التربية على البعد عن كل ما يصد عن الهدف

التربية على البعد عن كلّ ما يصدّ عن الهدف

أساليب تربوية ومفاهيم دعوية من حياة الشيخ أحمد عز الدين البيانوني

د. عبد المجيد أسعد البيانوني

 

التربية على الانتقاء من كلّ شيء أطيبه، والبعد عن كلّ ما يصدّ عن الهدف أو الغاية.

إنّ للمؤمن أهدافاً يصبو إليها، وغاية يتطلّع لها، ولا يحيد عنها، على ذلك تقوم حياته، ويتحدّد سعيه، وبه يبذل جهده، وتطيب ثمرة عمله.. وانتقاء الإنسان من كلّ شيء أحسنه وأطيبه، دافع من دوافع الفطرة، ومقتضى العقل والرشد، وأدب مِن آداب الدين الحنيف..

وإنّ من أخطر الأدواء التي ابتليت بها الأمّة الإسلاميّة، وما يسمّى بالصحوة الإسلاميّة: " داء المراء والجدال"، وإهدار الجهود والطاقات، وتضييع الأوقات في إثارة خلافات، لا طائل وراءها، وتضخيم الخلافات في الفروع وإثارتها، والغفلة عن الأصول ونسيانها، وإشغال الأمّة بقضايا هامشيّة، لا تقدّم ولا تؤخّر، هي من فضل العلم، إن لم تكن ممّا لا ينفع، وفتح جبهات للجهاد في غير جهاد، وضياع العمر في غير ثمرة، وقد حذّر النبيّ صلى الله عليه وسلم من المراء والجدال، وبيّن أنّه من العلل التي أهلكت الأمم السابقة وأفسدت حياتها، إذ جعلت بأسها بينها، وشتّتت جهودها وطاقاتها، وحرفتها عن العمل المثمر البنّاء..

وقد أدّب الله تعالى بني إسرائيل على لسان موسى عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} الأعراف: 145.

وضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم مثلاً للمؤمن بقِطْعَةِ الذَّهَبِ والنَّحْلَةِ، ففي الحديث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: (.. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ لَكَمَثَلِ الْقِطْعَةِ مِنَ الذَّهَبِ نَفَخَ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا فَلَمْ تَغَيَّرْ وَلَمْ تَنْقُصْ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ لَكَمَثَلِ النَّحْلَةِ أَكَلَتْ طَيِّبًا، وَوَضَعَتْ طَيِّبًا، وَوَقَعَتْ فَلَمْ تُكْسَرْ، وَلَمْ تَفْسُدْ..) [رواه أحمد في المسند برقم /6577/].

ولله ما أجمل هذا التمثيل للمؤمن بالنحلة، وما تتمتّع به من صفات: أَكَلَتْ طَيِّبًا، وَوَضَعَتْ طَيِّبًا، وَوَقَعَتْ فَلَمْ تُكْسَرْ، وَلَمْ تَفْسُدْ، وما أبعد الفرق بينها وبين الذبابة.! إنّ النحلة جعل الله لها غاية في مأكلها أن تخرج من بطونها شَراباً طيّباً، فيه شفاء للناس، فكأنّها لا تأكل لنفسها، وإنّما تأكل لنفع غيرها بتسخير الله وتقديره، أمّا الذبابة فكأنّها لا تأكل إلاّ لملء بطنها، وحظّ نفسها، فهي تأكل ما هبّ ودبّ، وتقع على الطيّب والخبيث، فما كان منها للإنسان إلاّ الشرّ والأذى..

ومن وحي هذا المثل وما يحمله من معانٍ عظيمة، فكثيراً ما سمعت الشيخ رحمه الله يقول في الإجابة عن أيّ موقف فيه ريبة والتباس، أو خلاف بين الناس: " خذ ما صفا ودع ما كدر "، إنّه لأصل راسخ، وقاعدة ذهبيّة، تطبِيقاتُه لا تدخُل تحت عدّ أو حصر، ولكأنّه يخرج من مشكاة النبوّة الزهراء، فما أجمل أن تقوم عليه حياة المؤمن الداعية، فتقوم على أساس راسخ متين، لا يزلّ ولا يزيغ، إذ إنّ العمر مهما بلغ فهو محدود قصير، والأهداف المطلوبة كبيرة وكثيرة، فما لم يجرّد المؤمن همّته لأهدافه الثمينة السامية ضاعت جهوده وتبعثرت وراءَ الأعمال الهامشيّة غيْر المفيدَة ولا المُثمرةِ، بل الضارّة في أكثر الأحيان أفحش الضرر..

وإنّ التفريط بهَذا المبدأ جعل جهود الأمّة تضيع، وطاقاتها تهدر في أعمال هامشيّة، خفيفة الوزن والأثر، بعيدة عن مراعاة الأولويّات الشرعيّة، التي توجب على المسلم أن يقدّم الأهمّ على المهمّ، وأن يوازن دائماً بين المصالح المفاسد، لا بهواه ومزاجه، وإنّما بميزان الشرع ودقّته وحكمته..

وإنّ أعظم ما يصدّ المؤمن عن هدفه وغايته: كثرة المراء والجدال، على غير هدىً أو منهج، ولقد أمر الله المؤمنين بالجدال، ولكن بالتي هي أحسن، والجدال إنّما يكون بشروطه وآدابه مع المخالفين لنا في الدين والمبدأ، أمّا ما يقوم بين المؤمنين فهو الحوار البنّاء، الذي تغشاه المودّة والرحمة، ويراد به اتّضاح وجهات النظر، وتقريب الآراء، وبيان مواطن الاتّفاق، وحدود الاختلاف، وللحوار أيضاً شروطه وآدابه، وأصوله واسلوبه، ومنهجه وهدفه، ولعلّ من أهمّ شروطه: أن يتجرّد المتحاوران عن حظوظ النفس ورعوناتها وأهوائها، ويمتلكا وسائل الحوار الضروريّة، وأهمّ هذه الوسائل أن يكونا على قدر من العلم والثقافة، الذي يؤهّلهم للخوض في غمرات الموضوع الذي يتحاوران حوله، وإلاّ فأيّ حوار في أمور علميّة بين العامّة أو أشباه العامّة.؟! وأيّ حوار بين من لا يمتلك شيئاً من وسائل الحوار وأصوله ومنهجه.؟! إنّ حوار العامّة أو أشباه العامّة بهذه الصورة قد يكون وبالاً عليهم، ونوعاً من الاقتتال بغير سيوف، وقتل الأمّة بغير سلاح.. وقد يجرّ على أحدهم مثل هذا الحوار من الفتن والشكوك والشبهات في دينه، والانحراف والفساد في سلوكه ما لا يستطيع الفكاك منه..

ولو نظرنا في حياتنا الإسلاميّةِ لَرأينا أموراً كثيرة، يقع فيها الخلاف بين المسلمين قديماً وحديثاً: كالخلاف في الاجتهادات الفقهيّةِ في مسَائل فروع الدين، والموقف من التراث عموماً، والخلاف في أكثر الاجتهادات الفكريّة والسياسيّة، وما لم يكن المسلم على منهجٍ واضح فيما يختار، وفيما يذر، وقع في الحيْرة والاضطراب، وربّما زلّت به القدَم، وانحرف عن الطريق..

والحقّ أنّ المنهج الواضح يتمثّل باختصار في هذه القاعدة الذهبيّة: " خذ ما صفا، ودع ما كدر "، وهي شَاملة لكلّ جانب من جوانب حياة المؤمن: فأخذ ما صفا في جانب العقيدة يقتضي أن يكون المؤمن مع المحكمات، بعيداً عن المُشتبهات، وعن الخوض فيما لم يخض فيه السلف، وترك كثير من المسائل الملحقة بأمور العقيدة، وهي لا علاقة لها بها، وأن يكون المؤمن عموماً مع منْهج السلف بعيداً عن أهل الزيغ والانحراف ومناهجهم.

وأخذ ما صفا في جانب الفقهيّات يقتضي أن يكون المؤمن مع منهج الاجتهاد الذي عليه سواد الأمّة منذ عهد سلفها الصالح، وترك ما كدر من الاجتهادَات الشاذّة والآرَاء المنحرفة، وما تأتي به الأيّام من آراء ومبتدعات.

وأخذ ما صفا في جانب التراث عموماً، وعلى وجه الخصوص التراث الصوفيّ الذي يحتلّ مساحة كبيرة من التاريخ الإسلاميّ فكراً وسلوكاً وأثراً، وقد كان مثار جدل طويل بين مختلف فئات المسلمين، وانتماءاتهم وألوان طيفهم.. إنّ أخذ ما صفا في جانب هذا التراث ليس أمراً مشكلاً ولا عسيراً، وليس معادلة مجهولة الأطراف كلّها، حتّى يدور حول أطرافها الجدل البيزنطيّ، الذي لا ينتهي إلاّ ليبدأ، ولا يهدأ إلاّ ليستعر.. إنّه يقتضي أن نتجرّد بصدق عن العصبيّة والأهواء، ونكون مع المحكمات البيّنات من كتاب الله تعالى، وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، وأن نهجر كلّ ما اختلف فيه، ونعدّه من المشتبهات، التي قال فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم: (.. فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ.. ) رواه مسلم في كتاب المساقاة عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ برقم /2996/ وأبو داود وابن ماجة وأحمد والدارميّ.

وأن نكفّ ألسنتنا عمّن سلف، فـ {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، لَهَا مَا كَسَبَتْ، وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ، وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} البقرة: 134، ونحسن الظنّ بهم، ولسنا مسئولين عنهم، لا في الدنيا ولا فِي الآخرة.

وأمّا الاجتهادات الفكريّة والسياسيّة فمجال الاختلاف فِيها واسع، لأنَّ أكثرها من قبيل السياسة الشرعيّة، التي يسع أهل الفكر والنظر، والاجتهاد في فهم مبادئ الشريعة ومقاصدها: أن يوازنوا فيها بين المصالح والمفاسد، ويختاروا ما يحقّق المصالح، ويدرأ المفاسد، وأخذ ما صفا من هَذه الاجتهادات يقتضي منّا أَنْ نركّز جهودنا على ما يجمع كلمة العاملين للإسلام، ويؤلّف بين قلوبهم بالحبّ والأخوّة، وما تقتضيه من حقوق موثّقة، وعهود مؤكّدة.. وما كدر منها هو التفرّق والاختلاف، الذي قد يصلّ إلى حدِّ رفع السلاح في وجه المسلمين، واستحلال الدماء..

ولا ينشأ التفرّق والاختلاف، وما يتبعه من مآسٍ لا تقف عند حدّ إلاّ بعد الاستهتار بحقوق الأخوّة الموثّقة، وعهودها المؤكّدة، ومعظم النار من مستصغر الشرر..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين