التربية على الشورى من سمات كمّل الرجال

أساليب تربوية ومفاهيم دعوية من حياة الشيخ أحمد عز الدين البيانوني رحمه الله تعالى

إنّ من أخطر أدواء مجتمعاتنا العامّة والخاصّة: الروح الفرديّة في العمل والإدارة، وتغييب الشورى تحت ركام كثير من المفاهيم والتعِلاّت.. وذلك من أسباب تخلّفنا الرئيسة، وتبديد طاقاتنا، وهدر إمكاناتنا، وتشتيت جهودنا..

وموقف علماء الدين من الشورى واضح وصريح، ولكنّ بعض الناس يطيب لهم أن ينسبوا إليهم من الأقوال ما يبرّر لهم سلوكهم ومواقفهم.

يقول الإمام النوويّ في كتابه: " الأذكار ":

" قال الله تعالى: {.. وَشَاوِرهُم في الأمرِ.. (159) } آل عمران والأحاديث في ذلك مشهورة، وتغني هذه الآية الكريمة عن كلّ شيء، فإنّه إذا أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه نصّاً جليّاً نبّه فيه نبيّه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة مع أنّه أكمل الخلق، فما الظنّ بغيره ؟

" واعلم أنّه يستحبّ لمن همّ بأمر أن يشاور فيه من يثق بدينه وخبرته وحذقه، ونصيحته وورعه وشفقته. ويستحبّ أن يشاور جماعة بالصفة المذكورة، ويستكثر منهم، ويعرفهم مقصوده من ذلك الأمر، ويبيّن لهم ما فيه من مصلحة ومفسدة، إن علم شيئاً من ذلك، ويتأكّدُ الأمرُ بالمشاورة في حقّ ولاة الأمور العامة، كالسلطان والقاضي ونحوهما، والأحاديث الصحيحة في مشاورة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحابه، ورجوعه إلى أقوالهم كثيرة مشهورة، ثم فائدة المشاورة القبول من المستشار إذا كان بالصفة المذكورة، ولم تظهر المفسدة فيما أشار به، وعلى المستشار بذل الوسع في النصيحة وإعمال الفكر في ذلك.

فقد روينا في صحيح مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الدينُ النَّصِيحَةُ، قَالُوا: لمن يا رسولَ اللهِ ؟ قالَ: للهِ وكتابِه ورسُولِه، وأئمةِ المسلمينَ وعامّتِهِم ).

وروينا في سنن أبي داود والترمذي والنسائيّ وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( المستَشَارُ مُؤتمن ) " [الأذكار للإمام النوويّ ص/287/].

وعلّق الشارح ابن علاّن رحمه الله في شرحه بقوله: " قوله تعالى: { وشَاوِرهُم في الأمرِ }، في ذلك دليل على المشاورة وتحرير الرأي وتنقيحه، والفكر فيه، وأن ذلك مطلوب شرعاً، وأمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بمشاورتهم تطييباً لخواطرهم، وتنبيهاً على رضاه صلى الله عليه وسلم حيث جعلهم أهلاً للمشاورة، إيذاناً بأنّهم أهل المحبّة الصادقة والمناصحة، إذ لا يستشير الإنسان إلاّ من كان فيه المودّة والعقل والتجربة، ومنهج العرب وعادتها الاستشارة في الأمور، وإذا لم يُشاور أحد منهم حصل في نفسه شيء، وفي أمره صلى الله عليه وسلم بالمشاورة التشريع للأمّة ليقتدوا به في ذلك.

قال ابن عطيّة: قال الثوريّ رحمه الله: " الشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، وهذا ممّا لا خلاف فيه، والمستشار في الدين عالم دين، وقلّما يكون ذلك إلاّ في عاقل ".

وللشورى في ذاكرة الأدب رصيد كبير، ووصايا للحكماء لا تدخل تحت حصر، منها قول الشاعر:

إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن=برأي نصيح، أو نصيحة حازم

ولا تجعل الشورى عليك غضاضة=فإنّ الخوافي قوّة للقوادمِ

وكثيراً ما يتحدّث العلماء والدعاة عن الشورى من زاوية الوجوب على الآخرين، ويغفلون عنها في سلوكهم ومواقفهم العامّة والخاصّة.. فيفقد الكلام قيمته، وتحرم الدعوة من السلوك العمليّ، الذي يقدّم للناس الأسوة الحسنة، والتطبيق الحيّ لقيم الإسلام ومبادئه..

وقد كان الشيخ أحمد رحمه الله يأخذ بالشورى في حياته كلّها دون أيّ دعوى أو تبجّح، أو إثارة شيء من الضجيج..

كان يأخذ بالشورى العلميّة الشرعيّة، وبالشورى الدعويّة، وبالشورى التربويّة، ويطلب الرأي والمشورة من أهل العلم والفضل، ويسعى إليهم بغاية الأدب والتواضع..

وكان يشاور في المسائل العلميّة الشرعيّة أهل العلم والفضل، ممّن قرب منه أو بعد، ولو بالمراسلة، ويتبع رأيهم، ويأخذ بشوراهم، وعندما ظهرت فئة شاذّة من الناس، تستخفّ بالمذاهب الأربعة، وتنتقص من فضل العلماء والأئمّة وقدرهم، وتشوّش العامّة بما تثيره من الخلافات والفتاوى الشاذّة، شاور أهل العلم، وراسلهم واستفتاهم، ثمّ جمع ما وصله من مقالات، ونشرها في كتابه: " الاجتهاد والمجتهدون "..

وكان يشاور في المسائل الدعويّة والتربويّة العلماء والدعاة والمشايخ، ويأخذ برأيهم.. بل كان يشاور تلامذته وإخوانه، ولو كانوا في مثل سنّ أولاده، تأصيلاً للشورى في حياتهم، وتربية لهم على ممارسة الشورى، والصدور عنها..

وكان لنا مع الشيخ مجلس لبحث شئون الإخوة طلاّب المسجد، وحلّ مشكلاتهم، وكان كثيراً ما يطلب رأي الأخ في المشكلة التي يعرضها، ويسمع الرأي من الآخرين بكلّ اهتمام وإنصات قبل أن يقدّم رأيه وتوجيهه.

وربّما زُيّن لنا الرأي الذي نعرضُه، فقدّمناه ونحن معجبون بما وفّقنا إليه، فعندما نسمع رأيه وحلّه، تتضاءل آراؤنا، وتزول عنها حُلاها وبهرجها.

إنّها القدوة الحسنة والتربية العمليّة، على الأخذ بالشورى، وأدب الحوار وفنّه..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين