التربية على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

التربية على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أساليب تربوية ومفاهيم دعوية من حياة الشيخ أحمد عز الدين البيانوني

د. عبد المجيد أسعد البيانوني

 

منهج متميّز، وأسلوب فريد في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فقد أخذ الشيخ أحمد عز الدين نفسه بالعزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان يرى أنّ إهمال هذه الفريضة المحكمة، والتهاون بها من قبل العلماء والدعاة فتح على الأمّة أبواب الشرّ على مصراعيها، وأفشى الجهل والتخلّف عن السلوك الشرعيّ في مختلف فئاتها، ولابدّ للعلماء والدعاة إلى الله تعالى من الأخذ بالعزيمة لإحياء هذه الفريضة في أنفسهم وأتباعهم، على هدي من المنهج الشرعيّ الراشد، المتقيّد بشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآدابه.

وأخذاً بالعزيمة في ذلك مع مراعاة آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد كان يتفنّن رحمه الله في اتّخاذ الأساليب المؤثّرة لتثمر دعوته ثمرتها، وتؤتي أكلها، فمن ذلك أنّه كان إذا دخل بيتاً فيه صورة، تلطّف في نصح صاحب البيت، وبيّن له أنّ تعليق الصور محرّم، يمنع من دخول ملائكة الرحمة، ولا يقف معه عند هذا الحدّ، فإذا قبل صاحب البيت نصيحة الشيخ، قال له: فخير البرّ عاجله، فما رأيك لو بادرت إلى إنزال هذه الصورة وأعوّضك عنها بصورتي الحرمين الشريفين؟! فلا يتوانى صاحب البيت عندئذ عن إنزال الصورة المعلّقة، حرصاً على نيل هذه الهديّة الثمينة، ولا يمضي يوم أو يومان، حتّى يأتيه الشيخ بما وعده من هديّة..

وكان الشيخ في كلّ رحلة من رحلات حجّه يحضر معه من تلك الديار الطاهرة صوراً منوّعة للحرمين الشريفين، لا يقلّ عن مئة صورة، ويضع كلّ واحدة منها في إطارٍ أنيقٍ جميل، ويقدّمها للناس هديّة في هذه المناسبة وغيرها..

ويسوقنا الحديث عن ذلك إلى القول: إنّ الإهدَاء كان في حياة الشيخ فنّاً تربويّاً ودعويّاً قائماً بنفسه، يستحقّ منّا وقفة خاصّة، ولكنّا نكتفي هنا بإشارة موجزة، تلائم هذا الموضوع ولا تخرج عنه..

كان يرى رحمه الله أنّ الهديّة مفتاح القلوب المغلقة، ومدخل من أحسن مداخل التأثير التربويّ والدعويّ، فلا يدع مناسبة تمرّ دون أن يقدّم هديّة لصاحب المناسبة.. وقد اعتاد كثير من الناس إن لم يستطع تقديم الهديّة الثمينة، لضيق ذات يده، ممّا جرت عادة الناس بالتفاخر بها، ترك الإهداء أصلاً.. ولكنّ الشيخ كان على الهدي النبويّ في هذا الشأن، فكان يقدّم الهديّة التي يستطيعها، ولو كانت زجاجة من طيب.. وكثيراً ما كان يهدي المصحف الشريف، أو كتاب رياض الصالحين، أو كتاب الأذكار للإمام النوويّ، أو كتاباً في السيرة النبويّة، وهذه الهدايا كانت بوجه خاصّ للمتزوّجين من أبنائه وبناته وإخوانه، وكان ينظم في هذه المناسبة لمن يهديه ذلك أبياتاً من الشعر، يضمّنها اسمه، وفيها إهداؤه ونصحه وتوجيهه، ويكتبها على الصفحة الأولى من الكتاب، فتكون ذكرى من الشيخ لا تنسى..

ورأى مرّة في بيت بعض من زارهم صورة منظر طبيعيّ جميل، مرسوم باليد، وفيه صور ة بعض الناس، فأظهر إعجابه بهذا المنظر، ثمّ نبّه صاحب البيت إلى ضرورة طمس هذه الصور، فقال له: إنّ طمسها سيشوّه المنظر الطبيعيّ، فقال له الشيخ: ما رأيك أن أطمس لك الصور، ويبقى المنظر الطبيعيّ دون أن يشوّه.؟ فوافق صاحب البيت، فحمل الشيخ الصورة، وكانت كبيرة، ودفعها إلى بعض الشباب من إخوانه، وكان رسّاماً بارعاً، فطمس صور ذوات الأرواح، ودمج مكانها مع المنظر الطبيعيّ، ثمّ ردّها إلى صاحبها، وكأنّها لم يتغيّر فيها شيء..

وقد أخذ على نفسه رحمه الله ألاّ يسكت في أيّ مجلس يضمّه من المجالس العامّة أو الخاصّة، إلاّ ويذكّر الناس وينصحهم، ويحثّهم على التمسّك بهدي النبيّ صلى الله عليه وسلم وسنّته، ويحذّرهم من المنكرات المتفشّية في البيوت والأسواق، والحياة الاجتماعيّة بوجه عامّ..

وقد أملى علينا في مجلس: " تذكير وتحذير ": تحت عنوان: " موقف المسلم الحقّ من منكرات الزمن " خلاصة نافعة في أنواع المنكرات التي يواجهها المسلم، في البيوت، والمساجد، والأسواق، والضيافات وغيرها، بعدما أملى علينا عدّة أحاديث نبويّة في الحثّ على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يقول في أماليه: ".. فربّ الأسرة مُطالب أن يحفظ أسرته من جميع المنكرات، وأن يغيّر المنكر إذا وقع، ولا تقبل منه دعوى العجز عن ذلك..     ".

وكان ممّا يؤكّد عليه رحمه الله ضرورة تقديم البديل للناشئ عمّا يمنع منه من منهيّات، فلا ينبغي أن يكون اهتمام المربّي أو الداعية بتقرير الأحكام الشرعيّة، والتأكيد على أهمّيّة التزامها، ومتابعة الناشئ في ذلك فحسب.! وإنّما عليه أن يقدّم البديل الشرعيّ للناشئ، ليسهل عليه التخلّي عمّا حرّم الله أو نهى عنه، وليعلم بصورة عمليّة أنّ الإسلام دين واقعيّ، لا يقف عند حدّ الأمر والنهي، وتقديم الفتاوى والأحكام، دون أن يقدّم للناس البديل المناسب عنها..

وكان من هذا القبيل ما وفّر للشباب من أجواء ترفيهيّة نظيفة، بعيدة عمّا يشبهها ممّا يعجّ بالمحرّمات والمنكرات: كالسباحة والرحلات وإقامة المخيّمات الصيفيّة، والخروج إلى المتنزّهات، وممارسة أنواع الرياضة الهادفة، والأناشيد الإسلاميّة، التي تتحدّث عن فضائل الإسلام وقيمه وآدابه، وفيها الدعاء والمناجاة، وفيها التذكير بشمائل النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخلاقه الزكيّة وسيرته العطرة، وفيها إحياء معاني الإسلام، وبعث الهمّة وتجديد النشاط.

 

التربية على طلب النصيحة

التربية على طلب النصيحة، وبذلها وتقديرها، وقبولها من قائلها على كلّ حال، وشكر مقدّمها والثناء عليه.

فالتناصح في دين الله ركن ركين، من أصول هذا الدين الحنيف ومبادئه، كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (الدينُ النصِيحَةُ..) (1)، وأصل كبير لدعوة الأنبياء والمرسلِين، فقد تكرّر في القرآن الكريم قول الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأقوامهم: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)} الأعراف. {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)} هود. {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)} الأعراف.

وقد عدّ الإمام الغزاليّ رحمه الله سبيْل الأخوّة النَاصحة أحد الطرق الرئيسة لرياضة النفس وعلاج أمراضها (2).

وربّما كانت النصيحة مغرضة.. وربّما كانت منبعثة عن خطأ في الفهم، أو سوء ظنّ.. وربّما كانت بدافع الجهل، أو العصبيّة للرأي.. ومع كلّ هذه الاحتمالات يبقى الموقف الصحيح ممّا يقدّم بصورة النصيحة أن يقبل، ويشجّع قائلها، ثمّ لا مانع بعد ذلك من التصحيح والتوضيح، وذلك لتعميق التربية على النصيحة في نفوس أبناء الأمّة، وعلى وجه الخصوص في نفوس أبناء الدعوة، الذين يؤمّل أن تتمثّل فيهم قيم الإسلام ومبادئه وآدابه، وأن تتجسّد حقائقه في مسالكهم اليوميّة وممارساتهم.. وكيف يتحقّق لنا ذلك، بغير هذا المنهج.؟ وغير هذا الأسلوب.؟

لقد حرص الشيخ على إحياء منهج الأخوّة الإسلاميّة، وسمّاها الأخوّة الناصحة، لأنّ التناصح في ديْن الله تعَالى من أعظم أركانها وشروطها، وهو ما يميّزهَا عَنْ لقاءات الناس بحكم العادة والطبع على المأكل والمشرب، واللهو واللعب، أو على مصالح الدنيا وشئونها، وما يتبع ذلك من مداهنة في دين الله، وسكوْت على انحرافات الناس ومعاصيهم..

وكان كثيراً ما يستشهد بقول عمر رضي الله عنه: " رحم الله امرأً أهدى إليّ عيوبي ".

ولقد أصبحَ أَكثر الناس في هذا الزمان، حتّى أهل الدين إلاّ من رحم ربّك يخَالط بعضهم بعضاً بمقتضى الطبع والعَادة، فلا تناصح في الدين، ولا تذكير بطاعة الله، ولا نهي عن شيء من المعاصي والمنكرات.. ولا مخرج للناس من ذلك إلاّ بإحياء منهج الأخوّة الناصحة، التي كان عليها سلف هذه الأمّة الصالح..

فغيّب منهج التناصح من حياة الناس، بل أصبح من يتبرّع بالنصيحة مهما يكن أسلوبه، مكروهاً من أقرب الناس إليه، يعدّ متطفّلاً عليهم فضوليّاً..

وكان من أسباب اهتمامه بإحياء منهج الأخوّة الناصحة ما رآه من غلوّ كثير من الأتباع في شيوخهم، وإقرار الشيوخ لهم، أو سكوتهم عنهم.. فيدّعون لهم الكمال والحفظ من المعصية، وليس الحفظ في حقيقته الذي يدّعونه إلاّ العصمة التي لا تكون إلاّ للأنبياء، ولكنّها بتسمية أخرى، أبْعد عن المصطلح الشرعيّ وألطف.. وقد تمادى بالناس ذلك، وامتدّ بهم إلى من هم دون المشايخ، حتّى بلغوا حدّ مداهنة بعضهم بعضاً في ديْن الله، والسكوت على المعاصي والمخالفات..

وضرب الشيخ المثل بنفسه في تشجيع الإخوة على التناصح، وفي قبول النصيحة من قائلها كبيراً كان أو صغيراً، وشكره عليها: رفع إليه بعض الإخوة، وكان في الصف الثاني المتوسّط نصيحة: أنّه رآه يشبّك بين أصابعه في درس الجمعة، فأرسل إليه يشكره على نصيحته مع أنّه لا يذكر ذلك، وقدّم إليه هديّة على نصيحته.. فأين مناهج الدعاة والشيوخ من ذلك.؟!

فإذا لم يأخذ الدعاة إلى الله تعالى بمنهج التناصح في الله فمَن يأخذُ بها.؟!

وقبول النصيحة من علامات التواضع لله، والخضوع للحقّ، وقد كَان الشيخ يكْثر من وصيّة إخوانِه بقبول النصيحة من قائلها كبيراً كان أو صغيراً، وسمعته مرّة يقول: "إنّ أعناقنا جسر للحقّ بإذن الله".

وقد عدّ الشيخ التناصح من ثمرات الأخوّة في الله، كما عدّ الأخوّة ركناً من أركان الدعوة إلى الله، يقول في كتابه: "الدعوة إلى الإسلام وأركانها": " ومن ثمرات هذه الأخوّة الكريمة التناصح المتبادل، الذي يعصم من الزلل، ويحفظ من الاستمرار في الخطأ.. فالمؤمن مرآة أخيه، ومثل الأخوين مثل اليدين، تغسل إحداهما الأخرى، والإنسان يرى منْ غيره، ما لا يراه من نفسه.. فلا يزال الأخ يذكّر أخاه بما يراهُ مِنه، ويستمع الآخر إلى نصحه، فيقوّم من عوجه، ويهذّب من نفسه، حتّى يبرأ من كلّ نقيصة، ويتبوّأ أسمى مراتب الكمال.

ويشدّ الأخ أزْر أخيه على الخير، ويعينه على البرّ والتقوى.

وقد سأل موسى عليه الصلاة والسلام ـ وهو نبيّ من أولي العزم من الرسل ـ ربّه عزّ وجلّ: أن يكرم الله تعالى أخَاه هارون بالرسالة، ليكونَ معه رِدءاً يصدّقه، وعوناً يشدّ أزره، فقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)} طه. فاستجاب له ربّه فقالَ: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ.. (35)} القصص.

" وينْشط الأخ برؤية أخيه، إلى الطاعات والأعمال الصالحات، ويذكّره بها إذا نسيَ، ويعينه عليها إذا ذكرها " (3).

 

هوامش:

(1) ـ الحديث رواه مسلم عَنْ أبي رقيّة تميم بن أوس الداري رضي الله عنه.

(2) ـ انظر ما كتبه عن ذلك في كتابه: " إحياء علوم الدين " 3/62/ تحت عنوان: " بيان الطريق الذي يعرف به الإنسان عيوبَ نفسه ".

(3) ـ الدعوة إلى الإسلام وأركانها ص/178/، وانظر أيضاً: " من محاسن الإسلام " ص/90/.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين