة السوريّة ثورة فكر ووعي، وبما أنّ الشعب لا يموت، فقد بدأ الغيورون على أبنائهم بإنتاج الحلول، وإن كانت غير جذريّة، ولكنها محاولات لاستئناف العمليّة التعليميّة، وتعويض الطلاب ما فاتهم، انطلق التعليم في المناطق المحررة عام /2012/ بمبادرات فرديّة وبدأ تشكيل المكاتب التعليميّة، وتوّج العمل بإنشاء الهيئة الوطنيّة للتربية والتعليم، التي أشرفت على امتحانات الشهادة الإعداديّة والشهادة الثانويّة التي أجريت لأول مرة في مناطق سيطرة الثوار في 29/آب/2013، حيث تقدّم للامتحانات /9484/ طالبًا وطالبةً، في /113/ مركزًا امتحانيًّا، /29/ منها في حلب وإدلب، و/11/ في ريف دمشق، و/9/ في الرقة، و/7/ في دير الزور، و/13/ مركزًا في دول الجوار.

وبذلك أثبت الشعب السوري أنّه قادرٌ على إدارة المؤسسات التعليميّة وإنجاحها متحدّيًا كلّ ما يصادفه من معوّقات.

المناهج المعتمدة:

اعتمد القائمون على التعليم المنهاج السوريّ السابق المطبّق قبل الثورة، ولكن بعد تصحيح المسار التعليميّ فيه قدر الإمكان وضمن الجهود المتواضعة والوقت المتاح، وذلك من خلال حذف كلّ ما له علاقة بالنظام السوريّ وحزب البعث، كذلك طالت التعديلات كلّ ما له علاقة ببناء شخصيّةِ التلميذ السوريّ الذي تشرّب سابقًا عقليّة الحزب الواحد والمتحكّم الظالم الواحد، إضافة إلى المعلومات التي تتعلّق بالعلاقات مع دول الجوار.

أشرفت الهيئة الوطنية على هذه التعديلات إلى أن تمّ اعتمادها من قبل وزارة التربية في الحكومة السوريّة المؤقتة، حيث أُوكلت مهمّة تنقيح المناهج وتعديلها وتهذيبها إلى مجموعة من الخبراء والاختصاصيين والموجّهين الذين جعلوا من المضمون العلميّ للمناهج مبدأ ثابتًا حافظوا عليه حرصًا منهم على معايير المناهج واعتماديّتها، ولكن بقيت هذه المناهج تعاني القصور العام الذي تراكم فيها لعشرات السنوات في فترة تسلط نظام العصابة؛ نتيجة لتدمير كوادرنا التعليمية ومنعها من الاستفادة من التجارب الحديثة في تلك الحقبة المظلمة من تاريخ بلادنا.

وقد تمّت طباعة الكتب المعدَّلة لأكثر من مرّة من قبل وزارة التربية في الحكومة السوريّة المؤقّتة وبعض المؤسسات الخيرية السورية والدولية.

ومع استمرار الثورة السوريّة أصبحت الحاجة ملحّة لتعديل المناهج وتطويرها بما يتوافق مع التطوّر العلميّ، وتصحيح مسار الهدف التربويّ الذي اعتمدَهُ النظامُ في المناهج، وهذا يحتاج خططًا استراتيجيّةً تَعتَمِدُ على مستوياتٍ تربويّةٍ متطوّرةٍ للخروجِ بمخرجاتٍ جيّدةٍ لمستقبلٍ أفضلَ للجيل القادم تضمَنُ مركزيّة التعليم ووحدة أهدافه.

المصدر: العدد الثالث من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين