التسبيح في ظلال القرآن (1):

 

خطبة الجمعة 24/5/2013
 

 

 

د.محمد سعيد حوى

هل نزلت بك مصيبة واحتجت فيها إلى صبر عظيم؟ 
هل نزل بك ضيق أو هم أو غم وتطلعت إلى فرج أو مخرج؟ 
هل استشعرت يوماً خوفاً وتطلعت إلى حفظ و وقاية؟ 
هل تعرضت إلى عدوان وإيذاء ؟
هل واجهتك يوما شبهات وافتراءات؟ 
هل شعرت بضيق صدر؟ 
هل تطلعت يوما إلى السعادة؟ 
هل واجهتك ذنوب او معاصٍ أو تقصير؛ فحاولت أن تنجو من ذلك واجتهدت.
التسبيح هو الدواء:
لا شك كلنا نواجه هذا أو أكثر منه، فإذا وقفنا مع القرآن وجدنا التسبيح هو دواء ذلك كله.
 

 

 سورة الحجر:

ألم تر إلى قوله تعالى: ﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَوَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ ﴾ [الحجر: 95- 99]
فإذا علمنا الأجواء التي نزلت بها الآيات وما تعرض له نبينا صلى الله عليه وسلم أدركنا كم من الاسرار في التسبيح.
 
 

 

 قصة يونس:

ويحدثنا القرآن عن يونس وما كان فيه من غم من ظلمة الليل والماء وبطن الحوت قال تعالى: ﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُوَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّوَكَذَلِكَ نُنجِي المُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 87- 88] ، وفي سورة الصافات: ﴿ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِوَهُوَ سَقِيمٌ، وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ، وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [الصافات: 143- 148]
فهل أشد من هذا الغم. 
سورة الإسراء :
ابتدأت بالتسبيح (سبحان) لتحدثنا عن أخطر صراع في الوجود لتؤكد لنا أن مفتاح خوض هذا الصراع هو التسبيح، وختمت بالحديث عن أهل التسبيح ﴿ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَوَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً، وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَوَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ﴾ [الإسراء: 107- 109]
 وحدثتنا سورة الإسراء عما تعرض له النبي من ضغوط من المشركين وقد طلبوا المعجزات من الآيات؛ كفراً وعناداً؛ فثبته ربه بقوله: ﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً ﴾ [الإسراء: 93].
وفي هذه السورة بالذات يرد التسبيح 8 مرات، وفيها قوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَهُوَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُواًّ كَبِيراً، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُوَالأَرْضُوَمَن فِيهِنَّوَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِوَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾[الإسراء:43-44]

 

 

مع زكريا:

ولما واجه زكريا قومه بولادة يحيى أوصاه ربه: ﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاًوَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراًوَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّوَالإِبْكَارِ ﴾ [آل عمران: 41] وهذا تأكيد على ملئ الوقت بالتسبيح، خاصة في مواجهة القيل والقال.
 
 

 

 السعادة:

 ومن منا لا يريد السعادة والرضا، وسورة طه حدثتنا عن السعادة والرضا ففي أولها ﴿ طه، مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ [طه: 1-2]
وفي آواخرها ﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَوَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى ﴾ [طه: 117]

وفيها أيضا ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّوَلاَيَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاًوَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه:123- 124]، وجاء بعد ذلك ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَوَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِوَقَبْلَ غُرُوبِهَاوَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْوَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ﴾ [طه: 130].
 

 

 

 

 

النصر:

بل لا يكون نصر أو حفاظ على النصر إلا بالتسبيح والإستغفار ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِوَالْفَتْحُ ﴾ [النصر: 1] .
وفي سورة ص قوله تعالى: ﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَوَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّوَالإِشْرَاقِ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ، وَشَدَدْنَا مُلْكَهُوَآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَوَفَصْلَ الخِطَابِ ﴾ [ص: 17-20] فكان من أسباب قوة الملك وفصل الخطاب والحكمة التسبيح.
 

 

مواجهة المعاصي:

وعندما تقع في المعاصي وتواجهك الذنوب واغراءات الشيطان فمنهج النجاة التسبيح، فعندما قص علينا القرآن قصة أصحاب الجنة في سورة القلم ﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ، قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ [القلم: 28-29] .
بل إذا أردت الحماية والوقاية والحفظ: فعليك بالتسبيح ﴿ وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَاوَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الفُلْكِوَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ، لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِوَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَاوَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ﴾ [الزخرف: 12-14].
 

 

و الصبر:

واذا أردت صبراً فليس أمامك إلا التسبيح قال تعالى في سورة ق: ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَوَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِوَقَبْلَ الغُرُوبِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُوَأَدْبَارَ السُّجُودِ ﴾ [ق: 39-40]
  وفي سورة الطور: ﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَاوَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُوَإِدْبَارَ النُّجُومِ ﴾ [الطور: 48- 49].
 

 

الملائكة والتسبيح:

لندرك عظم التسبيح حدثنا الله عن تسبيح الملائكة فقال في حقهم: ﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ، وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ ﴾ [الصافات: 165-166] ، وفي سورة الزمر ﴿ وَتَرَى المَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْوَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّوَقِيلَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ﴾ [الزمر: 75] وحدثنا عن علاقتنا بالملائكة ودعائهم لنا وفي هذا السياق بين تسبيحهم ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَوَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْوَيُؤْمِنُونَ بِهِوَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَاوَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةًوَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواوَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَوَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ ﴾ [غافر: 7] وعندما أخبر ربنا الملائكة أنه جاعل خلق في الأرض بيّن كيف قابلوا الإفساد بالتسبيح: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَاوَيَسْفِكُ الدِّمَاءَوَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَوَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]
فالتسبيح أيضا إذاً لمواجهة الإفساد في الأرض، فإما أن تكون من أهل منهج الإفساد وسفك الدماء وإما أن تكون من أصحاب منهج التسبيح كحال الملائكة، ولعل السر في هذا كله أن التسبيح مفتاح تعظيمه سبحانه وتعالى وأساس توحيده وخشيته .
 

 

التسبيح منهج حياة:

ومن هنا ندرك أن التسبيح منهج حياة ألا ترى في قولته تعالى في سورة النور وهي السورة التي حدثتنا عن منهج النور في الفرد والمجتمع والحكم فقال تعالى في وسطها ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَوَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّوَالآصَالِ، رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌوَلاَبَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِوَإِقَامِ الصَلاةِوَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُوَالأَبْصَارُ ﴾ [النور: 36-37].
حقيقة التسبيح:
فالتسبيح : هو تنزيه الله تعالى وتعظيمه إيذاناً بالخضوع والعبودية لله سبحانه وتعالى والإغراق في ذلك ،لذلك يقال لمن كان ماهراً في السباحة في الماء سباح ماهر؛ لأنه يغوص في أعماق المياه، وأنت هنا تغوص في أعماق العبودية لله
ولذلك لاحظنا يرد في سورة الصافات التي حدثتنا عن تسبيح الملائكة تعظيماً لله ﴿ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الصافات: 159] أي أولئك الذين جعلوا بينه وبين الجِنَةِ نسباً، وفي آخر السورة يأتي قوله تعالى ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180-182] وقد حدثتنا سورة الصافات عن الأنبياء وتعظيمهم لله تعالى وعبوديتهم له،
ورأينا في سورة الفتح قوله تعالى: ﴿ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِوَرَسُولِهِوَتُعَزِّرُوهُوَتُوَقِّرُوهُوَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةًوَأَصِيلاً ﴾ [الفتح: 9] وفي سورة الواقعة يتكرر (فسبح بإسم ربك العظيم) فهذا كله يدل أن التسبيح مفتاح تعظيم الله وخشيته وتوحيده والصلة به، وإذا تحقق ذلك كله كان الإنسان موصول القلب بالله، واثقاً به، متوكلاً عليه، مستمداً القوة منه، منطلقاً في الحياة بأقوى ما يكون، فهل التفتنا إذاً إلى منهج التسبيح في حياتنا وأثره وعظم أهميته؟
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةًوَأَصِيلاً، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْوَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِوَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ﴾ [الأحزاب:41- 43]
ما سبق كله من كنوز التسبيح في القرآن، أما إذا انتقلنا إلى السنة فسنجد كنوزاً أخر.
وكذا صيغ التسبيح كثيرة سنتحدث عنها، كما وردت في السنة.


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين