التربيةُ الصحيَّة في ضوء الإسلام (4)

خامساً: التربية الصحية في مرحلة البلوغ والشباب:

وقد اختلف العلماءُ والمربُّون في تحديد بداية هذه المرحلة ونهايتها، وكان الاختلاف طبيعيا ذلك أنَّ هناك فروقاً من الناحية البيولوجية والسيكولوجية بين الذكر والأنثى أولاً، كما أن هناك فروقاً داخل الجنس الواحد. 

ومن هنا يقول الدكتور فؤاد البهي السيد: 

(يختلف المدى الزمني لمرحلة البلوغ تبعاً لاختلاف الجنس ذكراً كان أم أنثى، ويختلف أيضاً تبعاً لاختلاف العوامل الوراثية التي تحدد السلالة التي ينحدر منها الفرد، وتبعاً لاختلاف البيئة الجغرافية الطبيعية التي يعيش الفرد في إطارها، إذ من المعروف الآن أنَّ سكان المناطق المعتدلة يبلغون أسرع من سكان المناطق الحارة والباردة، ومن المعروف أيضاً أنَّ سكان المدن يبلغون قبل سكان القرى)(1).

وأما علماء الشريعة فيقرِّر بعضهم بأنَّ الحد الأدنى من إمكان البلوغ بالنسبة للولد بعد استكمال التاسعة، أي: في بداية العاشرة. وقيل: في نصف العاشرة، أما بالنسبة للبنت قيل: في أول التاسعة. وقيل: في نصفها (2). 

وأما بالنسبة للحد الأقصى فاختلف أصحاب المذاهب بناء على اختلاف أحاديث مروية، فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: سن البلوغ تسع عشرة أو ثمان عشرة للغلام وسبع عشرة للجارية، وقال أكثر المالكية: حدُّه فيهما سبع عشرة أو ثماني عشرة. وقال الشافعي وأحمد وابن وهب والجمهور: حدُّه فيهما استكمال خمس عشرة سنة (3)، على ما في حديث ابن عمرو، وهو أنه لما عرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يقبل، أو فلم يجزه ثم لما عرض يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة أجازه (4). 

ولما علم عمرُ بن عبد العزيز هذا الحديث جعل هذه السنَّ حدًّا بين الصغير والكبير (5).

بعد هذا كله نقرر بداية هذه المرحلة بالسن العاشرة بصفة مبدئية ونهايتها بالثامنة عشرة بصفة نهائية، والتكاليف في نظر الإسلام محددة بالبلوغ، والبلوغ محدد بالاحتلام، وبه يصبح الإنسان مسؤولا عن تصرفاته، ويدخل تحت طائلة القانون، فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (رفع القلم عن ثلاث عن المجنون حتى يعقل، وعن المبتلى حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم). وفي رواية أخرى: (حتى يشب)(6). 

وفي رواية لأبي داود: (حتى يكبر) (7). وكذلك رواه أحمد والنسائي وابن ماجه (8).

وليس هذا الاختلاف إلا في اللفظ في نظري، لأنَّ من يحتلم فقد أصبح شاباً، ومن أصبح شاباً فقد كبر ودخل في عداد الكبار، ولهذا فقد خاطب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم البالغين بالشباب عندما قال: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءةَ فليتزوج) (9). 

وإذا حددنا الآن مرحلة البلوغ بين بدايتها ونهايتها ما بين (10 – 19) نكون قد جمعنا معظم الآراء كان ذلك من حيث تحديد بداية المرحلة ونهايتها، وحد التكاليف، أما من حيث التربية في هذه المرحلة فإنَّ هذه المرحلة أهم مراحل التربية عامة، وهي أخطر مرحلة لنمو الدافع الجنسي، ولاحتمال انحرافه من سواء السبيل، ولتعرضه نتيجة لذلك للإصابة بالأمراض التناسلية الخطيرة، أو هبوط صحته نتيجة الانغماس في الحياة الجنسيَّة.

ومن ناحية أخرى باعتبار أنَّ النمو العقلي الطبيعي يصلُ إلى كماله في نهاية هذه المرحلة، كما يقرر ذلك المربون(10)، فإنَّه يمكن تكوين وعي صحي وعقلي وعلمي معاً، ويستطيع أن يدرك الأمور التجريديَّة والمعنويَّة، والعلاقات الفكريَّة والعلميَّة والأسباب والمسببات، ويتعقَّل الأشياء والحكم على ما لا يدركه ويتعقَّله الأطفال في المرحلة السابقة.

ولهذا نستطيع أن نشرح أسباب جميع الأمراض الجسميَّة والنفسيَّة والعقليَّة، والعلاقات بين هذه الأمراض المختلفة من حيث التأثير والتأثر.

وعلى هذا الأساس يتمكَّن عرض أساليب ووسائل التربية الصحية لهذه المرحلة على النحو التالي:

1- مبادئ التربية الصحيَّة التي عرضناها في المرحلة السابقة مثل التغذية اللازمة والوقاية من الأمراض. وتكون الوعي الصحي، والالتزام بالسلوك الصحي، يستمر في هذه المرحلة أيضاً.

2- بيان الأضرار والأمراض الناتجة عن كل المحرمات التي حرَّمها الإسلام مثل أكل لحم الخنزير ولحوم الحيوانات المتوحشة، ومثل الخمور والمخدرات ووطء المستحاضة، وما إلى ذلك.

3- بيان الأمية والقيمة الصحية للمبادئ الإسلامية في ضوء الطب الحديث، وذلك مثل بيان الأهميَّة الصحيَّة للاغتسال بصفة عامة، والغسل بعد الجنابة بصفة خاصَّة. 

وكذلك أهميِّة الوضوء والاستنجاء، ونظافة الثياب وتقليم الأظافر. 

ثم المبادئ الخاصَّة بالأكل، مثل غسل اليدين قبل الأكل وبعده، ومضغ الطعام جيداً وبرودة الطعام، وعدم النفخ في الطعام والاعتدال في المأكل والمشرب.. 

ويطول بنا المقام لو بينا ذلك بالتفصيل مدعما بآراء وتقرير الأطباء المسلمين وغير المسلمين في ذلك كله، ويحتاج الأمر إلى كتابة كتاب مستقل في ذلك.

4- بيان الأمراض التناسلية والشذوذ والجنسي والزنا، والتصرفات الأخرى غير الصحية الخاصَّة بالحياة الجنسية، كالاستمناء وغيرها. 

وقد صدرت كتب طبية حديثة عن الأمراض التناسلية والحياة الجنسية، نجد فيها دعماً علميا لما حرَّم الإسلام، فيجب بيان ذلك بالوسائل العلمية الحديثة وسوف نذكرُ طرفاً منها عند الكلام عن التربية الأخلاقيَّة.

5- تكوين الوعي بالمسؤولية الدينيَّة عن الصحَّة. 

إنَّ المعرفة العلمية للأمراض وأسبابها لا تكفي، ذلك أن هناك أطباء يعرفون جديا أضرار المشروبات الروحيَّة، ومع ذلك يشربونها، وهناك المدمنون للسجائر، وعرفوا أضرارها، ومع ذلك يدخنونها. 

ويقول بعضهم: إنني أضر بذلك صحتي ولا أضر غيري، هذه الفكرة ناشئة أصلا عن الاعتقاد بالحريَّة الشخصيَّة بغير مسؤولية. ففي نظر الإسلام الإنسان مسؤول عن صحته أولاً ومسؤول عن صحة الآخرين إذا كانت تصرفاته الخاطئة تؤدي إلى الإخلال بصِحَّة الآخرين.

وذلك بناء على قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}[البقرة:195]، وبناء على ذلك حرَّم الإسلامُ الانتحارَ؛ لأنَّ الانتحار يقوم على إعدام الصِّحَّة والحياة. 

وجعل الإسلام عقاب الانتحار العذاب الدائم في الآخرة، فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الصدد: (من قتلَ نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها، ومن تردَّى من جبل فقتل نفسه فهو يتردَّى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها)(11).

وبالنسبة للصحَّةِ العامَّة فإنَّ الإسلام اعتبر المسلمين كجسد واحد، فقال الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)(12) وقال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه)(13).

ومن وسائل المحافظة على صحَّة الأفراد والجماعة التداوي والإسراع إليه، ولهذا نجد الرسول يأمر بالتداوي، ويقول: (تداووا عبادَ الله، فإنَّ الله تعالى لم يضع داءً إلا ووضع له دواء غير داء واحد الهرم)(14).

ولهذا ينبغي أن نربي الشباب على الإسراع إلى الأطباء عندما يمرضون أو عندما يشعرون بحالات مرضيَّة، لأن الأمراض في بدايتها تكون سهلة العلاج بصفة عامة، ولكن عندما تكون مزمنة يصعب علاجها، وإذا وصل الداء إلى درجة من التمكن قد لا يمكن علاجه.

كذلك ينبغي أن نكشف لهم عن علامات الأمراض المختلفة، ليعرفوا العلامات الدالَّة على خطورة الأمراض، حتى إذا ما شعروا بها بأنفسهم يُسرعون إلى الأطباء.

6- تكوين بصيرة علمية عن طريق تحقيق الصحة الكاملة، وعن طريق بيان أسباب الأمراض المختلفة، وأهم جوانب الصحة الكاملة: الصحة العقلية والصحية النفسية والصحة الجسمية أو العضوية، ولنذكر الآن كل واحدة منها بشيء من التفصيل، مع بيان العلاقة بينهما ومع بيان الأسباب المرضيَّة لها:

أ‌- تحقيق الصحة العقلية:

وتتحقق أولاً بالوقاية من الأسباب التي تؤدي إلى الأمراض العقلية، وهذه الأسباب تنقسم بصفة عامة إلى أسباب بيولوجية، وأخرى سيكولوجية (نفسية).

فالأولى كثيرة، منها تجنب المسكرات والمخدرات بجميع أنواعها القديمة والحديثة: ولقد قرَّر المؤتمر العلمي الدولي المعقد في بلجيكا عام 1929 أضرار ذلك كله على عقول المدمنين وعقول ذرياتهم، وما ينتج عن ذلك من الأمراض الأخرى. 

وقد دوَّن تلك الأمراض الدكتور أحمد غلوش الذي اشترك في هذا المؤتمر ممثلاً الحكومة المصرية في كتاب خاص له (15)، ثم أنشأ جمعية خاصَّة باسم جمعية مكافحة المخدرات، ولا زالت هذه الجمعية مستمرة في نشاطها.

ويفنِّد أحد الأطباء المزاعم بأن الخمور تنشط الجسم وتقلل العبء، وتعالج الضعف الجنسي، وتبعث الدفء والراحة في الجسم، فيقول: (هو أمر شائع خطأ، بل هي مثيرة فقط.... فهي توهم النشاط لأنها تثير الإسكانيات الجسمية والعقلية (16) لأنها تحرقها وتشعلها مرة واحدة، ثم تخمد بعد ذلك مرة واحدة. 

ولهذا يُصابُ الناسُ في البلاد الباردة بالبرودة القاتلة نتيجة هبوط الحرارة مرة واحدة، واحتراق الطاقة الواقية للجسم، كما يقتل ارتفاع الحرارة الناتجة عن الخمر بعض المدمنين في البلاد الحارة.. 

ثم يقول: (ويمكن أن توهم الخمر بأنها تقلل التعب... فإن زوال الشعور بالتعب عن طريق الخمر هو شيء مؤقت ومتى وانتهى تأثير الخمر عاد الشعور بالتعب مرة أخرى وبشكل أقوى.

وليس للخمر أي تأثير مباشر على النشاط الجنسي وتأثيرها ينحصر في إزالة الخجل... فقد تضعف هذا النشاط بشكل مؤقت وتجعل الإنسان عنيفا، والخمرة بكمياتها القليلة تضعف جميع الإمكانيات العقيلة... والخمرة تهيج قرحة المعدة وهي تضعف مركز التفكير الأعلى وتضعف العقل أو تفقده بصورة مؤقتة(17).

وهناك أضرار صحيَّة كثيرة يطول شرحها. ولهذا حرَّم الإسلام الخمر تحريماً قاطعاً، وحرَّم بيعها وتجارتها وصناعتها. 

وعبَّر عنها القرآن الكريم بالرجس، وعبر عنها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأم الخبائث. 

ومن وسائل تحقيق الصحَّة العقليَّة وقاية الإنسان نفسه من بعض الأمراض مثل الزهري الذي يؤدي إلى الجنون، إذا انتقلت جراثيمه إلى خلايا المخ. هذا المرض الخبيث يرجِّح الإصابة به 98% بسبب انتشار الفاحشة في المجتمع كما أن له أعراضا أخرى، مثل الشلل ويؤدي إلى تشويه الجنين إذا حملت الأم المصابة به (18)، لذا قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32].

ومنها أيضاً سوء التغذية سواء كان بعدم تناول الأغذية اللازمة أو تناول الأغذية الضارة (19) ولذلك أباح الإسلام تناول ما يحتاج إليه الإنسان من الطعام وحرَّم ما يضرُّه منها: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ} [الأعراف:157] {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31].

هذا إلى أنَّ هناك بعض الأسباب النفسيَّة والروحيَّة قد تؤدي إلى الأمراض العقليَّة فهي كثيرة أيضاً، منها: الاختلاف في التوازن العاطفي، ويرجع ذلك الدكتور ألكسيس كارل إلى عدم تبني المرء نظام اعتقادي أخلاقي سليم، أو لعدم وجود مصل هذا النظام في الحياة الاجتماعية (20).

ومنها تزعزع العقيدة أو فقدان الإيمان بالمبادئ الروحيَّة الثابتة (21) ولذا صوَّر الله هذه الحالة في قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] ويؤيِّد ذلك الفيلسوف الألماني ليبنتز قائلاً: (ولإزالة القلق النفسي والروحي أن يؤمن (المرء) بالله عن طريق العقل وأن يملأ نفسَه بسرور عقلي؛ لأنَّ القلق ناتج عن الشك، والشك وسيلة لتفتيت القلب)(21). 

كذلك يؤيده وليم جيمس بقوله: (إنَّ الإيمانَ بالله هو الذي يجعل للحياة قيمة، وهو الذي يمكننا من أن نستخرج من الحياة كلَّ ما فيها من لذَّة وسعادة)(22).

ومنها كذلك وجود تناقضات في حياة المرء الفرديَّة والاجتماعيَّة مثل التناقض بين مسلكه وبين عقيدته، أو عدم استطاعة المرء اختيار اتجاه معين بين الاتجاهات المتضاربة في المجتمع.. 

وتصديقاً لهذه الفكرة فقد رأيتُ شابا عندما وقع في مثل هذا التناقض ولم يستطع إنقاذ نفسه منه أقدم على الانتحار ثم أنقذوه، وقال لي مُعبِّراً عن نفسه بأنَّ الحياةَ أصبحت صعبة عليَّ حتى رجَّحت الموت عليها. 

ولهذا ينصح علماء النفس بتوحيد شخصية المرء. وتقويتها وانسجام عناصرها وتوحيد وجهتها لتكوين شخصيات قوية متماسكة(23)، ويؤيد ذلك المفكر الألماني لينبتز بقوله: 

(يتركَّبُ أسعدُ الناسِ من مجموعة متناسقة من أوجه النشاط العقلي والخلقي)(24). 

ويقول الدكتور ألكسيس كارل مؤيدا كل ما قلناه في هذا الصدد: 

(إنَّ الأحوال التي تساعد على تزايد الضعف العقلي والجنون الدوري تظهر على الأخص في البيئات الاجتماعية التي تكون فيها الحياة قلقة مضطربة وغير منظمة، ويكون الغذاء فقيراً أكثر مما ينبغي، والزهري منتشرا والجهاز العصبي مترنحا، حياة اختفت فيها الرياضة الخلقيَّة وسادت الأَثَرة وعدم الشعور بالمسؤولية والتشتُّت، ولم يعدْ للاختيار الطبيعي مكان فيها)(25). 

ومما لا يشك فيه دارسو الإسلام أنه لو طبقت المبادئ الإسلامية في الحياة لما وجد مكان لهذا الحالات المرضيَّة في الحياة.

ب‌- تحقيق الصحَّة النفسيَّة الروحيَّة:

وتحقيق مثل هذه الصحة يتم بتجنيب الإنسان نفسه الأسباب التي تؤدي إلى شقاء النفس وأمراضها، وهذه الأسباب يمكن تقسيمها إلى ستة أقسام نوعية:

الأولى: أسباب أخلاقيَّة، والثانية: عقلية، والثالثة: روحية، والرابعة: اجتماعيَّة، والخامسة: عضوية، والسادسة: نفسية.

أما الأسباب الأخلاقيَّة فقد عالجناها بالتفصيل في بحث مستقل(26). 

وأما الأسباب العقليَّة التي تؤدي إلى اختلال الصحة النفسية فقد سبق ذكرها. 

وأما الأسباب الصحيَّة النفسية فقد سبق ذكرها. 

وأما الأسباب الروحيَّة فيرجعُ بعضُها إلى المشكلات الخلقيَّة، كما يرجع بعضها الآخر إلى اختلال الحياة الروحيَّة ذاتها؛ لأنَّ الحياة الماديَّة لأنها حاجة الروح، كما أن الأغذية حاجة الجسم. وكما تختل الحياة المادية إذا لم يتناول الإنسان حاجته من تلك الأغذية.. 

ولهذا يرجع بعض العلماء انتشار القلق وفقدان الطمأنينة والصراع النفسي المنتشر في بعض البلاد إلى تغافل الناس المحضرين الماديين هذه الحياة الروحية (27). 

فيقول سير رتشرد لفنجستون مثلاً في هذا الصدد وهذا العنصر الروحي هو بالذات ما نميل إلى إهماله، ومع ذلك فليس ثمة شيء نحن في حاجة إليه اليوم أشد من حاجاتنا إليه)(28). 

ويرجع الدكتور ألكسيس كارل كثيراً من أسباب الانحطاط الخلقي إلى اختلال الحياة الروحيَّة أو تجاهلها في حياة الإنسان فيقول: (ولم يكتشفوا بعد أن هناك إلى جانب التفكير المنطقي ضروريات أخرى من النشاط الروحي الضروري، حتى يكون السلوك في الحياة سلوكاً عقلياً، وقد ردت الحياة على هذا الجهل بجواب بطيء صامت بدت مظاهره جليَّة في الزحف التدريجي للقبح والقذارة، والفظاظة والسكر، وشهوة الترف وحب السلامة، والحسد والنميمة والبغض المتبادل والنفاق والكذب والخيانة، وهكذا أجابت الحياة بطريقة آليَّة على رفض الخضوع لقانون الارتقاء الروحي، فقضت على نفسها بالانحطاط والانحلال)(29).

ولهذا فقد جعل الإسلام الحياة الروحيَّة عنصراً هاماً في الحياة الإسلاميَّة ومن يعشها لا يُصاب بما يُصاب به أولئك الذين يهملونها، وصدق الله العظيم إذ قال: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112] {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13] .

(1) فتح الباري بشرح البخاري 6\205 كتاب الشهادة باب بلوغ الصبيان وشهادتهم.

(2) المرجع السابق: نفس المكان.

(3) سنن أبي داود 4\199 كتاب الحدود.

(4) المستدرك على الصحيحين في الحديث 4\389.

(5) سنن أب داود 4\197.

(6) الجامع الصغير 2\24

(7) فتح الباري بشرح البخاري 11\8 كتاب النكاح.

(8) الأسس النفسية للنمو. ص194، دكتور فؤاد النهي السيد

(9) صحيح مسلم 1\103 كتاب الإيمان.

(10) صحيح مسلم بشرح النوري 16\136. باب تراجم المؤمنين.

(11) اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان 1\10. محمد فؤاد عبد الباقي. عيسى البابي الحلبي - القاهرة

(12) فتح الكبير 2\26. الإمام جلال الدين السيوطي. أنظر أيضاً: الجامع الصغير 1\130.

وجاء في المستدرك في هامش المستدرك 1\121 كتاب العلم فصل في توقير العالم.

(13) آثار الخمور في الحياة الاجتماعية، ص19 دكتور أحمد غلوش، جامعة الدول العربية، القاهرة 1057.

(14) طبيبك معك، ص244 للدكتور صبري القباني دار العلم للملايين، بيروت 1979.

(15) المرجع السابق ص244

(16) حياتنا الجنسية ص253 دكتور فردريك كهن ترجمة جان بالزلتي. بيروت. المرشد الطبي الحديث ص348 ألفه مجموعة من الأطباء

(17) أسس الصحة والحياة ص 302 دكتور عبد الرزاق الشهرستاني.

(18) تأملات في سلوك الإنسان.ص13 دكتور ألكسيس كارل.

(19) أسس الصحة والحياة ص711. دكتور عبد الرزاق الشهرستاني.

(20)Oeuvres Philosophiques de Leibniz 1\48 par Paul Janet Paris 1955.

(21) لمحات في وسائل التربية الإسلامية ص113 دكتور محمد أمين المصري. دار المعارف. القاهرة.

(22) علم النفس أسسه وتطبيقاته التربوية ص 298 – 300 دكتور عبد العزيز القوصي مكتبة النهضة المصرية. القاهرة. 1970م.

(23) آثار لينبتر الفلسفية 1\148 باللغة الفرنسية Oeuvres Philosophiques de Leibniz 1\48

(24) الإنسان ذلك المجهول ص 315. دكتور ألكسيس كارل. ترجمة أنطوان العبيدي. دار الكاتب المصري. القاهرة.

(25) انظر كتابنا التربية الأخلاقية الإسلامية. مكتبة الخانجي. القاهرة.1977.

(26) تأملات في سلوك الإنسان ص 79.

(27) التربية لعالم حائر ص 63.

(28) تأملات في سلوك الإدمان ص78.

(29) أصول علم النفس ص 502 دكتور أحمد عزت راجح المكتب المصري ط7. الإسكندرية 1973.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين