التعريفات النبوية

أفضل التعريفات وأرفعها تعريفات سيّدنا وحبيبنا صاحب جوامع الكلِم صلوات ربّي وسلامه عليه،

قال في تعريف الكِبْر: "غمطُ الناسِ وبطَر الحقّ".

وقال في تعريف الإحسان: "أنْ تعبد الله كأنّك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنّه يراك".

وقال في تعريف الوهن: "حبّ الدنيا وكراهية الموت".

وقال في تعريف الرويبضة: "الرجل التافه يتكلّم في أمر العامّة".

والمشترك بين جميع هذه التعريفات أنها تعرّف بحقيقة الشيء التي ترتبط بحياة المتلقّي وعمله؛ فأنت تعرف الكِبْر بالممارسة التي تنبئ عنه، فهي هو وهو هي، لا بماهيّته المجرّدة. وتعرف الإحسان بفعل الإحسان وبالتمثيل، فتتخيّل هيبة موقف الرؤية ويقشعرّ جلدك من الخشية. وتعرف الوهن حين تعرض نفسك على هذين المعيارين: هل أجدني أحبّ الدنيا وشهواتها وأخاف من الموت وأكرهه؟ وبقدر ذلك يكون قد أصابك من "الوهن".

وتعرف الرويبضة بصورته المنفّرة فتعوذ بالله أن تكون كذلك وتسمو إلى معالي الأمور.

فهي كلها تعريفات نافعة مرتبطة بالعمل، وهذا يرجع إلى المفهوم المختلف الذي يحدّده الإسلام للعلم، فالعلم هو ما دلّك على العمل المفيد، والمفيد هنا يعني ارتباطه بغاية وجود الإنسان ورسالته في هذه الحياة، والإنسان "الحكيم" هو الذي يطلب هذا العلم، ولا يتيه في تعريفات غير مرتبطة بالواقع ولا تفيده بشيء. فهو مثلا يَعْرف الإنسان، ولن يخطئ فيه فيظنّه إنسان العين أو التمثال حين يتّضح معناه في السياق، فكلمة إنسان كافية في معرفة الإنسان، ولن ينفعنا تعريفه بعبارة مثل: الحيوان الناطق، أو الحي الناطق المائت، كما انشغل الفلاسفة ظانّين أنّهم يصلون بهذا "الحدّ التام" على حدّ وصفهم إلى ماهية الإنسان! فهي ماهية زائفة لن تزيدهم معرفة بالإنسان، ولا يُبنى عليه نفع في تعاطيهم مع الإنسان، وهذا هو حال معظم حدودهم الماهوية.

وحين كان العلم يُطلب لعينه، كما قال أبو البركات البغدادي في بداية كتابه "المعتبر في الحكمة": "الحكماء من جملة العلماء هم الذين يطلبون العلمَ بالموجودات والحقّ منه لعينه"؛ وجدنا أصحابه ينزعون إلى التعريف بالماهية على طريقة أرسطو، وهو الحدّ التام على حدّ قولهم، فمكمن فتنتهم وغرورهم أنهم أولعوا بمعرفة حقائق الأشياء وماهيّاتها، حتى وإنْ بغير أداة، وإنْ بغير نفع. وأبو البركات نفسه يقول في الكتاب نفسه: "أفضل الأقاويل المعرّفة هي الحدود؛ لأنّها تفيد المعرفة الذاتية التامّة، وأنقصُ منها الرسوم؛ لأنّها إنما تفيد معرفة عرضية أو مشوبة بالعرضية؛ لأنّها تتمّم الذاتية الناقصة بالعرضية المأخوذة من الأعراض واللواحق، وأنقص منها كثيرا التمثيلات؛ لأنّها لا تعرّف بنفسها ولا تفيد معرفة ذاتية ولا عرضية؛ وإنّما تورد في لواحق الأقاويل المعرّفة ومعها لتسهيل سبيل الإفادة والمعونة عليها".

والتعريف بالمثال هو كما يقول: "تعريف الشيء بنظائره وأشباهه، والكل المعقول بجزئياته وأشخاصه ومحسوساته"، وقد جعله أحط أنواع التعريفات، مع أنّه أبينها وأنفعها للإنسان في تعريفه بدلالة اللفظ، فحين ترسم مثلّثا لمن يسألك: ما المثلث؟ تكون قد عرّفت المثلث بالمثال، وهو تعريف عملي نافع يفهم منه المتلقّي المقصود بالبداهة. وكما لو قلت عن تعريف الاسم: هو كزيد وعمرو. ولكنّ أبا البركات جعله أحط أنواع التعريف وبمنزلة التبع، بل قال إن أصحاب الأذهان القوية والغرائز الذكية لا يحتاجون إليه، ومن يعتضد به هم ضعيفو الأذهان وقليلو التمرن في العلوم. فجعل أحد أرفع التعاريف وأنفعها وأكثرها ارتباطا بالواقع؛ أدناها وأحطّها!

وهذا يدلّنا على فرق آخر في مفهوم "العلم" بين الرؤية الإسلامية ورؤية المناطقة المتفلسفين، فالعلم في الإسلام ترتفع قيمته بقدر نفعه، لا بقدر نزوعه إلى الكليات والمجرّدات، ولا بقدر كونه ملائما لأصحاب العقول الذكية. فالأمّي صاحب القلب الزكيّ الذي عرف جُمَلا من العلم فأدّت به إلى معرفة مولاه وحسن عبادته، وارتبط علمه برسالته في هذه الحياة؛ هو في الواقع أكثر علمًا وحكمةً من فيلسوف ذكيّ يُدعى العلّامة الحكيم، ولكنّ معظم علومه تجريدات لا ينتفع بها هو ولا غيره، وخوضٌ في مسائل لا يقدر العقل البشري على البتّ بها وأيّا كانت نتيجة الخلاف حولها فهي لا تؤثّر على حياة الإنسان، ولن تنفعه في دينه ولا دنياه.

وتدبّروا قوله تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ}، لتعلموا أنّ العلم بالمفهوم الإسلامي للكلمة هو المرتبط بالعمل، عمل القلب والجوارح. وقد اعتبر الحكيم الترمذي لفظي "العلم" و"العمل" بمعنى واحد، وهو العلامة، "فالعلم في الصدر علامة ما في القلب، والعمل بالجوارح علامة ما في الصدر". فتأمل!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين