التربية على العبادة

أطفالنا والعبادة (6)

التربية على العبادة

د. عبد المجيد أسعد البيانوني

 

العبادة لله وحده هي العهد القديم الذي أخذه الله على الإنسان، وسجّله في فطرهم البشريّة، وغرسه في طبائعهم الأصيلة، منذ عهد إليهم بأمانة التكليف، فوضع في رءوسهم عقولاً تعي، وفي صدورهم قلوباً تخفق، وفي الكون حولهم آيات تهدي: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} يس.

هذا العهد الوثيق بين الله تعالى وعباده، هو الذي صوّره القرآن في روعةٍ وبلاغةٍ حين قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى شَهِدْنَا، أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا: إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ، وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ، أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ (173)} الأعراف.

فلا عجب أن يكون المقصود الأعظم من بعثة النبيّين، وإرسال المرسلين، وإنزال الكتب المقدّسة هو تذكير الناس بهذا العهد القديم، وإزالة ما تراكم على عهد الفطرة من غبار الغفلة أو الوثنيّة أو التقليد، ولا عجب أن يكون النداء الأوّل لكلّ رسول: {.. يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ، مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)} الأعراف، بهذا دعا قومه: نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وموسى وعيسى، عليهم الصلاة والسلام، وكلّ رسول بعث إلى قومه، كان هذا محور دعوته ولبّ رسالته.

قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً: أَنْ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ.. (36)} النحل، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ: أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} الأنبياء، وذكر الله تعالى قصص عدد من الأنبياء، ثمّ قال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)} الأنبياء، وقال تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)} المؤمنون.

فالأديان كلّها دعوة إلى عبادة الله تعالى وحده، والأنبياء جميعاً أوّل العابدين لله، وقد أثنى الله تعالى عليهم بقوله: {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)} الأنبياء، فعبادة الله وحده هي إذن مهمّة الإنسان الأولى في الوجود ووظيفته، وغاية خلقه وحياته، كما قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (56)} الذاريات.

وعندَما أمرنا النبيّ صلى الله عليه وسلَّم أنْ نأمرَ أولادنا بالصلاة وهم أبناء سبع، ونضربهم وعليها إذا بلغوا عشر سنوات وقصّروا في أدائها، فهذا يعني أنّ التربية على العبادة من أهمّ ما يعتني به الشرع ويوليه رعايته، كما يعني ذلك أنّ الإسلام جعل التدريب على الصلاة على مرحلتين، هما قبل سنّ البلوغ والتكليف:

ـ المرحلة الأولى: مرحلة الأمر والتعليم والترغيب، وذلك عند بلوغ سنّ السابعة، ويكون التهيّؤ لها والتهييئ: بالقدوة الحسنة، عندما يرى الطفل والديه يؤدّون الصلاة وغيرها من العبادات، فيقلّدهم، ويحاكي أفعالهم، فيرى منهم الاستحسان والتشجيع.

 

ـ والمرحلة الثانية: مرحلة التأديب والترهيب، وذلك إذا وقع التقصير والتهاون، أو التفريط عند بلوغ العاشرة، وهذا ما يعدّ شاذّاً بعيد الوقوع إذا أحكمت المرحلة الأولى، ونالت ما تستحقّ من الاهتمام والرعاية..

فثلاث سنوات من التدريب والترغيب فرصة كافية للناشئ، لتكون الصلاة نظاماً، تتطبّع عليه حياته، وتنشَط له أعضاؤه، وتكون جزءاً من شخصيّته، وبرنامج حياته، وبخاصّة أنّه يرى من حوله من والديه وإخوته الأكبر منه وأخواته، يؤدّون الصلاة كلّ يوم في أوقاتها بانتظام، فإذا تهاون بها بعد ذلك أو فرّط ناسب أن يجد من المربّي الحزم والشدّة، ليعلم أنّ الأمر جدّ، وأنّ وراءه مسئوليّة في الدنيا قبلَ مسئوليّة الآخرة وجزائها..

 

ومن ذاق لذّة العبادة للهِ تعالى استطاع أن يحبّب بنيه بالعبادة، ويرغّبهم بهَا.. ولم يكن أمره لهم بلغة الأمر والتكليف، وإنّما بلسَان الحبّ والرغْبة، ومَا كان كذلك كان تأثيره دائماً بالغاً.. وبعد أداء الفرائض وإتقانها ينبغي على الوالد أن يرغّب الطفل أو الناشئ بأداء النوافل الرواتب وغير الرواتب، لينشأ الطفل على حبّ التقرّب إلى الله تعالى..

 

ولا يختلف الصيام عن الصلاة إلاّ بفارق واحد، وهو مراعاة القدرة البدنيّة للناشئ، فقد يبلغ السابعة أو العاشرة، وجسمه ضعيف لا يحتمل الصيام، فيمهل حتّى يشتدّ عوده ويَقوى، إذ لا يُكلّف الله نفساً إلاّ وسعَها، فكيف بمن لم يدخُل بعد مرحلة البلوغ والتكليف.؟

 

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يصوّمون صبيانهم وهم صغار، حتّى كانوا يأتون لهم باللعب من العهن ـ أي الصوف ـ يلهّونهم بها، حتّى يأتي وقت الإفطار.

 

وليس المطلوب من الناشئ أن يصوم الشهر مرّة واحدة، فمن الممكن أن يصوم في أوّل سنة يومين أو ثلاثة أيّام مثلاً، ثمّ يصوم بعدها أسبوعاً، ثمّ أسبوعين.. حتّى يمكنَه بعد ذلك أن يصوم الشهر كلّه قبل أن يدخل سنّ البلوغ..

وينبغي أن يلاحظ الوالدان تخفيف التكاليف علَى الناشئ وقت الصيام رحمةً به وترغيباً، وذلك من الرفق الذي أمرنا به، كما ينبغي عليهم أن يهتمّوا بالسحور، وأن يكون مقارباً لطلوع الفجر، ليكُون أعون لهم على طاعة الله تعالى وأقوى.

وأمّا الزكاة فجمهور أهل العلم على أنّها تجب في مال الصبيّ، ولو لم يبلغ، يخرجها من ماله وَليّه أو وصيّه، وحبّذا أن يعرف الصبيّ ذلك عندما يكبر ويكون في سنّ التمييز، ليستشعر مسئوليّة الأداء لهذا الركن من أركان الإسلام، وليتدرّبَ نفسيّاً وعَمليّاً على البذل والإنفاق في سبيل الله عزّ وجلّ.

 

وعندما يكبر الطفل فيقارب سنّ البلوغ، فينبغي على وليّه أن يحثَّه على الصدقة من ماله بيْن الحين والآخر، ليتعوّد على فعل الخير، وينشأ على الجود والكرم..

 

وأمّا الحجّ وهو الركن الخامس من أركان الإسلام؛ فلا نجد في الهدي النبويّ أمراً للأطفال به، ويبدو أنّ طبيعة الحجّ الخاصّة، التي يشترط فيها الاستطاعة، والاستطاعة تشمل القدرة البدنيّة والماليّة، والطفل في أغلب الأحوال مظنّة ضعف القدرة البدنيّة، فمن رحمة الله تعالى بعباده أن لم يوجّه الأمر لأطفالهم بها.. {ومن تطوّع خيْراً فهوَ خيرٌ له}.

 

ولا يخفى أنّ الفرق بيْنَ الصلاة وسائر العبادات لا يحتاج إلى بيَان؛ من حيث الأهمّيّة، ومن حيث الأثر النفسيّ والاجتماعيّ، ومن حيث الوقت والقدرة على الأداء، ممّا يجعل لها تميّزاً في التكليف بها منذ السابعة، والضرب على التقصير بها عندَ العاشرة..

 

ومن التربية على العبادة تربية الطفل على ذكر الله تعالى، وتسبيحه وتمجيده، وتهليله وتعظيمه، وتعويده على الأخذ بأذكار الصباح والمساء، وما ورد في السنّة النبويّة من أدعية المناسبات وأذكارها، وفي ذلك ترسيخ لحقائق العقيدة التي يعبّر عنها الركن الأوّل من أركان الإسلام..

 

وإذ كان مفهوم العبادة شاملاً لما يحبّ الله ويرضى، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، التي تؤدّى بنيّة التقرّب إلى الله تعالى، فعلى المربّي أن يربط للطفل والناشئ كلّ عمل من أعمال الخير والبرّ بعبادة الله تعالى والتقرّب إليه، والرغبة في مثوبته، لينشأ على إخلاص العمل لله تعالى، وابتغاء وجهه في جميع أعماله..

 

ومن الخطأ الفادح الذي يرتكبُه بعض الآبَاء والأمّهات أنّهم يهملون أولادهم منذ الصغر، فلا يدَرّبونهم على أداء الفرائض والطاعات لله تعالى، فإذا وصلوا سنّ البلوغ كانت العبادة أثقل على أنفسهم من الجبال، فلم يستجيبوا للأمر أو النهي، وأنفوا عن طاعة الله تعالى وتمرّدوا، وما أصدق قول الشاعر:

وينفع الأدب الأولاد في صغرٍ *** وليس ينفع عند الشيبة الأدبُ

إنّ الغصون إذا قوّمتها اعتدلت *** ولن تلين إذا قوّمتها الخشبُ

 

أيّها الآباء والمربون.! لقد قضَت حكمة الله تعالى أن يكون في الأطفال حافز فطريّ قويّ: أن ينظروا للكبار نظرة الاقتداء في كلّ شيء، فهم يتشبّهون بهم ويقتدون، ويريدون أن يُروا الكبار من أنفسهم القوّة والقدرة على أنّهم يفعلون ما يفعل الكبار، ولا ينقصون عنهم في شيء.. وهذا الحافز الفطريّ خير عون للوالدين والمربّين على توجيه الأطفال والناشئين نحو ما فيه خيرهم وصلاح أمرهم من عبادة الله تعالى والحرص على التقرّب إليه..

 

فلنتّخذ من أساليب الترغيب والتحبيب بالعبادة، ما يجعل عبادة الله تعالى فطرة راسخةً مكينة في نفوس أبنائنا، وطاعته أحبّ إليهم من كلّ شيء، وآثر عندهم من كلّ متعة.. ولنعلم أنّ منهج الحقّ لا يستغني عن الأسلوب الطيّب والوسيلة المحبّبة.. بل هو أحقّ بها وأهلها.. فهل نقدّر مسئوليّتنا حقّ قدرها.؟ فينشأ أبناؤنا على حبّ العبادة والتعلّق بها، ويكونوا قرّة عينٍ لنا في الدنيا والآخرة، فإنّ الخير عادة والشرّ عادة، ويشيب المرء على ما شبّ عليه، والتربية في الصغر كالنقش في الحجر، ويقول الشاعر:

وينشَأ ناشئ الفتيان منّا *** على ما كانَ عوّدهُ أبوهُ

اللهمّ أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

اللهمّ حبّب إلينا الإيمان، وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، والحمد لله ربّ العالمين.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين