التربية اللقمانية

من أهم دروس التربية التي يغفلها الكثير من الآباء والأمّهات ذلك الدرس الذي علّمنا الله إيّاه في سورة لقمان، لقد أخبرنا الله عزّ وجلّ في كتابه أنّه آتاه الحكمة، وهذه المعلومة وحدها كفيلة بشدّ انتباه جميع حواسّنا ونحن نقرأ توجيهات لقمان الحكيم لابنه؛ لأنّها توجيهات صادرة عن رجل "حكيم" يعرف كيف يربّي!

ربّما يكون أبرز معطى في هذه التوجيهات ليس موضوع التوجيهات نفسها، بل تلك المحادثة التي ينشؤها لقمان الحكيم مع ابنه في مختلف شؤون الحياة: يحدّثه عن التوحيد أولا ليبني القيم التي ينقلها إليه على هذه القاعدة الراسخة. يحدّثه عن أهمية البرّ بالوالدين ويذكّره بمعاناة أمّه في حمله وتنشئته، ثم يذكّره بالآخرة ويؤكّد على التوحيد ويعيد تذكيره بما بعد الموت وبعلم الله الشامل، ويذكّره بأهمية الحفاظ على الصلاة وأهمية أن يكون صاحب رسالة تغيير، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحثّه على فضيلة الصبر والعزيمة، ثم يرشده إلى جملة من الفضائل الأخلاقية في التعامل مع الناس ويحذّره من بعض الآفات.

ورغم إيجاز هذا الحوار الذي حفظه لنا القرآن، فإنّ دلالته مهمّة جدّا لنا.

علينا أن نسأل أنفسنا: كم مرة فكرنا في أن تكون لنا محادثات ودّية مع أبنائنا نحدّثهم فيها عن الله وعن التوحيد والآخرة والفضيلة والتعامل مع المجتمع وأهمية حمل الرسالة في الحياة؟ 

كم مرّة كنا حريصين على تقدير كياناتهم المفكّرة الحرّة ومخاطبتهم بأخص خصائص الإنسان؟ 

كم مرّة فكرنا في أن مثل هذه المحادثات الهادئة توسّع آفاق الطفل وتزيد من ارتباطه بالدين والرسالة عن قناعة عقلية ولا يكون مجبرًا على ممارسة الدين لمجرّد أنّه وُلد لأسرة مسلمة؟!

إنّ مشكلة الكثير من الأسر أنها تفاجأ بانحراف أطفالها حين يكبرون، أو تُفجع بميولهم الكارهة للدين أو التافهة.

والسبب في ذلك أنّ هذه الأسر بذلت جهودا في جانب واحد وغفلت عن الجانب الأهم، وهو الوصول إلى عقل هؤلاء الأطفال وحثّهم على توليد قناعة ذاتية بهذا الطريق الذي يحبّون أن يروا أبناءهم عليه.

جميع ممارسات ضبط التلفزيون ومنع وسائل التفاهة وتسجيل الطفل في دار قرآن وإجباره على الصلاة وغير ذلك لن تؤدي إلى بناء الإنسان الرسالي الذي نريد، بل قد تكون سببا في انفجار شخصية الطفل في اتجاه معاد في مرحلة لاحقة من عمره؛ لأنّ جميع هذه "الطقوس" كانت بمنزلة "قيود" مفروضة عليه، لم يفكر يومًا في مقصدها وارتباطها بالتوحيد وبحقيقة الإنسان والحياة الدنيا.

إنّ كل تربية تغفل عن توجيه تفكير الأبناء إلى أسئلة الوجود الكبرى هي تربية ناقصة، وكل تربية على الصلاة دون بيان معاني الصلاة وحاجة الإنسان إليها ودلالات كل حركة وكل تسبيحة وذكر فيها هي تربية ناقصة. تذكروا: لم يقلّ لقمان لابنه "صلّ"، بل قال له: {أقم الصلاة}، والفرق بينهما عظيم!

لقد أكرمنا الله في كتابه برؤية متكاملة للوجود: لحقيقة الإنسان والحياة ولطبيعة النفس البشرية ولحقيقة الدار الآخرة وقبل كل ذلك أكرمنا ببيان شافٍ لأسمائه سبحانه وصفاته العلى وأفعاله. إن هذه المعلومات التي يزخر بها كتاب الله لم تكن بهذا الحجم عبثا، تعالى الله عن العبث، بل كانت تهدف إلى أن يكون الارتباط بالدين منطلقا من القناعة التامّة بهذه الحقائق الكبرى، وكل ارتباط بالدين مغيّب عن فهم هذه الحقائق وعن مقاصد هذا الدين هو ارتباط هشّ قد ينكسر عند أول صدمة، وما أكثر الصدمات والعراقيل والآفات في مجتمعاتنا!

حدّثوا أولادكم عن الله، أخبروهم ما معنى كونهم موحّدين، ولماذا يصلّون. حدثوهم عن حقيقة هذه الحياة الدنيا، والطبائع المختلفة للنفس البشرية، وحقيقة الدار الآخرة، ومحاسن القيم والأخلاق التي يدعو إليها الإسلام. ارزعوا في نفوسهم حبّ التغيير إلى الأفضل، علّموهم أنّ لديهم رسالة عظمى هم مسؤولون عنها، نبّهوهم لمأساة أن يعيشوا كالبهائم يأكلون ويُخرجون ويتناسلون، الفتوا أنظارهم لكل الحقائق المدهشة في هذا العالم.

إنّ التربية بحاجة إلى قدوة نعم، ولكنها بحاجة أيضا إلى محادثة وكلام، إلى معايشة وصداقة، إلى بذل أوقات كثيرة نكون فيها مع الأطفال في حديث ودّي لقماني حكيم.. نحتاج أن نكون بالقرب دائمًا وفي جميع مراحل الطفولة، حتى لا نفاجأ يومًا بشياطين الإنس والجن تقود أبناءنا الذين أحببنا في طريق بعيدة.. جدّا بعيدة!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين