التشيع في اللاذقية ... المخطط الايراني

 

 

تبدو نزعة التشيع التي تتبناها إيران في سوريا، كعملية منظمة فيها وجه خفي كنأي عن الإشهار في بعض المناطق، وفي مناطق أخرى تكون صريحة وواضحة بلا تردد أو حذر. في الساحل السوري، حيث موطن عائلة الأسد، وجماعته الأهلية من العلويين، تبدو نزعة التشيّع متطورة، يتم العمل عليها بحرفية عالية، وبإشهار واضح لا شائبة فيه.

المجتمع الديني

نحت إيران نحو المجتمع الديني العلوي لتكريس التشيّع. وتاريخياً لجأ النظام إلى الشيعة لتكريس إسلامية العلويين، ووّثق علاقته مع زعيم الثورة الإيرانية “آية الله” الخُميني، ومع المرجعيات الشيعية في لبنان. ومن حينها تبدو العلاقة بين العلويين والشيعة جيدة، وتخف الاختلافات على حساب التوافقات. وهناك انتماء كرّسه الأسد ضمنياً لدى العلويين بأنهم ذوو مرجعية شيعية إمامية.

رسّخ النظام هذا البعد لدى المشايخ العلويين، بشكل قسري إلى حدٍ ما، إلا أن فترة حكم الرئيس السابق حافظ الأسد لم يكن فيها الإيرانيون يخشون من ضعف حليفهم، فلم يعملوا على تشييع العلويين دينياً وسلوكياً، لتأسيس هيمنة اجتماعية دينية، تُحفز إيديولوجيا شيعية مباشرة تؤمن مصالح إيران مستقبلياً. أما أثناء الضعف الحالي للنظام، وتهالكه أمام الثورة، فقد بدأ الإيرانيون دعم النظام بشروط واضحة، تتضمن إعطاءهم حرية عملية، لتحويل النزعة الشيعية لدى العلويين إلى انتماء سلوكي ديني ثقافي . وفي عمل دؤوب ومنظم، كانت البداية داخل طيات المجتمع الديني العلوي، كتحضير رحلات للمشايخ العلويين إلى المراقد الدينية الشيعية في إيران، واعتبار زائر المراقد الدينية الإيرانية من المشايخ “حاجاً”، وهذا اللقب يمنحه انتماءاً شيعياً على حساب انتمائه العلوي. وتتضمن الرحلة العائلية للشيخ العلوي محاضرات دينية مكثفة، يُلقيها شيوخ من قم.

وتقسو هذه المحاضرات على المذهب العلوي، وتجعله مذهباً منافياً للإسلام الصحيح أصلاً، ثم تُعيد ترتيب أفكار الشيخ العلوي وتفندها، ليتحول قانعاً راضياً إلى المذهب الشيعي ويعود إلى سوريا شيخاً وداعية شيعياً. وتعود زوجة الشيخ العلوي إلى مجتمعها في الساحل مُحجبة، خلافاً لعادات العلويين، وتشترك في مجموعات دينية نسائية تُشيع من تستطيع تشييعه من النساء. أما الشيخ العلوي المتشيع فأول من يدعوهم للتشيع هم تلاميذه السابقون من الشباب العلوي.

الانجذاب للتشيع موجود في مناطق العلويين منذ تدخلت إيران بقوة في سوريا، خاصة أن التشيع الإيراني ينطلق نحو مصادر التأثير المستقبلية في “حماية” العلويين وتبني وجودهم. والتشيع يستهدف مختلف مشايخ العلويين ومن كل المناطق. ولزرع تأثير مستقبلي واسع المدى لدى الشُبان العلويين، يُردد على مسامعهم الدور الإيراني العسكري والاقتصادي في سوريا، ما يجعلهم في استجابة للتشيّع الإيراني بوصفه انتماءاً أخلاقياً وأكبر تأثيراً وأهمية من الانتماء إلى العصبة العلوية. فدلالة الحرب على الإماميين هو المبدأ الذي تنطلق منه إيران إيديولوجياً، وهو جذاب للشباب العلوي الذي يعيش الحرب الأهلية السوري ويراها عقائدية ضد العلويين وأتباع الإمام علي، ويرى في إيران الدولة الوحيدة التي تدافع عنهم وتتبنى قضيتهم.

وما أن تتشيّع مجموعة ما، حتى يتم الاستفادة القصوى من مكانتها الاجتماعية، ويتم تقديم مختلف أنواع الدعم الثقافي والاقتصادي للعائلات المتشيعة، لجعلهم مختلفين وأكثر تطوراً اجتماعياً عن أقرانهم العلويين. ويتم أيضاً إرسال هذه المجموعات المتشيعة إلى النازحين السنّة من الريف الحلبي، في مدن الساحل، لمحاولة نشر التشيع في صفوفهم. ويضاف إلى المنهج التبشيري دعم اقتصادي جيد تقدمه المؤسسات الإيرانية لعائلات ينجح الشيعة الجُدد بجذبهم.

العمل على المجتمع

تستغل إيران سطوتها في الساحل لفرض ما يرفضه النظام بشكل قطعي، فافتتحت إيران مؤسسة داخل الجامع الشيعي الوحيد في اللاذقية “جامع الرسول الأعظم” لتُعنى “بدعم أسر الشهداء وأولادهم”، وذلك إما بإرسال الأولاد الصغار إلى إيران للتعلم أو تعليمهم على نفقتها داخل مدنهم. ويضاف إلى التعليم والتنمية، بُعد ديني سلوكي، فيتم تلقين الأولاد أسس المذهب الشيعي لأن المؤسسة تجتمع بالأولاد داخل الجامع، وتنظم لهم وقتاً للدين، ووقتاً لنشاطات اجتماعية عصرية يقوم بها فوج الكشاف “كشاف الرسول الأعظم” وهو أول كشاف يتبع تشكيلاً طائفياً في سوريا.

والمد الإيراني الاجتماعي نجح باقتناص “مدرسة الرسول الأعظم للإناث” -ابتدائية وإعدادية- وهذا ما لم يشهده الساحل السوري من قبل. وتخص إيران ريف الساحل العلوي بالعمل الأكثر كثافة، كريف جبلة فتنشط هناك في الأرياف النائية لجلب أهالي الشهداء العسكريين إلى حلقات وورشات دعم نفسي وطبي، وتكون حلقات العمل الاجتماعي أحد الأبواب التي تُدخل فيها العلويين في دائرة التشيع.

العمل العسكري السياسي

تدعم إيران جميع المليشيات الناشئة في سوريا بدءاً من “الدفاع الوطني” حتى أصغر مليشيا مُشكلة، لتقاتل المعارضة. وتقوم القيادة الإيرانية بمحاولات دائمة لإرسال شيوخ شيعة إلى مناطق تجمع المقاتلين، ونجحت في تحفيز بُعد إيديولوجي لدى المقاتلين، مستغلة قدوم الشيعة السوريين من مناطق سورية متعددة للقتال في مناطق العلويين. بعض هذه المحاولات الدينية نجحت في كسر أي مرجعية دينية علوية، وجعلت المقاتلين العلويين يلتزمون بنموذج شيعي سلوكي، بعدما أمنت إيران لهم تدريباً عسكرياً على أرضها، بالإضافة إلى البعد الديني الهائل لتلك التدريبات. الأمر الذي جعل الشرخ بين العلوي والمتشيع كبيراً جداً، فالثقافة مختلفة جداً بين المذهبين. والالتزم الإيديولوجي الإيراني يُقيد الحل السوري تماماً ويجعل متطلبات الحرب الأهلية حاضرة ومقيدة بالسياسة الإيرانية. وتُشبه التجربة التي تعممها لإيران على مستوى المليشيات ما أسسه الخُميني في إيران إبان الثورة الإيرانية في “المجالس الثورية” التي كانت مهمتها العقائدية فوق أي شأن سياسي أو اجتماعي. فالمحاضرات التي يُلقيها الشيعة للمقاتلين لا تحمل أي صبغة سياسية سورية، بل معنى عقائدي تاريخي يلجُ في الوعي وفي الصراع العقائدي بين السُنة والشيعة، وتحميل الصراع هذا المعنى يجعله أبدياً ودائماً، في ظل ما تطرحه الديموغرافيا السورية المختلطة.

تنجح إيران في صبغ الساحل بلونها، وكلما ازداد الضغط على العلويين تقدمت إيران لاجتذابهم. فالعلويون ينظرون إلى أنفسهم بلا مؤسسة دينية، وكبار شيوخهم يذهبون إلى إيران لتعلم الدين، فالطوائف الصغرى كلما شعرت بالضعف لجأت إلى أخٍ أكبر مفترض أو حقيقي. وهذا ما تستغله إيران في ظل سقوط النظام أخلاقياً وفتحه لأبواب المعونة الإيرانية لتفكيك الديموغرافيا السورية وإعادة صياغة الطوائف والمذاهب بمرجعية صراعية لا تَدر إلا ربحاً لها ولمستقبلها السياسي الذي لا تراه إلا من بوابة الدين.

النظام ترك الساحة لإيران سياسياً وعسكرياً وثقافياً، وبات أمراً ظاهراً دخول الحسينيات والمواكب الشيعية العزائية في ثقافة العلويين، حتى أن الأغاني الجنائزية الشيعية باتت أمرأ مألوفاً.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين