الترفيه والترويح

الحياة لا يجوز أن تكون كلها ترويحاً وترفيهاً..

يقوم الشاب متثاقلاً، يمسح عن عينيه غبار النوم، ويمضي في طريقه، ويبدأ يوماً لاهياً، فهو عابث مع رفاقه لا يكفُّ عن الضحك، والمزاح واللعب..

يعود إلى بيته ليأخذ نصيبه من الطعام الطيب، والجو المكيّف، والنوم العميق حتى إذا خيَّم الليل على الوجود، استيقظ صاحبنا يلتمس طريقاً إلى اللعب واللهو، فقد تعب من البقاء في الفراش.. وتشغله الألعاب المسلية بألوانها المتعددة.. فإذا تعب أخلد إلى التلفزيون، فإن لم تعجبه برامجه نظر إلى الإنتر نت بأبوابه المتعددة وفنونه المتنوعة إلى أن يغلبه النوم، هذا غير التسكع في الطرقات والعبث بالسيارات، والمشي في الأسواق المزدحمة.. وقريب مما ذكرنا حياة بعض الفتيات، بما يتناسب مع طبيعتهنَّ الأنثوية، ومن ذلك العناية بالزيارات والاستقبالات، ومتابعة المسلسلات، وارتياد الأسواق، والتبرج في الطرقات...

لا نريد من أبنائنا ولا بناتنا أن يكونوا عابسين متجهمين، ولا نحرمهم من المتعة الحلال، فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً، ويداعب من لقي من أصحابه، وكانت هناك مصارعة ومسابقة وفروسية ورمي.

لكن واقع أحوال المسلمين اليوم البعد عن الاعتدال.

هناك إحصائية قديمة في بلد عربيّ تقوم حياته على الزراعة، ومما قررته هذه الإحصائية: أن انتشار التلفزيون تسبَّب في انخفاض الثروة القومية والإنتاج فكيف بالملهيات الكثيرة المبددة للأعمار والأوقات والطاقات.

كان الفلاح والعامل في ذلك البلد إذا تناول طعام العشاء وصلى صلاة العشاء أوى إلى فراشه مبكِّراً، واستيقظ مبكِّراً، فيفتتح يومه بالصلاة، ثم يذهب نشيطاً إلى حقله أو عمله، فيكدح يومه، فينفع نفسه وأسرته ومجتمعه.. فلما دخلت أدوات الترفيه إلى القرى والأرياف، وشدَّت الناس إليها ساعات وساعات... تأخروا عن الاستيقاظ الباكر. وعندما يذهبون إلى حقولهم وأعمالهم لم تأخذ أجسامهم وأعصابهم حظها من النوم والراحة. وهكذا تأخَّرت الزراعة والصناعة وانحطت الأحوال.

إذا كان الغلو في الدين والطاعة أمراً مذموماً، فما القول بالغلو في التهريج والغناء واللهو واللعب؟!!.

الترفيه أمرٌ سائغ لأنه يريح من الكدّ والجد والتعب، ويجدد النشاط ويذهب الضجر والضيق، ويكون معواناً على الخير، مقوياً لصاحبه على أداء رسالته، أما عندما تنقلب الوسيلة إلى غاية فيقع الانحراف عن منهج الإسلام.

لابدَّ أن نحدد الهدف من الترفيه والترويح، لأن كثيراً من المفاسد تنشأ من الخلط بين الهدف والوسيلة.

لو تحوَّلت الموسيقى ووسائل الترفية الكثيرة إلى غاية فلا زراعة ولا صناعة، ولا تعليم ولا طب، ولا بيع ولا شراء، ولا مصانع ولا مزارع، ولا مستشفيات ولا صيدليات، ولا مدارس ولا جامعات...

أين الوقت للدراسة؟ أين الوقت للقراءة؟ أين الوقت لأداء الواجبات؟ أين الوقت للأمور الكبرى؟!!.

إن وسائل الترفية ينبغي أن تكون متناسقة مع قيم أمتنا وعقيدتها وأخلاقها وأن يصطبغ بالصبغة العامة للأمة.

إن الضحك من خصائص الإنسان، لأنه يأتي بعد نوع الفهم والمعرفة لقول يسمعه أو موقف يراه.

والإسلام دين الفطرة يرحِّب بالحياة الطيبة الباسمة، ويجب للمسلم أن تكون شخصيته متفائلة باشَّة، ويكره الشخصية المكتئبة المتطيِّرة التي لا تنظر إلى الحياة إلا من خلال منظار أسود.

صور من مزاح النبي صلى الله عليه وسلم:

رسول الله صلى الله عليه وسلم برغم همومه يمزح ولا يقول إلا حقاً، يشارك أصحابه في ضحكهم ولعبهم ومزاحهم كما يشاركهم آلامهم وأحزانهم ومصائبهم.

1 ـ يقول زيد: كان إذا نزل الوحيُ كتبتُه له، وإذا ذكرنا الدنيا ذكر معنا الدنيا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكر معنا الآخرة، وإذا ذكرنا الطعام ذكر معنا الطعام...(1)

2 ـ كان صلى الله عليه وسلم في بيته يمازح زوجاته ويداعبهن ويستمع إلى أقاصيصهنَّ كما في حديث أم زرع(2).

3 ـ وكان يتسابق مع عائشة حيث سبقته، وبعد مدة تسابق فسبقها، وقال لها: (هذه بتلك)(3).

4 ـ الحسن والحسين وطأ على ظهره دون تحرُّج وقال لهما: (نِعْم المركب ركبتما نِعْم الفارسان هما)(4).

5 ـ وقال للمرأة العجوز: إنَّ الجنة لا يدخلها عجوز، ولما حزنت قال لها: إنَّ الله إذا أدخلهن الجنة حوَّلهنَّ أبكارًا (الطبراني في الأوسط عن عائشة)(5).

6 ـ يسأله أحد أصحابه أن يحمله على بعير، عن أنس: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال يا رسول الله: احملني. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إنا حاملوك على ولد ناقة " قال: وما أصنع بولد الناقة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل تلد الإبل إلا النوق ؟) أبو داود والترمذي(6).

7 ـ أم أيمن: قالت أم أيمن: إن زوجي يدعوك قال: (ومن هو؟! أهو الذي بعينه بياض ؟) قالت: والله ما بعينه بياض ! فقال "بلى إن بعينه بياضا" فقالت: لا والله، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد إلا وبعينه بياض" وأراد به البياض المحيط بالحدقة. أخرجه الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح، ورواه ابن أبي الدنيا من حديث عبيدة بن سهم الفهري(7).

8 ـ أبو عمير: قال أنس رضي الله عنه كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحسن الناس خلقا، وكان لي أخ يقال له أبو عمير - قال أحسبه – فطيم، وكان إذا جاء قال: (يا أبا عمير ما فعل النغير) رواه البخاري(8).

9 ـ عائشة: عن عائشة قالت: كان عندي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسودة فصنعت خزيراً فجئت به فقلت لسودة: كلي. فقالت: لا أحبه، فقلت: والله لتأكلين أو لألطخنَّ وجهك فقالت: ما أنا بذائقة فأخذت من الصحفة شيئاً فلطخت به وجهها، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس بينى وبينها فخفض لها ركبته لتستقيد منى فتناولت من الصحفة شيئا فمسحت به وجهي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك(9).

وهاهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان يهرب منه الشيطان في طرقات المدينة، على ما عُرف عنه من الصرامة والشدة يبادر بمزاح جاريته فيُروى عنه: أنه مازح جارية له، فقال لها:خلقني خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام فلما رآها ابتأست من هذا القول قال لها مبينًا: وهل خالق الكرام واللئام إلا الله عز وجل ؟؟(10)

ومواقف الضحك والمرح في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – كثيرة، فقد روي أن الضحاك بن سفيان الكلابي كان رجلاً دميمًا قبيحًا، فلما بايعه النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: إنَّ عندي امرأتين أحسن من هذه الحميراء (يقصد عائشة)- وذلك قبل أن تنزل آية الحجاب- أفلا أنزل لك عن إحداهما فتتزوجها؟! وعائشة جالسة تسمع، فقالت: أهي أحسن أم أنت؟ فقال: بل أنا أحسن منها وأكرم، فضحك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من سؤالها إياه؛ لأنه كان دميمًا(11).

الصحابي سويبط بن حرملة مع نعيمان رضي الله عنهما:

عن عبد الله بن وهب بن زمعة عن أم سلمة قالت: خرج أبو بكر في تجارة إلى بصرى قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة فقال سويبط لنعيمان: أطعمني قال حتى يجيء أبو بكر. قال: فلأغيظنك قال: فمروا بقوم، فقال لهم سويبط، تشترون مني عبدا لي. قالوا: نعم، قال: إنه عبد له كلام وهو قائل لكم إني حر فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه فلا تفسدوا عليَّ عبدي. قالوا: لا بل نشتريه منك فاشتروه منه بعشر قلائص، ثم أتوه فوضعوا في عنقه عمامة أو حبلا فقال نعيمان: إن هذا يستهزئ بكم وإني حرٌّ لست بعبد، فقالوا: قد أخبرنا خبرك فانطلقوا به، فجاء أبو بكر فأخبروه بذلك، قال: فاتبع القوم وردَّ عليهم القلائص، وأخذ نعيمان قال: فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه قال فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منه حَوْلا(12).

إشاعة السرور والبهجة في المناسبات والأعياد:

1 ـ عن عائشة رضي الله عنها: أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان والنبي صلى الله عليه وآله وسلم متغشّ بثوبه، فانتهرهما أبو بكر فكشف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن وجهه فقال: (يا أبا بكر فإنها أيام عيد)(13). وتلك الأيام أيام منى.

2ـ وقالت عائشة: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسترني، وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، فزجرهم عمر، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (دعهم أمنا بني أرفدة). يعني من الأمن.

وقال: (خذوا يا بني أرفدة حتى يعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة) مسند الحارث.

3 ـ عن ابن عباس قال: أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أهديتم الفتاة؟ قالوا: نعم، قال: أرسلتم معها من يغنِّي؟ قالت: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأنصار قوم فيهم غَزَل فلو بعثتم معها من يقول:

أتيناكم أتيناكم فحيّانا وحيَّاكم(14)

12ـ وممن احترف فنَّ صناعة الفكاهة الصحابي النعيمان رضي الله عنه فيروي الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمرح عنه، فيقول: وكان لا يدخل المدينة طرفة إلا اشترى منها، ثم جاء بها إلي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: ها أهديته لك فإذا جاء صاحبها يطلب نعيمان بثمنها أحضره إلى النبي صلي الله عليه وسلم وقال: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول: (أو لم تهده لي) ؟ فيقول: إنه والله لم يكن عندي ثمنه، ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك، ويأمر لصاحبه بثمنه(15)

قواعد المزاح النبوي

ولكن يبقى للمزاح قواعده التي نبَّه عليها رسولنا الكريم، منها ألا يكون الكذب وسيلة لإضحاك الناس، ولهذا قال صلي الله عليه وسلم: (ويل للذي يحدث فيكذب، ليضحك القوم، ويل له، ويل له، ويل له)(16). وقد كان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقًا

ومنها: ألا يشتمل المزاح على تحقير إنسان أو استهزاء به.

وجاء في الحديث الصحيح: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) رواه مسلم(17).

ومنها: ألا يترتب عليه تخويف لمسلم.

وقد جاء في الحديث الآخر: (لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبًا ولا جادا) رواه الترمذي وحسَّنه(18).

والمزاح إذا لم تراع فيه آداب الإسلام مَجْلَبة للبغضاء، مقطعة للإخاء، أوله كلام وآخره شتم ولكام، أوله فرح وآخره ترح.

ونحن نحتاج إلى الفكاهة والمرح لتخفيف لأواء الحياة وقسوتها وتشعبُّ همومها وأعبائها.

(إن القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة).

والترفية والترويح ينشط النفس حتى تواصل السير.

ومن أهم شروط المزاح والترميح:

1 ـ ألا يكون الكذب والاختلاق أداة لإضحاك الناس.

2 ـ ألا يشتمل على تحقير إنسان أو استهزاء به.

3 ـ ألا يترتَّب عليه تفزيع لمسلم.

4 ـ ألا يهزل في موضع الجد ولا يضحك في مجال يستوجب البكاء.

5 ـ أن يكون في حدود الاعتدال ونهج الإسلام الوسط كما تقدم بيان ذلك.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

 

(1) رواه الطبراني في الكبير (5/ 140)، والأوسط (8697) والبيهقي في النكاح (13722)، وحسن إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/17).

(2) متفق عليه: رواه البخاري في النكاح (5189)، ومسلم الفضائل (2448)، عن عائشة.

(3) رواه أحمد (24118)، وقال مخرجوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وأبو داود في الجهاد (2578)، وابن ماجة في النكاح (1979)، وابن حبان في السير (4691)، وصححه الألباني في الصحيحة (131)، عن عائشة.

(4) رواه البزار (293)، وأبو يعلى كما في المطالب العالية (3968)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/181- 182): رواه أبو يعلى في الكبير، ورجاله رجال الصحيح، ورواه البزار بإسناد ضعيف. عن عمر بن الخطاب.

(5) رواه الطبراني في الأوسط (5545)، والترمذي في الشمائل (240)، والبيهقي في البعث والنشور (335)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/419): فيه مسعدة بن اليسع، وهو ضعيف. عن عائشة.

(6) رواه أبو داود في الأدب (4998)، والترمذي في البر والصلة (1991)، وقال: صحيح غريب. وأحمد (13817)، وقال مخرجوه: إسناده صحيح. عن أنس.

(7) قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء ص1019: «الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح ورواه ابن أبي الدنيا من حديث عبيدة بن سهم الفهري مع اختلاف»

(8) متفق عليه: رواه البخاري (6129)، ومسلم (2150)، كلاهما في الأدب.

(9) رواه النسائي في الكبرى في عشرة النساء (8868)، وأبو يعلى (4476)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 315): رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح خلا محمد بن عمرو بن علقمة، وحديثه حسن.

(10) معرفة الرجال لابن معين (1/ 165)، نشر مجمع اللغة العربية، دمشق، ط 1، 1405 هـ - 1985 م

(11) قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء (1/ 1020): أخرجه الزبير بن بكار في (الفكاهة) من رواية عبد الله بن حسن مرسلًا أو معضلًا، وللدارقطني نحو هذه القصة مع عيينة بن حصن الفزاري بعد نزول الحجاب من حديث أبي هريرة.

(12) رواه أحمد (26687)، وقال مخرجوه: إسناده ضعيف. وابن ماجة في الأدب (3719)، وجاءت الروايات باختلاف في شخص المازح، ورجح ابن حجر في الإصابة (3/ 185) كون نعيمان المازح هو الصواب، ونسب الرواية الأخرى إلى الوهم.

(13) متفق عليه: رواه البخاري (987)، ومسلم (892)، كلاهما في صلاة العيدين، عن عائشة.

(14) رواه ابن ماجة في النكاح (1900)، عن ابن عباس، ورواه أحمد (15209)، والنسائي في الكبرى في النكاح (5540)، عن جابر بن عبد الله.

(15) رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (62/ 146)، من طريق الزبير بن بكار.

(16) رواه أحمد (20021)، وقال مخرجوه: إسناده حسن. وأبو داود في الأدب (4990)، والترمذي في الزهد (2315)، وقال: حديث حسن. عن معاوية بن حيدة.

(17) رواه مسلم في البر والصلة (2564)، وأحمد (7727)، عن أبي هريرة.

(18) رواه أحمد (17941)، وقال مخرجوه: إسناده صحيح. وأبو داود في الأدب (5003)، والترمذي في الفتن (2160)، وحسنه، عن يزيد بن السائب.

نشرت 2011 وأعيد تنسيقها ونشرها 20/1/2022

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين