الترف والمترفون

أعلن القرآن الكريم حملةً شعواء على الترف والمترفين.

والترف هو أول سمات أهل النار الذين استحقوا سخطَ الله وعذابه الأليم:[وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ] {الواقعة:42}. الحنث: الذنب العظيم، الشرك.

والمترفون أعداء كل رسالة وخصوم كل إصلاح، لأنهم يريدون أن يظلوا غارقين في النعيم، يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام.

والترف مفسد للفرد، لأنه يشغله بشهوات بطنه وفرجه، ويقتل منه روح الجهاد والجد والخشونة، ويجعله عبداً لحياة الدعة والرفاهية.

والترف مفسدٌ للجماعة، منذر بانهيارها، ولهذا قَرَنَه القرآن الكريم بالظلم والإجرام:[ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ] {هود:116}.

وإذا انتشر الترف وكثر المترفون، وأصبحوا أصحاب السلطة، كان ذلك منذراًَ بهلاك الأمم وتدميرها:[وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا] {الإسراء:16}.

في الآية قراءتان: {أمّرنا مترفيها}، أي: جعلناهم أمراء وحكاماً، فطَغَوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد، فصبَّ عليهم ربك سوط عذاب.

وقراءة التخفيف: أمرناهم بالطاعة والعدل، ففسقوا عن أمر الله، وفعلوا الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، فاستحقوا عقوبة الله.

لقد حدثنا القرآن أن الترف كان هو المسؤول الأول عما أصاب كثيراً من الأمم التي غرقت في النعيم والترف، فنزل بها عقاب الله وبلاؤه، وحقت عليها كلمة العذاب، كما قال تعالى [حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ(64) لَا تَجْأَرُوا اليَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ(65) ]. {المؤمنون}.. يجأرون: يصرخون، مستغيثين بربهم.[وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ(11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ(12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ(13) ]. {الأنبياء}..

والترف مكوَّن من جانب مادي وهو التنعم والتوسع في الرفاهية، ومن جانب معنوي وهو البطر.

وقد حرَّم الإسلام بعض أشياء محددة، تعدُّ أمثلة للترف، ومن ذلك:

1 ـ أواني الذهب والفضة: (من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه ناراً من جهنم).

وأشدُّ من ذلك في الحرمة: التماثيل الفضية والذهبية، لأن الإثم فيها مزودج.

2 ـ مفارش الديباج والحرير الخالص، وحلي الذهب وملابس الحرير للرجال:(إن هذين حرام على ذكور أمتي حلٌّ لإناثها).

(يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده) ومثل الخاتم: قلم الذهب، وساعة الذهب، وولاعة الذهب.

لما بعث رسول الله معاذاً إلى اليمن قال له: (إياك والتنعم، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين) ـ رواه أحمد ـ والتنعم التوسع في أسباب الرفاهية التي تؤدي إلى الترف.

وعن السيدة فاطمة الزهراء عن أبيها عليه الصلاة والسلام: (شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، الذين يأكلون ألوان الطعام، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدَّقون في الكلام) ، وهي صورة معبرة عن أولئك العاطلين الذين لا همَّ لهم إلا مضغ الكلام، ومضغ الطعام.

إن الترف يزيد بؤس البائسين، ويضاعف ألم المحرومين، فتتأجج في قلوبهم أسباب الحقد والحسد على المترفين، وينقسم المجتمع إلى طبقات متناحرة متحاسدة.

اشترى قريب لعمر بن عبد العزيز خاتماً فصُّة بألف درهم فكتب إليه: بلغني أنك اشتريت خاتماً فصُّه بألف درهم، فإذا جاءك كتابي هذا، فبعه وأطعم بثمنه ألف جائع، واشتر خاتماً فصُّه من حديد، واكتب عليه: (رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه).

وكما حمل القرآن على الترف حمل على الإسراف والتبذير.

ولعلَّ سائلاً يقول: ألا تغني حملة القرآن على الترف عن الحملة على السرف؟

والجواب: أن الترف والسرف ليسا لفظين مترادفين، فالترف لابدَّ أن يصحبه سَرَف في العادة، والسرف لا يلزم أن يكون معه ترف، فكم من أناس ينفقون أموالهم في المسكرات أو المخدرات، ومع هذا يعيشون في بيوتهم عيشة بائسة، فكل مترف مسرف، وليس كل مسرف مترف.

قال تعالى:[ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا] {الإسراء:26}.

وقال سبحانه:[وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا] {الإسراء:29}.

وأثنى الله سبحانه على المقتصدين المعتدلين:[وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا] {الفرقان:67}.

عندما تستكين الأمة لمتع الحياة، وتغرق في بحار الشهوات، وترتكس في حمأة الملذات، فتنحرف عن مسالك عزِّها وكرامتها، وتنتهي بالذل والضياع أمام أعدائها.

وقد حدثتنا آيات القرآن عن عادٍ وثمود وما آلوا إليه من هلاك وعذاب:[وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الوَارِثِينَ] {القصص:58}.

[وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] {النحل:112} .

ولنا في تاريخ الأمة عبرة وعظة وشاهد حق وصدق:

لما تماسك أمر هذه الأمة، واصطبغت بصيغة الإسلام استطاعوا أن يقوِّضوا دعائم دولتي كسرى وقيصر، فارس والروم اللتين أغرقتهما النعمة، فلم تتمكن جيوشهما من الوقوف في وجه زحوف المسلمين فباءت بالفشل والهزيمة.

ويوم استكانت الأمة في بلاد الشرق لنعم الحياة، وتمرَّغت في أوحال الدنيا، خضدت شوكتها، واجتاح أمصارها سيل التتار فما استطاع العباسيون المترفون أن يثبتوا لهم، فحلت بهم الكوارث، ونزلت فيهم المحن والشدائد، وأصابهم الخوف والذل، حتى وصل بهم الحال إلى أن الجندي من التتار كان يدخل الحي فيرهب أهله جميعاً، وإذا لم يكن بيده سلاح يقول لهم: انتظروني حتى آتي بسلاح فأقتلك، فيمكث المسلم في مكانه لا يبرحه حتى يعود إليه التتري بسيفه فيقتله به.

وعندما انطلق المسلمون المجاهدون إلى بلاد الأندلس استطاعوا أن يغلبوا تلك البلاد، وأن يقيموا فيها دولة عظيمة، خضعت لها الملوك والتيجان وامتد تأثيرها الفكري والعلمي والعسكري والاقتصادي إلى مساحة واسعة في أعماق أوروبا.

ولما استكان المسلمون للنعم، واطمأنوا إلى زينة الحياة الدنيا وراحوا يتنافسون في مظاهر الترف وألوان النعيم، وغرقوا في شهوات الحياة في القصور الرائعة، والحدائق الغناء، والأموال والجواري ومباهج المتاع، فقدوا قوة الصبر والثبات أمام أعدائهم الفرنجة، الذين تمكنوا من اجتياحهم وانتزاع الأندلس من أيديهم، لتصبح امبراطورية الإسلام في بلاد الغرب أثراً بعد عين.

من أجل ذلك كان يتخوف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته بسط الدنيا، (فوالله ما الفقر أخاف عليكم ولكن أخاف أن تنبسط لكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم).

يجب أن ننبذ حياة الترف جانباً، وأن ننتشل أنفسنا من لجة الشهوات ونجعل المال في خدمة المبادئ والغايات السامية.

فإن أعداء أمتنا حريصون على أن نغرق الشهوات {دعوهم يتمتعوا ويفرحوا}!! فانهضوا يا أبناء أمة الإسلام ـ واقطعوا الطريق على أعداء أمتكم، وانطلقوا وأنتم تتصفون:[وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا(63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا(64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا(65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا(66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا(67) ]. {الفرقان}..[فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ] {النور:36}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

نشرت 2011 وأعيد تنسيقها ونشرها 20/11/2021

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين