التعليق على تعقبات مقال: محل العقل من العلم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم، وبعد:

فهذه تعقبات على تعليقات مقال محل العقل التي أبداها بعض الفضلاء:

الأول: ذكر المعلق الفاضل أن تطرقي للبحث مع ابن تيمية لم يكن في موضع الحاجة حال البحث مع الأستاذ أكرم الندوي في مقاله عن وظيفة العقل، وجوابه: أن الاستطراد للبحث مع ابن تيمية استدعاه أنَّ عامَّة أتباعه يعولون على مقدمته في كتاب العقل والنقل، ولا يتكلَّفون مطالعة كتب المتكلمين لأنـهم لا أُنس لهم بـها ولا بفنِّ الكلام أصلا إلا في النادر.

ولهذا فعامة ما ينسبونه للمتكلمين فعمدتـهم فيه ابن تيمية، فيما غلط فيه وفيما أصاب، وفي مقال الندوي من الإيـهام ما يشبه إيـهام ابن تيمية في صدر كتاب (العقل والنقل) فاستدعى هذا البحث مع ابن تيمية.

الثاني: قال المعلق: نسبة إنكار حكم العقل للندوي خطأ، وجوابه: بأن ما بعده من الكلام يبين وجه كلامي، فقد صرحت بأن هذا يوهمه كلام الندوي، وهو لا يعتقده ولا يقوله، فهذا التعقب ضائع.

الثالث: زعم المعلق أن كلام الندوي عن الفلاسفة وبعض المتكلمين! وهذا غير صحيح، بل الندوي أطلق نسبة تقديم العقل على النقل للمتكلمين، وهذا ظاهر جداً في مقاله، وقوله: إن الندوي لم يقل: إن المتكلمين يقابلون النقل برده إلى حكم العقل غريب منه أيضا، فهذا موضع مقاله، نعم لم يقله بـهذا اللفظ لكنه معناه ومحل بحثه.

الرابع: قال: كيف يكون ظاهر كلام الشيخ الندوي يشبه قول من لا يرى مصدرا للعلوم إلا الحسيات وقد قرر في بداية المقال مصادر العلم بالـ (الفطرة - الحواس الخمس - الوحي) أظن أن ثمة تقويل في ذلك.

وأقول: لم يذكر الندوي في مصادر العلم (العقل) فليس ثمة تقويل، ولا يقال: إن حصر المصادر في الحسيَّات يلزم منه التقول عليه، لأن المقصود أن حصره إيَّاها فيما ذكر يلزم الندوي عدم اعتبار العقل منها، وهو مغالطة، ثم بينا أنه لا يقصده بل العبارة أوهمته فاعتذرنا عنه فأين التقول؟!

الخامس: قال المعلق: ومما يؤخذ على كلام الشيخ بلال تقريره وجوه تقييد أحكام الشرع بالعقل بوجوه صحيحة شرعا واستدلاله بكلام الغزالي وابن عقيل وتعميم ذلك على مسائل العقيدة والغيبيات! والواقع أن ما نقله عن ابن عقيل والغزالي إنما هو في جانب مسائل الفقه عبادات ومعاملات. والزج بطرائق الاجتهاد في الفقه وأصوله في أبواب ومسائل العقيدة والغيبيات خلط غير مفهوم.

وأقول: هذا سوء فهم، فإن القصد من ذلك معارضة كلام ابن تيمية الذي نقل عن المتكلمين ما أسماه (قانونا) وأوهم بتعميم غير محمود أنـهم يردون بـهذا القانون شرائع الأنبياء، فنحن قابلنا هذا التعميم ببيان أن القوم لو كان كما زعم ابن تيمية لما قبلوا أخبار الشارع في الأحكام، فقبولهم لها دليل على بطلان تعميمه، بل نحن ذكرنا أنَّ ردها لا يستقيم حتى في أخبار الصفات، لأن القوم تأوَّلوها أو فوَّضوها فلو كانوا يردونـها بإطلاق لما اضطروا إلى تأويلها أو تفويضها.

ولهذا يضطر ابن تيمية تارة إلى دعوى أن التأويل أو التفويض تعطيل لها وبالتالي ردها، وهذا ليس محل البحث معه هنا، لأن مرده الخوض في مسائل الصفات، فكان يتعين على ابن تيمية حصر دعوى أن المتكلمين يردون أخبار الشارع بـهذا القانون في أخبار الصفات، ولكنه لم يصنع بل أطلق إطلاقا موهما اقتضى التنبيه عليه، لكن المعلق لم يدرك وجه التعقب فاندفع يعترض كالـمُهدِّر في العُنَّة!

وأيضا فهناك وجه آخر لذكر هذا الأصل في الأحكام واستدعائه في أخبار الصفات، وهو التنبيه على أن هذا الأصل في قبول أخبار الأحكام يطَّرد في أخبار العقائد، لأن الأصل عند ابن تيمية أنـهما باب واحد من التشريع، وبالتالي يطرد الأصل في البابين بنفي الفارق، فإذا ساغ تخصيص بعض أخبار الآحاد في باب الأحكام بالعقل، أو ردها بمخالفة صرائحه، جاز مثله ولا فرق في أخبار الصفات، وتاليه بطلان ما زعمه من التشنيع على قانون المتكلمين، وهذا ظاهر.

السادس: قال: لا يستقيم توجيه قول ابن تيمية (ردوا ما جاء به الأنبياء) بأنه يقصد جحودهم بالنصوص أو رفض نسبتها للوحي! فرد ما جاءت به الرسل قد يكون بالتأويل، كتأويل الباطنية والجهمية، فصنيعهم نوع ردّ لما جاءت به الرسل. لكن قد يُعترض على كلام ابن تيمية في صحَّة نسبة ذلك لفرقة أو مدرسة أو طائفة كبعض المتكلمين.

وهذا من الحميَّة لابن تيمية بلا علم، وإلا فكلام ابن تيمية صريح في أنَّ المتكلمين ردوا ما جاءت به الأنبياء، وقول المعلق: قد يكون الرد بالتأويل تعسف ومصادرة على المطلوب فيقال له: والإثبات أيضا يقتضي التجسيم عند مخالفيه، وهو باطل بالنص والإجماع فيلزم أن المثبت كابن تيمية ناسبٌ للشرع ما ليس منه، فإن قال: الإثبات طريق من طرق السلف؟ قيل: وكذلك التأويل، فيعود البحث إلى أصل النزاع في مسائل الصفات.

وهو يقول: إن التأويل نوع رد، فيقال: خبرنا عن هذا التأويل هل هو باطل كله أم منه باطل ومنه حق؟ فإن قال: كله باطل، فقد أقر بالجهل لثبوت التأويل عن السلف في الأخبار، فلا كلام معه لأنه من جنس اللعب.

وإن قال: التأويل الثابت إنما هو في الأحكام دون أخبار الصفات، طولب بإقامة الدليل على الفرق وإلا فهو تحكُّم وهو باطل، وأيضا فأصل ابن تيمية أن باب الأحكام والعقائد واحد في قبول الأخبار الشرعية، فالفرق باطل على أصل ابن تيمية الذي يقلده المعلق.

وإن قال: إنَّ التأويل منه حق وباطل، قيل: ما ضابط الفرق بينهما، فلا مفرَّ له من أن يقول: الدليل، فالتأويل بدليل حق وبلا دليل باطل، فقد أقر ببطلان تعليقه في دعوى أن التأويل نوع رد على تعميمه هذا، وكان صوابه أن يقول: إن التأويل بلا دليل نوع رد للشرع، فيقال له: فالمتكلمون ليس فيهم من يتأول خبراً صحيحا بلا دليل، وبه يظهر تهافت كلامه.

السابع: قال على مسألة أول واجب: محلّ الإنكار؛ أن كلامهم (أول واجب على العبد النظر) مُوجّه للمؤمن الذي آمن بالله! وعموم الناس تؤمن بوجود الله بالفطرة التي فطرها الله عليها وعندما تعترضها الوساوس والشبه تهتدي بصريح المعقول كالبعرة تدل على البعير.

وهذا غلط، إذ ليس البحث في معرفة الله بالفطرة، فهذا متفق عليه، بل لا يحتاج ذو الفطرة إلى بحث، وإنما الكلام في أول واجب على المفطور ما هو؟ والمعلق خلط بين الأمرين، وقد بينا أن النزاع لفظي، فالمتكلمون يقولون: أول واجب النظر في دلائل التوحيد، ومخالفهم يقول: هو التوحيد، والحاصل واحد.

الثامن: قال معلقا على كلامي في رد ابن تيمية لبعض الأخبار بالعقل: لا يوجد في كلام ابن تيمية رد للرواية بالعقل! إنما مذهب ابن تيمية في ذلك (ردّه للروايات لعدم ثبوتها)!

وآفته عدم الاطلاع على كلام ابن تيمية فجعل عدم علمه حاكما على علم غيره، وقد صرح ابن تيمية بأن خبر الجلوس مخالف للكتاب والسنة والعقل، من جهة أنه يقتضي أن الرب ما عرف إلا بالمقايسة بمخلوق وهو العرش، ولأنه يقتضي المماسَّة، وذكرنا كلامه في تعليقنا على حديث الأطيط من التعليق على جزء ابن بلال النيسابوري، فليرجع إليه.

التاسع: قال: محلّ الإنكار هو قواعد وأصول النظر والتأويل لا في التأويل بحد ذاته، فقد كان كلامه رحمه الله عن (القانون الكلي للتوفيق)، وقد نقله بداية الفصل (وتجده في الملحق).

وهذا من غرائبه، فالكلام كله في قواعد وأصول التأويل التي سمَّاها ابن تيمية قانونا، فمحاولة اللبس بالفرق بين التأويل وقواعده ضرب من الحيدة والإيهام.

العاشر: قال: لا نسلم أن تفسير السلف هو صرف لها عن ظاهرها، فإن ظاهر الكلام هو ما يتبادر من المعنى.

تأمل ما في كلامه من التناقض، فهو لا يسلم أن تفسير السلف صرف لها عن ظاهرها، ثم يقول: ظاهر الكلام ما يتبادر منه! فإذا كان الظاهر هو المتبادر فأي حاجة لتفسيره؟!

ويقال: لم نقل إن مذهب السلف تفسيرها بصرفها عن ظاهرها فقط، بل هم أثبتوا وفوَّضوا وتأولوا، فالجميع ثابت عنهم على الصحيح، وإنكار التأويل والتفويض من التيميين مكابرة، كما أن إنكار الإثبات من الأشعريَّة مكابرة، أعني الإنكار مطلقا.

ثم قال: ولو سلمنا أن تفسير السلف هو صرف لها عن ظاهرها فإن لهم في ذلك دليلا من الكتاب والسنة، فيقال له: والمتكلمون حيث تأولوا: لهم دليلهم من الأثر والنظر، فكان ماذا؟!

وقال أيضا: التأويل الذي في كلام السلف لبعض آي الصفات يدلّ عليه دليل وقرينة من الوحي متصل بنص الوحي المأوَّل (كذا كتب) أو منفصل عنه في نصٍّ آخر. وهذا غير موجود في تأويلات المخالفين التي إن سئلوا عن قرينة هذا التأويل أجابوا (ضرورة التنزيه) وما يزعمونه من قرينة لغويّة.

وهذا من عدم استيعابه لمذهب المتكلمين؛ لأنه في غاية بحثه مقلد لابن تيمية أو من دونه ممَّن يقلده، وهؤلاء لا يحسن أن ينتدبوا للمحاكمة في مثل هذه الخلافيات، لأن نظرهم قاصر وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي: (لا تقض بين خصمين حتى تسمع لأحدهما كما سمعت من الآخر، فإنه بهذا يتبين لك القضاء).

وهؤلاء لم يتكلف أحدهم عناء النظر في كتب المتكلمين، وغاية ما يعلمونه عنهم ما ينقله ابن تيمية عنهم، ولهذا يطلق الواحد منهم جزافا كلاما عاطفيا مثل قولهم: إن ابن تيمية نسف أصول المتكلمين، ونحو هذا مع أن أمثلهم طريقة لم يطالع إلا أول كتاب العقل والنقل وأول الرد على ابن المطهر، ثم يقول هذا، ولهذا تعرضنا لبيان ما في أول العقل والنقل من الغلط والجور على المتكلمين.

ولهذا هجم المعلق على القول إن المتكلمين لا دليل لهم إلا التنزيه والقرينة اللغوية، ويزعم أن السلف لهم قرائن متصلة بنص الوحي، ولا أدري من أنبأه بهذا، وأي قرينة في تأويل السلف حديث كشف الساق سوى قول العرب: (كشفت الحرب عن ساق) وحين تأول مالك الضحك بالرضا كما نقله ابن حبيب في (الرسالة الوافية) ماذا كانت قرينته المتصلة!؟

والعجب من استخفافه باللغة وهي أصل مجمع عليه في تفسير القرآن حتى أفتى ابن رشد بجهالة القائل بعدم الاحتياج إلى اللغة في التفسير وأفتى بتأديبه، بل قال أبو عمرو بن العلاء (أكثر من ضل بالعراق من جهلهم بلسان العرب). ولما ضاق عطن غلاة المجسمة عن رد هذا الأصل، اخترعوا أصلا فاسداً فزعموا أنه لا يعتد باللغة في تأويل الكتاب، بل بفهم السلف! كأن فهم السلف كان على غير مقتضى اللغة وهم أقحاح العرب!

ثم جرَّته جرأته على قول ما لم يتصوره، فاندفع للاستهانة بأصل آخر عظيم مجمع عليه وهو التنزيه، وقد قال ابن جماعة: (اتفق المسلمون كلهم على تنزيه الله تعالى عما يقتضيه ظاهر تلك النصوص القرآنية من إثبات المكان والجوارح والأعضاء وطرو الحوادث عليه تمسكا بالمحكم من النصوص الدالة على ذلك وتنفيذا لأمر الله عز وجل ولتحذيره من اتباع المتشابه والخوض في تأويله مع ترك المحكم الواضح).

والعجب أن غلاة الأشعرية يعيبون على ابن تيمية وأتباعه نفس ما عابه المعلق على المتكلمين من التنزيه، فإن ابن تيمية إذا قال: (إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل) قال الغلاة من الأشعرية: التنزيه دعوى مجردة موهمة لأنه مجسم، وقد ذكرنا في غير هذا الموضع براءة ابن تيمية من التجسيم كما حققه العلامة الكوراني الأشعري عنه في آخر كتاب (إفاضة العلام).

الحادي عشر: قال: وبذلك يتبيّن أن ما استنكره الشيخ بلال من كلام ابن تيمية ليس دقيقا، فكلامه - رحمه الله - موجّه لا لشخوص الإمامين ابن العربي والغزالي ولا للسادة الأشاعرة كفرقة من فرق المسلمين، بل موجّه لقوانينهم وطريقتهم ومنهجهم المُتّبع في مثل هذه الأمور.

وهذا الكلام غير مفيد في الاعتذار عن إطلاق ابن تيمية الواضح في أنه يقصد الأشعرية كلهم، ضرورة أن هذا الأصل الذي سماه قانونا وحصر البحث فيه: هل يخالف فيه الأشعرية الغزالي وابن العربي أو لا؟ إن قال: يخالفوه لزمه إثبات ذلك، وهو لم يصنع شيئا، بل أرسل كلاما جزافا يوهم القراء، وإن قال: بل هم تبع فيه لهما ضرورة أن الكل أشعرية ويتفقون في الجملة في الأصول الكلية، بطل ما شغب به.

الثاني عشر: قال: ثم إن الشيخ بلال زاد على ما سبق، فمارس نوعا من التهييج وزرع الضغينة في قلب القارئ فيقول: "والمسألة هنا خلافية بين الرب جل جلاله القائل: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون}؟!

وهذا من وضعه الكلام في غير مواضعه لأجل فرط العصبية، وليس في هذا أي زرع للضغينة ولا فيه تهييج، بل هذا مثَل يذكره العلماء لبيان وجه المبالغة في كلام المخالف، وابن تيمية واقع في هذا فإنه صرح بأن النصارى -بهذا التعميم -الذي أغفله المعلق عمداً أو سهواً- أقرب إلى تعظيم شرائع الأنبياء والمرسلين من المتكلمين!

فإن قصد الغزالي وابن العربي كما يقول المعلق، صدق عليه قوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين) وإن قصد الأشعرية عامة فهو أصدق، فلم يبق وجه لكلام المعلق إلا الاعتذار البارد المتكلَّف، ولو أطلق ابن تيمية هذا في الرازي كان أوجه وإن كان أيضا على إطلاقه خطأ، لكن للرازي كلام لا يقر عليه في هذا المعنى، إلا أن العجب ممن يتأول لابن تيمية ولا يتأول للرازي!

وهذا المثل الذي ذكرناه نظير ما وقع لإمام الحرمين مع الصندلي الحنفي، قال إمام الحرمين يوما في مسألة النكاح بغير ولي: هذه المسألة خلاف بين أبي حنيفة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم قال (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل)، وقال أبو حنيفة: بل نكاحها صحيح، فحضر الإمام مع الصندلي يوما مجلسا، وسئل عن التسمية على الذبيحة: هل هي واجبة أم لا؟ فقال الصندلاني: هذه المسألة خلاف بين الشافعي وبين الله تعالى، فإن الله تعالى يقول {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} والشافعي قال كلوا!

وسئل شيخنا القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني رحمه الله عن التداوي بالخمر، فأفتى بالمنع مطلقا، فقيل له: قد أفتى الشيخ القرضاوي بالجواز مطلقا؟ فقال: إذن المسألة خلافية بين النبي صلى الله عليه وسلم القائل: (لا تداووا بحرام) وبين القرضاوي القائل: يتداوى بالخمر!

ولم يقل أحد إن في كلام هؤلاء السادة زرعا للعداوة والضغينة وتهييجا كما يقوله المعلق، ولا قالوا إن فيه تشنيعا، فافهم يا أخي.

الثالث عشر: قال: ولا يمكن إنكار أن ابن تيمية كان لديه (قسوة أحيانا تكون مبالغة بشكل كبير)، ثم رماني بالافتراء على ابن تيمية لأني عممت الكلام بقولي: إنه جعل أصول النصارى أقرب إلى تعظيم الشرع من أصول المتكلمين.

وأقول: وقد يقع منه رحمه الله وعفا عنه الفشر والسِّباب لأنه بشر، فقد ثبت أنه فشر سيبويه في مناظرته لأبي حيان، وسمى القاضي عياض حين تأمَّل الشفا له، بالمغيربي فقال: لقد غلا هذا المغيربي، وكان يسمي العلامة الكاتبي الملقب دَبيران بدُبيران يغمزه، وصح أنه اشتط على القاضي الشافعي في واقعة سجن المزي، وسمَّى الأشعرية اتباعا لبعض المتعصبين عليهم: مخانيث المعتزلة، ثم يدعي المعلق أن ابن تيمية لا يعادي الأشعرية وينسبني للإساءة إليه!

ولا يلزم من هذا أنه لم يتصد لنقدهم علميا، بل يقع منه هذا وهذا، فالرجل له تارات وأحوال، بيَّناها في غير هذا الموضع.

وهو بشر -على جلالته ومحله من العلم والدين- يخطئ ويصيب، ويجهل ويُجهل عليه، لا كما يصوره أتباعه الغلاة أنه الرجل الخارق الذي لا يخطئ ولا يزل ولا يقهر، ومنهم من يزعم أنه فوق الأئمة الأربعة، وقد قطعه ابنا التلمساني في مناظرة شد الرحل فكان ذلك سببا في سجنه، وتهيب ابن تيمية من مناظرة العلاء الباجي حين دعاه للمناظرة، فقال ابن تيمية: مثلي لا يناظر مثلك، أنت تتكلم ونحن نسمع، وناظره ابن المرحل في الكلاسة فوقف ابن تيمية واستنشد الحاضرين فقال له ابن المرحل:

إن انتصارك بالإخوان من عجب .... وهل رأى الناس منصوراً بمُنكسرِ

وهنا أصل يجب التنبه له، وهو أنا نسعى قدر الطاقة للاعتذار عن العلماء والفضلاء، لكن بغير تكلف ولا مبالغة حتى نظهر الواحد منهم بمظهر المعصوم الذي لا يخطئ، ومن لطيف ما كان شيوخا ينبهوننا عليه حال دراسة مناهج العلماء أن لا ننصِّب أنفسنا محامين عنهم بتكلف الاعتذار عن كل خطأ أو زلة، بل ما أمكن أن يُعتذر لهم فيه اعتذرنا به عنهم، وما لا فيُصرَّح فيه بأنه كبوة يراع أو نبوة فكر.

ولابد أيضا من أن يتحلى الباحث بالشجاعة العلمية ويخلع رداء العصبية، فإنه يحجب العقل ويزيغ الفكر، وبه لا يجدي البحث، بل يزيد من الفرقة والنزاع، فتأمل كيف جبن المعلق عن توهيم ابن تيمية في تعميمه أن كل النصارى أقرب إلى تعظيم شرائع الأنبياء من المتكلمين.

وتعميم آخر وهو أن كل المتكلمين فالنصارى أقرب منهم في ذلك، في حين يأخذ علينا إطلاق القول أن ابن تيمية قال ذلك في أصول النصارى، ولو كان منصفا لتعرض لبيان خطأ ابن تيمية إن كان ما قلناه عنه خطأ لأنه من جنسه، لكن حبك الشيء يعمي ويصم.

وإني أرى في عينك الجذع معرضا ... وتعجب إن أبصرت في عيني القذى

هذا ما تيسَّر لي على عجالة من التعليق على تعليق الأخ الفاضل، وأشكر له حسن اهتمامه وأدبه، وفقنا الله وإياه للسداد.

والحمد لله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله.

المقالة المردود عليها هنا 

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين