التربية على علوّ الهمّة والأخذ بالعزائم

التربية على علوّ الهمّة، والأخذ بالعزائم

أساليب تربوية ومفاهيم دعوية من حياة الشيخ أحمد عز الدين البيانوني

د. عبد المجيد أسعد البيانوني

 

التربية على علوّ الهمّة، والأخذ بالعزائم، ليكون المؤمن قدوة لمن حوله، والبعد عن الرضا عن النفس، والتبرير للأخطاء، وفتح أبواب التأويل..

لقد قام منهج الشيخ رحمه الله على الأخذ بالعزائم، وتربية الشباب على ذلك، والحرص على تقديم النموذج الإسلاميّ الصالح، والقدوة الحسنة في الدعوة إلى الله تعالى، وإتقان فنّ التعامل مع الناس.

وكان من تشخيصه لأمراض الأمّة أنّها تفقد النموذج الإسلاميّ الصالح، الذي يكون قدوة حسنة في جميع جوانب المجتمع، ممّا يجعل الأمّة تسمع الأقوال ولا ترى الأفعال، وتُعجب بما يعرض عليها من جمال الإسلام وقيمه ومبادئه، وتصدم عندما ترى سلوك بعض الداعين ومواقفهم التي تتعارض مع ما يدعون إليه ويعلنونه..

وكان كثيراً ما يتحدّث في مجالسه العامّة والخاصّة عن أهمّيّة أن يكون المؤمن نموذجاً حيّاً للإسلام الذي يدعو إليه، وألاّ يخالف منه العمل القول، فيطاله قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3)} الصفّ.

لقد اجتهد الشيخ في تقديم النموذج الإسلاميّ، والقدوة الحسنة من خلال شخصيّته المحبّبة، ومنهجه الدعويّ والتربويّ، وأسرته وأولاده، وإخوانه وأحبابه، ونجح في ذلك إلى حدّ بعيد، ولفت أنظار الدعاة إلى أهمّيّة انسجام القول مع العمل، والدعوة مع الالتزام والسلوك، وأنّ ذلك سرّ نجاح الدعوة، وأن يكتب لها في نفوس الناس الاستجابة والقبول..

ثمّ إنّ من أخطر الأمراض التي تشيع في صفوف الفئة المتديّنة: الرضا عن النفس، والتبرير للأخطاء، وفتح أبواب التأويل.. وتلك أمور تفتح على الإنسان أبواب التهاون، وتقوده إلى الخذلان وأن يوكل إلى نفسه.

ومن كلام السلف: " ما ترك من الجهل شيئاً من رضي عن نفسه ".

وكان الشيخ رحمه الله كثيراً ما يستشهد بالحديث الشريف: (إنّ الله تعالى يحبّ مَعالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها) [رواه السيوطيّ في الجامع الصغير ورمز لحسنه، وقال: رواه الطبرانيّ عن الحسين بن عليّ رضي الله عنهما، وقال المناويّ: " قال الهيثميّ: فيه خالد بن إلياس ضعّفه أحمد وابن معين والبخاريّ والنسائيّ، وبقيّة رجاله ثقات].

وممّا جاء في مجالس "تذكير وتحذير" قوله رحمه الله: " تحذير العلماء والصالحين والدعاة إلى الإسلام من التهاون بأمور الدين في نفوسهم ونسائهم وأولادهم، لأنّ هؤلاء موضع قدوة، والناس يقلّدونهم فيما هم عليه، فإذا تمسّكوا تمسّك الناس، وإذا تهاونوا تهاون الناس، وأعظم خطر على الأمّة هو فقد القدوة الصالحة، وانحراف من يقتدى به.

قال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ، وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ، وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ، إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا (32)} الأحزاب.

وكان أمير المؤمنين عمر رضي الله عه إذا نهى الناس عن أمر دعا أهله فقال: "إنّي نهيت الناس عن كذا وكذا، وإنّما ينظر الناس إليكم نظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم وقع الناس، وإن هبتم هاب الناس، وإنّه والله لا يقع أحد منكم في شيء نهيت الناس عنه إلاّ أضعفت له العقوبة، لمكانه منّي".

علوّ الهمّة من الإيمان، وإنّ دعاة الإسلام يتقدّمون ركب الناس في الدعوة إلى الله تعالى، والحثّ على طاعته، والبعد عن مخالفته، فحقّ على من يتقدّم ركب الناس ليقود أن يكون قدوة صالحة لهم، صاحب همّة عالية، وعزيمة ماضية، وانسجام بين أقواله وأحواله، لأنّ من وراءه ينظرون إليه في كلّ شيء، ويحتجّون بعمله وسلوكه، فليروا منه ما يرفع هممهم، ويقوّي عزائمهم، ليقتدوا به، فيكون له من الأجر مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجرهم شيء..

إنّ موقفاً واحداً من مواقف العمل والسلوك يغني عن خطبة ومحاضرة، من فصيح اللسان، بليغ البيان، وسبق أن ذكرنا قول بعض السلف: "حالُ رجلٍ في ألفِ رجلٍ أبلغُ مِن قولِ ألفِ رجلٍ في رجلٍ"، وكان يستشهد به الشيخ في مواعظه ودروسه..

ويقول رحمه الله عن "أهمّيّة الناحية التطبيقيّة في الإسلام": "ليس الإسلام نظريّة من النظريّات، تعرض وتناقش، فيتقبّلها من يتقبّلها، ويعرض عنها من يعرض، ويبرهن على صدقها من اقتنع بها، ويحاول دحضها من لم يقتنع.. وليس الإسلام فكرة مجرّدة، تقرّ بها العقول أو لا تقرّ، وتؤيّدها الأقوال أو تنبذها وتردّها.. وليس الإسلام دعوى تدّعى، ولا كلمة تقال، فإذا ادّعاها المدّعي وصف بها، ونسب إليها.. لا، إنّ الإسلام شريعة الله في أرضه، أنزلها على رسوله محمّد خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم..

ولا قيام للإسلام في المجتمع إلاّ بوجود أفراد فيه يطبّقون الإسلام في أنفسهم، فيكونون نماذج حيّة، يمثّلون الإسلام تمثيلاً عمليّاً، يدعون إليه بأقوالهم وأفعالهم، ويمثّلونه في عباداتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم، وفي مساجدهم وأسواقهم، وفي سرّهم وعلانيتهم، وسائر تصرّفاتهم.. بهذا قام الإسلام أوّل أمره، يوم آمن به رجال فعملوا به، وطبّقوا أحكامه، ومثّلوه في مجتمعهم، وعلاقات أفرادهم، وصلات بعضهم ببعض.." [الدعوة إلى الإسلام وأركانها " ص/122ـ125/].

وممّا جاء في أمالي "تذكير وتحذير": "الفضائل تنال بالمجاهدة لا بالتمنّي، فلنجاهد أنفسنا على الإخلاص: نصلّي ما تيسّر من النفل سرّاً، ونتصدّق بما تيسّر من المال سرّاً، ونقرأ القرآن في خلواتنا، ونبكي في سجودنا ومناجاتنا، ونسدي المعروف إلى من نعرف ومن لا نعرف، ونلجم ألسنتنا عن التحدّث بشيء من أعمالنا، والله وليّ التوفيق".

وأمّا التبرير للأخطاء، وفتح أبواب التأويل، فهي من الأدواء النفسيّة الخطيرة القاتلة، الشائعة المستشرية، التي تصدّ الإنسان عن تقويم سلوكه، وإصلاح عيوبه، فما دام يجد لنفسه ما يبرّر به أخطاءه، ولن يعدمه الشيطان أن يقدّم له من الأعذار في كلّ موقف ما يرى نفسه مصيباً غير مخطئ، محسناً غير مسيء، فمتى يتمّ له أن يجاهد نفسه على فعل الخير، وترك ما هو عليه من الضعف والتقصير.؟

ومن العجب أن يبرّر الإنسان أخطاءه، ويلتمس العذر لنفسه، ولا يعذر إخوانه بأقلّ من هذه الأخطاء التي يرتكبها بكثير.! وكان المفروض فيه غير ذلك تماماً: ألاّ يعذر نفسه في أخطائه، ويلتمس العذر للآخرين..

وإذا كان إبليس قد وجد لنفسه العذر في عدد من كبائر الإثم، عصى بها ربّه، ثمّ أصرّ على عصيانه، فاستحقّ لعنة الله وغضبه، أفلا يستطيع أن يلقّن الإنسان بعض التأويلات الواهية، والحجج السخيفة، ليبرّر أخطاءه وتقصيره، أو زيغه وانحرافه.؟!

ألا فليحذر الدعاة إلى الله تعالى أن يفتحوا على أنفسهم أبواب التأويل التبرير، فلن تقودهم إلاّ إلى تساهل، يتلوه تساهل، وكما أنّ الترقّي ليس له انتهاء، فكذلك التدنّي، لا يزال بالإنسان حتّى يورده موارد الهلكة..

نسأل الله تعالى الحفظ من الزيغ والزلل، والثبات على الحقّ، والتوفيق لصالح العمل.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين