التربية على حبّ الصالحين

التربية على حبّ الصالحين

أساليب تربوية ومفاهيم دعوية من حياة الشيخ أحمد عز الدين البيانوني

 

د. عبد المجيد أسعد البيانوني

التربية على حبّ الصالحين والاعتراف بالفضل لذوي الفضل وحسن الظنّ بهم والتماس العذر لهم فيما ينسب إليهم من بعض الأقوال أو المواقف التي لا تتّفق مع الشريعة، مع رفض تلك الأقوال ونبذها، وعدم فتح الباب لتأويلها، والجدل حولها.

والأدب جمال الحياة، وهو عنوان المسلم، وعندما يكون الأدب مع العلماء والصالحين فهو آكد وأوجب.. وهذا الموقف موقف حصين رصين، يجمع بين نصرة الحقّ والثبات عليه، وبين حسن الظنّ بمن سلف، والبعد عن التهوّر بالطعن والتجريح دون حجّة أو برهان..

وليس هذا الموقف بدعاً من القول والرأي، أو مداهنة في دين الله تعالى، وتنازلاً عن شيء من الولاء والبراء، بل هو موقف العلماء الربّانيّين، الراسخين في العلم والإيمان، من سلف هذه الأمّة والتابعين لهم بإحسان، وليس المقام هنا للتدليل على ذلك وإثباته، وتكفينا الإشارة إلى من نهج هذا المنهج العدل، وسلك هذا المسلك المنصف.

ينظر في ذلك ما كتبه الإمام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى 11/6 و14 وما بعد، وانظر أيضاً 5/491 و8/319 و ج 10/488، 507، 516، 686 و 11/245، وانظر له أيضاً رسالة سماع الصوفيّة، وهي مطبوعة ضمن مجموعة رسائل بعنوان الجامع الفريد ص/ 672، 677/، والوصيّة الكبرى ضمن مجموع الرسائل الكبرى ج 1/319، والرد على المنطقيين ص /515/، وانظر: " مدارج السالكين " ج 2 ص/37 و 39 ـ 40، و52 و/370/، وانظر أيضاً كتاب: " التاج المكلّل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول "، لصدّيق حسن خان القنوجي في ترجمته للشيخ عبد القادر الجيلاني خاصّة ص/166/، ومن العلماء والدعاة المعاصرين الإمام حسن البنا رحمه الله تعالى، فقد حاول محاولة جادّة في هذا السبيل للجمع بين الاتّجاه السلفيّ والاتّجاه الصوفيّ في الدعوة إلى الإسلام، ووفّق في ذلك إلى حدّ كبير، وبخاصّة إذا لاحظنا عمق الهوّة بين الفريقين، وقد خرج من ذلك بمزيج وسطيّ معتدل، وانظر ما كتبه في: " مذكّرات الدعوة والداعية " ص / 21 ـ 23 / ومجموعة الرسائل ص / 112 و 248 /، وما كتبه الأستاذ الداعية أبو الأعلى المودودي، وما كتبه رحمه الله في كتابه: " مبادئ الإسلام " ص /121/، و" مجلّة ترجمان القرآن "، عدد جمادى الأولى 1371 هـ، وهو موقف الشيخ محمّد الحامد رحمه الله تعالى، وانظر ما كتبه عنه الأستاذ عبد الحميد الطهماز في كتابه: " العلاّمة المجاهد الشيخ محمّد الحامد " ص / 117 ـ 132 /، ومن العلماء والدعاة المعاصرين الداعية الكبير الأستاذ أبو الحسن علي الحسني الندويّ رحمه الله، وانظر كتابه: " ربانيّة لا رهبانيّة "، وكتاب: " رجال الفكر والدعوة في الإسلام "، وجميع كتابات المؤلّف تتسم بهذا الاتّجاه العدل المنصف، الحريص على جمع الكلمة، وقطع دابر الخلاف بين الأمّة، وغيرهم كثير كثير، ولا عبرة بالغلاة المتطرّفين، الذين قال فيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي أمثالهم: ( هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ ) رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه، وانظر ما كتبته في رسالة بعنوان: " قضايا دعويّة مُلِحّة ".

ثمّ إنّ التربية على حبّ الصالحين، والاعتراف بالفضل لذوي الفضل، وتقدير ذوي السنّ، وحسن الظنّ بهم، والتماس العذر لهم.. أدب من أعظم آداب الإسلام وقيمه إن لم يتربَّ عليه الناشئ منذ صغره نشأ على تمرّد وغرور، واستهتار بحقوق الكبار بدءاً بوالديه، وانتهاءً إلى التطاول على سلف هذه الأمّة الصالح، ممّا يكون سبيل تفكّك المجتمع، وشيوع القطيعة والتدابر بين أبنائه، وقد رأينا من بلغ به سوء الأدب والخذلان، والعياذ بالله أن تطاول على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجرّأ عليهم، وما كان يظنّ به ذلك أو يتوقّع..

وقد جاء في مجالس الشيخ، التي أملاها علينا باسم: " تذكير وتحذير " قوله في أوّلها رحمه الله: " أذكّر إخواني بأمور يتردّد فيها كثير من الناس، وأحذّرهم من أمور يغفل عنها كثير من الناس، وهذا التردّد، وهذه الغفلة يضرّان بمن يبني نفسه بناءً إسلاميّاً صحيحاً، وبمن يرجو أن يكون داعياً إلى الإسلام الصحيح، فأذكّرهم بما يلي:

أوّلاً: حسن الاعتقاد بالصوفيّة رضي الله عنهم، فهم السلف الصالح، وصفوة الأمّة من كلّ جيل، عملوا على تزكية النفوس، وتطهيرها من رعوناتها، وتنوير القلوب، وصلتها بربّها عزّ وجلّ، وما جاء في كتبهم نزنه بميزان الشرع، فما وافق الشرع قبلناه، وما احتمل التأويل أوّلناه، وما خالف الشرع رددناه، على أنّه مدسوس عليهم، وهم منه براء.

"فقد قال شيخهم الجنيد رحمه الله: " طريقتنا هذه مبنيّة على الكتاب والسنّة".

"وأمّا المتصوّفة، فهم الذين يدّعون التصوّف في كلّ عصر، ولم يسلكوا مسالك الصوفيّة، ولم يتخلّقوا بأخلاقهم، ولم يتأدّبوا بآدابهم، ودعوى الكمال فاضحة حقائق الرجال، ونقص المتأخّرين لا يحملنا على ذمّ المتقدّمين، فكما أنّ المسلمين اليوم في وادٍ، والإسلام في واد، فكذلك المتصوّفة وحقيقة التصوّف".

وللتربية على حبّ الصالحين، وحسن الظنّ والاعتقاد بهم: ثمرات كبيرة في حياة المؤمن لعلّ من أهمّها تثبيت فؤاده على الحقّ، وشعوره بالأنس والطمأنينة، وتخفيف معاناته في زمن يشعر فيه المؤمن الحقّ بغربة الإسلام حيثما كان، وقد ذكر الله تعالى ذلك في حكمة ما قصّ على نبيّه صلى الله عليه وسلم من أنباء الرسل، فقال سبحانه: {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ، وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } هود (120).

وكان من يخالط الشيخ رحمه الله يجد الأدب مع العلماء والصالحين سمة سلوكه، وعنوان حياته، ويراه بين أيديهم كالطفل بين يدي والديه، على غاية من الأدب والتواضع.. وقد رأيته مرّات كثيرة يقبّل يد الشيخ عبد الله خير الله رحمه الله تعالى، وهو من فقهاء الحنفيّة الصالحين المعتبرين، وكان مفتياً لمنطقة جبل سمعان في حلب، ومن المنسوبين إلى البيت النبويّ الكريم.

وكذلك رأيت منه مثل هذا الموقف مع الشيخ محمّد السلقيني رحمه الله.

ومن كلمات الشيخ المأثورة، ووصاياه لأبنائه وإخوانه: "تحيّة العلماء تقبيل أيديهم".

التربية على الثقة بالعلماء العاملين والدعاة المخلصين، والحرص على التعاون معهم، والانتفاع بعلمهم وجهودهم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين