التربية على محاسبة النفس والتناصح

التربية على محاسبة النفس والتناصح

أساليب تربوية ومفاهيم دعوية من حياة الشيخ أحمد عز الدين البيانوني

د. عبد المجيد أسعد البيانوني

 

من أهمّ الأساليب التربويّة التي اعتمدها الشيخ في منهجه: محاسبة النفس، وهو منهج سلفيّ أصيل، لا يكاد يخلو من الحديث عنه كتاب من كتب التربية والسلوك، وقد افتنّ سلف هذه الأمّة الصالح في محاسبة أنفسهم، والتدقيق عليها في كلّ ما تأتي وما تذر، وأصل ذلك كلّه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ، وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ، وَاتَّقُوا اللهَ، إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ، أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} الحشر: 18-19.

وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: (الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ) [رواه الترمذيّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ في كتاب صفة القيامة برقم /2383 / وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، ورواه ابن ماجة في الزهد، وأحمد في المسند]. " وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مَنْ دَانَ نَفْسَهُ يَقُولُ: حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".

وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أنّه قَالَ: (حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، وَإِنَّمَا يَخِفُّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا ).

وفي رواية: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزن عليكم، وتزيّنوا ليوم العرض الأكبر: {يومئذٍ تُعرضُونَ لا تخفى منكم خافية} الحاقّة: 18.

وَيُرْوَى عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ رحمه الله قَالَ: "لا يَكُونُ الْعَبْدُ تَقِيًّا حَتَّى يُحَاسِبَ نَفْسَهُ كَمَا يُحَاسِبُ شَرِيكَهُ: مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ وَمَلْبَسُهُ ".

وكان من أصول منهج الشيخ التربويّ: الوَصيّة بالمحاسبة، وذلك بأن يختار الأخ وقتاً مناسباً في آخر يومه، وليكن بعد المغرب أو العشاء، يجلس فيْهِ ولو دقائق معدودة، يستعرض فيها أعماله وأقوَالَه وسلوكه خلال يومه، فما وجد من خير حمد الله تعالى على فضله وتوفيقه، وما وجد من تقصير وتفريط تاب إلى الله تعالى واستغفر، وتدارك ما فاته ممّا يمكن تداركه، وإذا كان تقصيره بحقّ أحد من الناس عزم عَلى الاعتذار منه، وطلب عفوه، ثمّ يجدّد عزيمته في هذه الجلسة، ويشحذ همّته ليكون أفضل ممّا كان عليه.. ثمّ يختم جَلستَه بصلاة ركعتين بنيّة التوبة.

ويتبع هذه الجلسة للمحاسبة الفَرديّة، جلسة للمحاسبة الأسبوعيَّة، يستعرض فيها الأخ الموجّه وصايا إسلاميّة، ويَسأل الإخوة عنها، ويوجّه المقصّرينَ، ويرفع هممهم لمجاهدة نفوسهم، وتدارك تقصيرهم. وبين الفترة والأخرى يزاد على هذه الوصايا بما يناسب أعمار الإخوة ومستوياتهم، وعلى حسب إتقانهم للوصايا المقرّرة.

وفضلاً عمّا تمثّله محاسبة النفس من بعد إيمانيّ لا يخفى فضله وآثاره، ولا تزال تتنامى بركاته على المؤمن في الدنيا والآخرة، فإنّ لها بعداً حركيّاً ودعويّاً، لا يقلّ عن ذلك أهمّيّة ووزناً.. إنّها تشكّل وقوداً ذاتيّاً ليقظة النفس وانبعاثها من غفلاتها، وتغييرها وتجديدها، ومعلماً مهمّاً لنقد الذات وتقويمها، والسعي الدائب إلى تطويرها وترقيتها، فهي بهذا البعد خير عون للقائمين على الدعوة لتحقيق مناهجها، وتنفيذ برامجها على أحسن وجه وأفضله..

وممّا أملى علينا رحمه الله في مجالس " تذكير وتحذير ": تحت عنوان "من حقوق النصيحة وآدابها":

ـ ألاّ يتتبّع الناصح عورات أخيه بقصد نصحه.

ـ ألاّ يعتقد أنّه أفضل منه.

ـ أن يحاسب نفسه قبل أن ينصح، ويعتقد أنّ الله مطّلع عليه، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويرى هل هو ينصح أحداً من إخوانه بدافع الحبّ والإخلاص، أم أنّه يبعثه على ذلك عاطفة نفسانيّة، فإن كانت الأولى فلا بأس عليه أن ينصح، وإن كانت الثانية فعليه أن يلزم نفسه السكوت، ويبعدها عن الوقوع في الإثم، والإنسان على نفسه بصيرة، "وصاحب الدار أدرى بما فيها"، "وأجهل الناس من جهل نفسه ".

ـ ألاّ ينصح في كلّ مجلس، وفي كلّ حين، بل يتخيّر الوقت المناسب للنصيحة.

ـ ألاّ ينصح إلاّ بعد التأكّد من الخطأ، إذ التسرّع قبل التأمّل والتأكّد يؤدّي إلى نتيجة سيّئة، ويظهر في الأرض الفساد.

ـ ألاّ ينصح إلاّ بلهجة يشعر بها كلّ من يسمعه بأنّه حقّاً يريد الإصلاح، ولا يريد التشهير.

ـ ألاّ يلزمه بقبولها إلزاماً، وإنّما يعرضها عرضاً لطيفاً، دون إقامة الحجّة والبرهان على إقناعه.

ـ أن ينهي النصيحة عند حدّ اتّضاح الخطأ، دون إعادة أو تكرار.

ـ ألاّ يتّهمه بالدفاع عن النفس، إذا لم يتقبّل نصحه، بل يلتمس له المعاذير، ويتّهم نفسه وإخلاصه ويقول: لعلّي مخطئ في تقديري! ولعلّي لم أحسن الحديث معه، ولعلّ الأمر لم يتّضح له، وبوسعه أن يخبر الأخ المسئول بما جرى معه.

ـ وأن يحيل نصيحة من لم يقبل منه إلى المسئول أو أحد الموجّهين.

ـ وعلى المنصوح: أن يسمع النصيحة بكلّ صبر وسكوت، ويتأمّلها بكلّ عدل واتّزان، ثمّ يعترف بالخطأ، ويشكر صاحبه على اهتمامه به، ويظهر له الفرح والسرور بذلك، فقد ورد عن سيّدنا عمر رضي الله عنه أنّه قال: "رحم الله امرءاً أهدى إليّ عيوبي".

وعليه أن يعتقد: أنّ أخاه يرى منه ما لا يراه هو من نفسه، أمّا كراهية النقد والنصيحة، وإظهار الغضب والسخط، فإنّما هو دليل على استكبار الإنسان واغتراره بنفسه، نسأل الله تعالى حسن العون، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم ".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين