الترف آفة الشعوب

يقول مولانا جل في علاه :

كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) . سورة الدخان .

وقال أيضاً عن ثمود على لسان سيدنا صالح مخاطباً قومه:

أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) سورة الشعراء.

وقال أيضاً تعالى : وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16). سورة الإسراء.

أيها القراء الكرام :

لا سارع من الترف في هدم الحضارات ، ولا أبلغ من الرفاهية المطغية في قتل الأمم والشعوب ، ولا أمضى من هذا السلاح في اغتيال الأسر والأفراد والجماعات ، وحينما يسكر الإنسان بالنعم ، ويطغى بالآلاء ويغفل عن ترشيدها والمحافظة عليها فإنه يكون يكتب نهايته بيده، ويجهز على قتل نفسه بنفسه، وقل مثل هذا على صعيد الأسر والجماعات والأمم والشعوب.

ولقد حدثنا التاريخ عن صور من الترف مذهلة ، وقصص من الرفاهية معجبة ، وحكايات عن تحول الأحوال من غنى إلى فقر ، ومن جدة إلى فقد ، ومن نعيم إلى جحيم ، ومن حرية إلى عبودية مغربة .

حكوا أن يزدجرد آخر ملوك فارس قبل دخول الإسلام لما فر من المدائن أخذ معه ألف طاهٍ( طباخ) وألف مغنٍّ، ,الف قيم للنمور ، وألف قيم للصقور، وآخرين، وكان يستقل هذا أي يراه قليلاً ... والسؤال أين أسكنهم في قصره ، وكيف أوسع لهم في قلعته .

وحكى التاريخ أيضاً أن المعتمد بن عباد كان على درجة من الترف إلى أن امرأته وبناته رأيْنَ ذات يوم في الطريق فلاحات يعملن في الأرض وقد غصنَ بأقدامهن في الطين إلى أنصاف سيقانهن ، فطلبن من المعتمد أن يشاركنهن في ذلك فأبى عليهن ، وعوضهن بأن أمر بِوَرد كثير فعُجِنَ بماء الورد حتى صار كالطين ، وقال لهن : الآن فادخلن ، فلعبن فيه إلى أن مَللنَ منه ، في صورة من الترف مخيفة .

ودارت الأيام وسُلب المعتمد ملكه ، ووقع في الأسر ، ونقل إلى مدينة أغمات في المغرب ، وتفرَّقت زوجته وبناته وافتقرت، وزرْنه يوم عيدٍ ، فقال بكل تألم وحسرة على ما فات ، وندم على الترف الذي أردى به :

فيما مَضى كُنتَ بِالأَعيادِ مَسرورا *** فَساءَكَ العيدُ في أَغماتَ مَأسورا

تَرى بَناتكَ في الأَطمارِ جائِعَةً *** يَغزِلنَ لِلناسِ ما يَملِكنَ قَطميراً

بَرَزنَ نَحوَكَ لِلتَسليمِ خاشِعَةً *** أَبصارُهُنَّ حَسراتٍ مَكاسيرا

يَطأنَ في الطين وَالأَقدامُ حافيَةٌ *** كَأَنَّها لَم تَطأ مِسكاً وَكافورا

لا خَدَّ إِلّا تَشكّى الجَدبَ ظاهِرهُ *** وَلَيسَ إِلّا مَعَ الأَنفاسِ مَمطورا

أَفطَرتَ في العيدِ لا عادَت إِساءَتُهُ *** فَكانَ فِطرُكَ لِلأكبادِ تَفطيرا

قَد كانَ دَهرُكَ إِن تأمُرهُ مُمتَثِلاً *** فَرَدّكَ الدَهرُ مَنهيّاً وَمأمورا

مَن باتَ بَعدَكَ في مُلكٍ يُسرُّ بِهِ *** فَإِنَّما باتَ بِالأَحلامِ مَغرورا

واليوم – ويحَ اليوم – تطالعنا وسائل التواصل بصور من الرفاهية مقلقة ، ومشاهد من الترف مخيفة أن يصير أمرنا إلى ما صار إليه أمر الشعوب الغابرة ...

أين ثقافة الترشيد ...

أين ثقافة الاستهلاك المقنن..

أين التوعية في التبصير بحقيقة المال الذي بين أيدينا ... وأننا مؤتمنون عليه ومستخلفون فيه : آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) سورة الحديد .

فأنت وأنا أمناء على هذا المال وغيره من المتاع ، مأمورون بصرفه فيما ينفع ... ينفعنا وينفع أهلنا وإخواننا في غير سرف ولا تبذير.

من هنا جاء الإرشاد من سيدنا عمر في قوله مرفوعاً : اخْشَوْشِنوا؛ فإنَّ النِّعمَةَ لا تدومُ.

وهي حكمة ينبغي أن تعَلَّق في صدر البيت وعلى جدار غرفةِ المعيشة ، ويحفظها الأولاد ويعيها الأحفاد .. وأنا أرددها دوماً على سمع أولادي، فالدهر قُلًّب والأيام دول ، تخفض العالي وتعلي من سفل كما قال ابن الوردي ، وعلى ما قال أبو البقاء الرندي:

لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ *** فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ

هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ *** مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ

وَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ *** وَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُ

اللهم إنا نعوذ بك من غنى يطغينا ، ومن غرور يردينا ، ومن أن تسلبنا نعمك ونحن أحوج عبادك إليها يا الله.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين