التربيةُ الصحيَّةُ في ضوءِ الإسلام (2)

ثانياً – التربيةُ الصحيَّة في مرحلة الرَّضَاعة:

ومدةُ الرَّضاعةِ في الإسلام سنتان، ويمكن إجمالُ أهمِّ مبادئ التربية الصحيَّة في هذه المرحلة بما يلي:

1- الاهتمام بإرضاع الطفل وتغذيته بانتظام مُناسب لعمرِ الطفل.

ذلك أنَّ إرضاع الأم فيه غذاء مادي وغذاء عاطفي، وكلا الأمرين مهم من الناحية التربوية لا يستغنى عنه ما لم تكن هناك ضرورات؛ كموت الأم أو المرض أو انقطاع اللبن، وعلى الأب في هذه الحالات أن يستأجر مُرضعة إن وجد، وإلَّا فعليه إرضاعه بلبن صناعي، أو إعطائه غذاء مناسباً لعمر الطفل وأن يحتوي اللبن أو الطعام الخاص على الفيتامينات المتنوِّعة. 

ولقد تكلم المربُّون عن أهميِّة إرضاع الأم من الناحية التربوية، ورأوا أنَّه لا يصحُّ العدول عنه إلى غيره من الناحية التربويَّة، وتكلموا أيضاً عن أضرار الرضاعة الصناعيَّة. (1)

ولهذا كله قال تعالى: {وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233]. ومن الأمور المهمة أن يكون الإرضاع وإعطاء اللبن والطعام في أوقات مُنتظمة تتناسب مع عمر الطفل بالشهور؛ لأنَّ تناول الغذاء بانتظام من مبادئ التغذية الصحيَّة ومن الخطأ إعطاء الرضعة والوجبات كلما بكى الطفل.

2- أن تكون المرضعة جيَّدةَ الصحة، سليمةً من الأمراض الجسميَّة والعقليَّة والنفسيَّة:

ذلك أنَّ الطفل يتأثَّر بصفات المرضع عن طريق لبنها، فإنَّ اللبن هو الغذاء الوحيد للطفل في هذه المرحلة، فإذا كان اللبن ليس جيداً فلا يكون النمو سليماً أيضاً، وكما أنَّ الناس يتأثَّرون بالأغذية من الناحية الصحيَّة والعقليَّة كذلك الطفل يتأثَّر بالأم عن طريق اللبن بما تمتاز به من الخصائص الجسميَّة والعقليَّة.

والسر في ذلك أنَّ الأمَّ بمثابة الأرض التي يتغذَّى الإنسان بحبوبها وثمارها، فالأرض بما تمتازُ به من خصوبة ترابِها وبما تحوي من فيتامينات وبروتينات وأملاح معدنية تؤثر على صحة الناس ونمو عقولهم. 

ولما لاحظ بعضُ العلماء أنَّ سكان بعض المدن يصبحون أذكى من غيرهم، ودرسوا سبب ذلك وجدوا أنَّ إنتاج بعض الأراضي الزراعيَّة تكون غنيَّة بالفيتامينات والبروتينات أكثر من غيرها، ولما درسوا السبب وجدوا الأمر يرجع إلى الأرض وترابها، بما تمتاز بمحتوياتها الغنيَّة بتلك الفيتامينات المهمَّة والضروريَّة.

وجدير بالذكر أنَّ بعض علماء الشريعة أدركوا هذا السبب، عندما دعوا إلى أن تكون المرضع عاقلةً، وألا تكون حمقاء، ويعلِّل ذلك ابنُ قدامة، بقوله: (كيلا يشبهها الولد في الحمق؛ لأنَّ الرَّضاع يغيِّر الطباع)(2). 

وعلَّل ابن سينا من الناحية التربوية بأنَّ اللبن يُعدي وينقل الطباع من المرضع إلى الطفل، فيقول هنا مثلاً: (إنَّ من حق الولد على والده إحسان تسميته، ثم اختيار ظئر له كيلا تكون ورهاء - أي ذات خَرْقٍ وسوء رأي - ولا ذات عاهة؛ فإنَّ اللبن يعدي)(3).

ومن المربين الغربيين من أدرك أهميَّة الموضوع أيضاً فيقول أحدهم مثلاً: (ويجب أن تكون المرضع جيِّدة الصحة حسنة المزاج، هادئة فإنَّ العنف والانفعالات والكدر كلها تفسد اللبن)(4)

ومن قبل هؤلاء جميعاً قد بيَّن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أهميَّة الرَّضاعة، وعبَّر عن تأثير اللبن بتعبير علمي وتربوي، بأنَّ اللبن يورث الطباع والخصائص العقليَّة، فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تسترضعوا الورهاء – الحمقاء -)، وفي راية أخرى: (ولا تسترضعوا الحمقاء، فإنَّ اللبن يورث)(5). 

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن إرضاع الحمقاء).(6)

3- الوقاية من الأمراض:

إنَّ في التربية وخاصَّةً تربية الصغار ثلاثة أمور مهمَّة وهي: الحماية والتنمية والتغذية، والحماية أو الوقاية من الأمور المهمة في ميدان المحافظة على صِحَّة الطفل وخاصَّة في هذه المرحلة، التي لا قِبَل له فيها بوقاية نفسه من الأمراض وأسبابها، وقد تتسرَّب بعض الأمراض إلى الأطفال، وتظهر نتائجها الخطيرة في المستقبل، وقد تتسرَّب إليه بعض الجراثيم، وتظلُّ في جسمه مدة طوليَّة دون أن يصاب بمرض إذا كانت عنده مناعة وبنية قويَّة، وحتى إذا ما ضعف وزالت المناعة كثرت تلك الجراثيم وأصيب الطفل بأمراض مختلفة، ولأهميِّة الوقاية قال الأطباء: (الوقاية خير علاج).

وسوف نتكلم كثيراً عن أهميَّة الوقاية وخاصَّة في مرحلة المراهقة، ونذكر كثيراً من النصوص عند الكلام عن تكوين الوعي الصحي لدى الشباب.

4- الاهتمام بنظافة الطفل:

والنظافة من أسباب الوقاية من الأمراض لأنَّ أكثر الأمراض ناشئة من القذارة كما أنها من أسباب النمو الصحي وخاصَّة في هذه المرحلة، ولهذا نجد الأطباء ينصحون بغسل الطفل بالماء الدافئ يومياً إن أمكن في الشهور الأولى من الولادة، أو في فترات قصيرة على الأقل، وأن يكون الغسل قبل الإرضاع أو قبل الأكل في حال عدم الرضاعة.

ونحن نعلم أنَّ الاهتمام بالنظافة من الأمور المهمَّة في الإسلام لدرجة أنَّه عدَّها من الإيمان أو شطراً من الإيمان، كما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (الطهور شطر الإيمان)(7).

ولا نجد ديناً أو نظاماً يهتمُّ بالنظافة لهذه الدرجة التي تصبح النظافة جزءاً من الإيمان بالله، وينال ثواباً من الله تعالى بطهره ونظافته، إن فعل ذلك لوجه الله تعالى.

5- إضفاء العطف والحنان والشفقة:

إنَّ أكثر الأمهات يظنُنَّ خطأ أنَّ الحاجة الأساسيَّة للطفل في هذه المرحلة هو الغذاء والنوم وقضاء الحاجة. ويظنُنَّ أيضاً أنَّ الطفل إذا بكى بعد ذلك إمَّا لمرض أو لشكوى، ولا يعلمن أنَّ الأطفال في المرحلة بعد شهور من الولادة يحتاجون إلى العطف والحنان، ويبكون أحياناً إذا شعروا بالحرمان من الغذاء العاطفي. 

فإذا بكى الطفل في هذه الحالة أخذته في حضنك وقبَّلتَه وأبديت له الاهتمام والتودد له سكت وسكن وهدأ؛ لأنَّه أخذ غذاءه أيضاً، وإذا استمرَّ على الصراخ والبكاء بعد ذلك قد يكون الصراخ لشكوى في جسمه وألمٍ ألمَّ به.

وإذا حرم الطفل من غذائه العاطفي سوف يترتَّب عليه حالات نفسيَّة مرضيَّة تُقاس درجتها بدرجة حرمانه من هذه العاطفة، وإذا حرم تماماً يظهر آثاره على تصرفاته الشاذَّة وخاصَّة في المرحلة التالية.

ولهذا كله نجد الإسلام يأمرُ بالعطف والرحمة على الصغار بصفة عامة، فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مثلاً: (من لم يرحم صغيرَنا، ويعرف حقَّ كبيرِنا فليس منَّا)(8). 

وهناك نصوص عديدة في هذا الموضع ستردُ في مواضعها في المراحل القادمة.

ثالثا: التربية الصحيَّة في مرحلة الحضانة:

وهذه المرحلة تبدأ من نهاية السنة الثانية وتستمرُّ إلى السنة السابعة. وهذا رأي معظم أهل الفقه والشريعة. (9)

في هذه المرحلة يتصرف الأطفال ويتكلمون عن أنفسهم، ويأكلون ويشربون، ويلعبون ويعاشرون الأطفال، ثم يذهبون إلى المدرسة في الحضانة، ويبدؤون بتعلم ما هو حسن وما هو قبيح من الكلام ومن الأفعال، وعلى هذا الأساس تختلف مبادئ التربية الصحيَّة هنا عن المرحلة السابقة بعض الشيء.

فمن حيث المبادئ الصحيَّة الأساسيَّة التي ذكرناها في المرحلة السابقة من التغذية والوقاية والنظافة، تستمرُّ في هذه المرحلة أيضاً لكن أسلوب التربية يختلف هنا من حيث إنَّ الطفل هنا يُمارس بنفسه تلك المبادئ ويعتادُ عليها حتى تصبح تلك المبادئ أسلوب سلوك ونظام صحة في حياته اليوميَّة. 

فينبغي أن يبدأ الطفل بعد السنة الثالثة بغسل اليدين قبل الأكل وبعده، وأن يأكل بنظام في أوقات معينة. 

وألا يأكل كثيراً؛ لأنَّ كثرة الأكل تضرُّ بالصحَّة أيضاً، ولهذا قال تعالى هنا: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] . 

وقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (ما ملأ آدمي وعاءً شرا من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات تضمنُ صُلبه، فإن كان لا محالة فثلثه لطعامه، وثلثه لشرابه، وثلثه لنفسه).(10)

وينبغي أن يبعد عن الأكلات والمشروبات الضارَّة بالصحَّة سواء ما حرَّمها الإسلام بالنص، أو أثبت الأطباءُ ضررَه من الأطعمة والأشربة المستجدَّة، لأن الإسلام أحلَّ الطيبات وحرَّم الخبائث الضارَّة، ولهذا قال تعالى: {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ}[الأعراف:157].

كذلك ينبغي أن ينظًّم نومُ الطفل وذلك بأن ينام مبكرا، وأن ينام الساعات الضرورية لأمثاله؛ لأنَّ النوم غذاء للطفل كما هو غذاء للكبير، لكن حاجة الأطفال إلى النوم أكثر من حاجة الكبار إليه.

ومن ناحية الصحَّة النفسيَّة: يجب عدم تخويف الأطفال بأشياء وهميَّة كالتشاؤم بأشياء ليس لها أصل مثل الطيرة وغيرها والتي كانت موجودة في الجاهلية وأبطلها الإسلام. (11)

وقد أصيب كثير من الأطفال بالخلل العقلي نتيجة للتخويف بمثل هذه الخرافات. 

كذلك يجب إضفاء الحنان والرحمة وذلك لينشأ الطفل عطوفاً رقيقاً رحيماً بالناس؛ لأنَّ من عُومل بالقسوة في الصغر يكون قاسيا في الكِبَر، ومن حُرِم من عطف الأبوين لا يكون عطوفاً على الناس في الكبر. 

ولهذا لما عمل علماء التربية والنفس إحصاءات ليروا الفرق بين الأولاد الذين عاشوا في الملاجئ بعيدين عن عاطفة الآباء والأمهات، وبين الذين عاشوا في حضن أمهاتهم وبين دفء عاطفة الآباء ورحمة الأمهات وجدوا فرقا شاسعا في صحتهم وتصرفاتهم، فوجدوا أنَّ معظم الأطفال من النوع الأول قد أصيبوا بالأمراض النفسية والاضطرابات العصبيَّة، والنقص في النمو الطبيعي في ناحية من نواحي النمو أو كلها (12). 

ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رحيماً بالأطفال في معاملته لهم، وعطوفاً عليهم، وكان يقبلهم ويحتضنهم، فقد روي أنَّه مرة قبَّل الحسن رضي الله عنه، فقال له أحد أصحابه: إنَّ لي عشرةً من الولد ما قبلتُ منهم أحدا، فقال الرسول صلى لله عليه وسلم عندئذ: (من لا يَرحم لا يُرحم) (13). 

هذه إشارة لطيفة سبق بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم علماء النفس؛ لأنَّ من لا يَرحم صغيره لا يرحمه عند كبره؛ لأنَّه لم يجد منه رحمة ليرحمه، بل يُعاديه. فنحن إذا حرمنا الأطفال من العطف والرحمة في صغرهم فهم لا يرحموننا ولا يعطفون علينا عند كبرهم. 

روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم خرج يوماً إلى المسجد، وعلى عاتقه أمامة بنت أبي العاص فصلى، إذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها (14).

ولأنَّ الطفل الذي لا يجد العطف والحنان والرحمة والتقدير خاصَّة في هذه المرحلة التي يشعر بالحاجة إليها أكثر من المرحلة السابقة يشعر بالحرمان وفقدان الذات، التي تؤدي في النهاية إلى الحالات التي ذكرناها.

(1) التاج الجامع الأصول في أحاديث الرسول 2\110.

(2) الأخلاق والسلوك في الحياة ص67 وليم مكدوجل، ترجمة جيران سليم إبراهيم مكتبة مصر، 1961م.

(3) المغني لابن قدامة ص 563.

(4) كتاب السياسة لابن سينا ص12، نشر صمن مجموعة مقالات فلسفية.

(5) أميل ص56. جان جاك رسو

(6) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 4: 262 كتاب النكاح – باب الرضاع.

(7) المرجع السابق 4\262.

(8) صحيح مسلم – كتاب الطهارة 3\100

(9) الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير، 3\238، جلال الدير السيوطي، مطبعة البابي الحلبي. القاهرة 1350.

(10) المغني لابن قدامة. 1\135، كتاب القضاة – باب الحضانة.

(11) فيض القدير بشرح الجامع الصغير 3\102. محمد عبد الرؤوف المناوي. المكتبة التجارية بالقاهرة.

(12) صحيح مسلم 1\198 كتاب الإيمان.

(13) كيف تساعد الأطفال على تنمية قيمهم الخلقية. ص60 أشلي مونتاجيو.

(14) فتح الباري بشرح البخاري13\35 كتاب الآداب.

الحلقة السابقة هـــنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين