التربية الصحيَّة في ضوء الإسلام (1)

إنَّ الصحَّة تكاد تكون أهمَّ شيء في حياة الإنسان، ذلك أنَّه بغيرها لا يستطيع تحقيق آماله فيها. فبغير الصحة لا يستطيع الإنسان أن يعمل ولا يستطيع أن يؤدي حتى واجباته الدينيَّة ويحقِّق الفضيلة، فمن هنا قيل المثل المشهور: (الصحَّة تاجٌ على رؤوس الأصحَّاء لا يراه إلا المرضى)

ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (خذ من صِحَّتِك لمرضك ومن حياتك لموتك) (1). 

ولهذا أيضاً دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى اغتنام الصحة قبل المرض فقال: (اغتنم خمساً قبل خمس؛ حياتَك قبل موتك، وصحتَك قبل سقمك، وفراغَك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك) (2).

ومفهوم الصحَّة في الإسلام لا يقتصر على الصحة الجسميَّة كما هو متبادر في أذهان الناس، بل يشمل الصحة الجسمية والنفسية والعقلية أيضاً، وهناك علاقة وثيقة بين هذه الجوانب إذ أنَّ الصحة الجسميَّة تؤثر على الصحة النفسية والعقلية، والعكس صحيح أيضاً، وسوف نعالج هذا الموضوع في مرحلة البلوغ ولهذا لا ينبغي أن تقتصر التربية الصحية على التربية الجسمية فقط، بل يجب أن تشمل الجوانب الأخرى أيضاً.

والتربية الصحيَّة لا تَقتصر أيضاً على تربية الطفل في مرحلة معينة من مراحل نموه فقط بل تشتمل كذلك على جميع مراحل نموه. 

وأساسيات تكوين الصحة قد ترجع إلى ما قبل الميلاد. 

والنقص الحاصل في بناء الصحة قبل الولادة لا يمكن تفاديه فيما بعد ذلك، ولهذا يقول بعض المربين: (هذه التجربة الخاصَّة التي يحصل الجنين عليها أثناء تطوره والتي يجلبها معه حين يأتي إلى الدنيا تشكل أساساً لا يمحى تدخل فيه جميع الانطباعات التالية)(3).

وعلى ذلك يجب أن تُنظَّم التربية الصحيَّة حسب مراحل النمو؛ لأنَّ لكل مرحلة مبادئ وأساليب لهذه التربية يجب مراعاتها.

وبالتالي نقَسِّمُ نظام التربية الصحيَّة حسب تلك المراحل على النحو التالي:

أولا – مراحل الحمل أو ما قبل الولادة:

نحن نعلم أنَّ من معاني التربية والرعاية والحماية والتغذية والتنمية وهذه المعاني متصلة بهذه التربية في هذه المرحلة التي هي الأساس، فإذا لم يكن الأساس سليماً فلا يمكن أن يكون ما بني عليه سليماً أيضاً، بل قد لا يمكن البناء عليه على الوجه المطلوب.

والمبادئ التربوية لهذه المرحلة هي الآتية:

1- أن يكون الأبوان خاليين من الأمراض الوراثيَّة سواء كانت تلك الأمراض جسميَّة أو عقلية أو نفسية روحية. 

وأن يكونا خاليين أيضاً من الأمراض المعدية ولو لم تكن إرثية، مثل الأمراض الزهرية؛ لأنها تتعدَّى إلى الجنين، ولأنَّ صحة الوالدين أساس لصحة الولد، ذلك أنَّ الطفل كالنبتة فإذا أردنا أن ننبت نباتاً حسناً، فلابد من اختيار بذرة صالحة لهذه البذرة وزرعها فيها، ذلك أنه مهما كانت البذرة صالحة فإذا كانت الأرض غير صالحة فلا ينفع الزرع، وبقدر صلاحهما يكون صلاح الزرع.

ولهذا نرى أنَّ الله سبحانه وتعالى قد عبَّر عن هذه الحقيقة بالإنبات في حق مريم فقال: {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران:37]، وكما تكون الشجرة تكون الثمرة ؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (إنَّ لكل شجرة ثمرة وثمرة القلب الولد) (4). 

ولا ينبغي أن ننسى هنا قول أحد المتخصصين في هذا الصدد حيث يقول: (نخن نعرف اليوم أنَّ الزواج بين أولاد الأشقاء أو السكيرين أو المصابين بالزهري أو حاملي العيوب العقلية الوراثية يعتبر جريمة جديرة بالعقاب.. ولذا يعتبر إنتاج ذرية من المرضى أو المنحلين أو اللصوص أو المعتوهين جريمة كبرى وهكذا يعدُّ سوء الذرية من أكبر الخطايا) (5).

لذا أمر الإسلام باختيار شريك صالح لإنتاج ذرية صالحة وسليمة من العاهات، فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (تخيَّروا لنطفكم)(6). 

وقال عليه السلام: (تزوَّجوا في الحُجْزِ الصالح فإنَّ العِرْقَ دسَّاس)(7). 

ولهذا نرى بعض الصحابة مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وبعض علماء الشريعة أمثال الشافعي والحنابلة قد أجازوا فسخ النكاح، إذا وجد في أحد الزوجين بعض الأمراض المعدية والعيوب العقلية، مثل الجذام والبرص والجنون(8).

ثم إنَّ الوراثة أمر ثابت علمياً كما أيَّدها العلماء وكما أثبتها أخيراً الدكتور كارينتيه عميد أكاديمية العلوم في بلجيكا، وقرَّر أنَّ الخصائص الجسمية والنفسية تنتقل بالوراثة (9)، وهو أمر معقول في نفس الوقت، ذلك أنَّ الإنسان له كيان نفسي ومادي معاً، وكما تنتقل الصفات الجسمية إلى الذرية فإنَّ الصفات النفسية يجب أن تنتقل أيضاً. 

كل هذا أساسيات أولية لبناء الصحة الكاملة عليها، وهو أفضل عمل مبدئي يقوم به الآباء نحو أبنائهم في هذه المرحلة التي تُعدُّ التربية الصحية فيها أساس لجميع مراحل هذا التربية، فهي تبدأ أصلاً منذ التلقيح الأولي، إذ يجب أن تكون نفسية الوالدين ونياتهما صافية سليمة عند التلقيح، وأن يكونا متفائلين، وألا يختلج في نفوسهما شيء من الغضب وسوء الظن، والشر من الناحية النفسيَّة ولا يكونا مخمورين، فإنَّ الدكتور كاربنتيه رئيس أكاديمية بلجيكا قرَّر في مؤتمر زبوريخ: 

(أنَّ من يقترب من زوجته ويخيل إلى نفسه أنه مصاب بمرض خطير فيأتي بولد به مُركَّب النقص، والسكران أو المنفعل يأتي بولد أحمق عصبي المزاج، والمتفائل ينجب أولاداً مُتجرِّدين من الخوف والهواجس والعادات السيئة، والغاضب يُورث طفلاً عصبي المزاج، وحالة المرأة الجسمية والنفسية تؤثر على الحمل) (10). 

وهذا ما يقرره أيضاً الدكتور ألكسيس كارل حيث يقول: (لكن جودة الصفات الوراثية لا تكفي لإنجاب أطفال من نوع جيد، بل يجب فضلاً عن ذلك ألا يكون الأبوان المستقبلان نفسيهما مصابين بالزهري، أو من المدمنين للخمر أو المورفين أو الكوكايين، فسكر الزوج أو الزوجة في لحظة التلقيح جريمة حقيقية؛ لأنَّ الأطفال الذين يولدون من مثل هذا التلقيح كثيراً ما يُعانون أمراضاً عصبيَّة وعقليَّة لا يُرجى لها شفاء) (11).

2- أن تتجنَّب المرأة أثناء الحمل الإرهاق والتوترات النفسيَّة والعصبيَّة: ذلك أنَّ حال المرأة الجسميَّة والنفسيَّة والعصبيَّة تؤثِّر على الجنين كما يُقرِّر الدكتور كارينتيه(12). 

وكما يقرر علماء النفس: أنَّ القلق النفسي والضعف الشديد للمرأة مدة الحمل يؤثران على الجنين(13). 

ومعلوم علمياً: أنَّ حمل الأثقال يؤدي إلى سقوط الجنين أحياناً. 

فهناك قواعد صحيَّة للحمل يجب أن تعرفها المرأة، ويجب أن تتعلم الفتيات تلك القواعد قبل الزواج. 

يقول هنا الدكتور ألكسيس كارل: (فهناك قواعد علمية لصنع السيارات أو تربية المواشي، وكذلك هناك قواعد لحمل الأطفال وتكوينهم، يجب أن تعلم هذا القواعد لجميع العنصر النسوي من السكان في مدارس متخصصة)(14).

والمبادئ الإسلاميَّة المتعلقة بالنكاح والحقوق الزوجية ضامنة لحماية الجنين من مثل هذه المخاطر؛ لأنَّ الإسلام أمر أولاً الزوج بحسن معاشرة زوجته لكي لا تُصاب الزوجة وهو حامل مثلاً باضطرابات نفسية وعصبية، فيتأثر بها الجنين من جرَّاء سوء مُعاملة الزوج لزوجته. فقال تعالى مثلاً: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ}[النساء:19] .. 

كما أنَّ الإسلام ضمن رزق المرأة، وجعل نفقتها على الزوج لكي لا تعمل المرأة، وترهق نفسها بالبحث عن الرزق، وخاصَّة أيام الحمل، لهذا قال تعالى: {وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}[البقرة:233]. وكذلك جعل مؤونة السكن على الزوج، فقال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطَّلاق:6] ، وذلك لتكون آمنة النفس مطمئنة القلب من هَمِّ المسكن والمأوى والرزق ومرتاحة الجسم.

3- أن تتناول الحامل الغذاء الكامل والضروري وأن تتجنَّب الأغذية الضارَّة؛ لأنَّ الجنين يتغذَّي بغذاء الأم، فإذا نقص الغذاء في هذه المرحلة يؤثر هذا النقص على نمو الجنين، بقدر نقصه وإذا زاد النقص قد يولد الطفل ناقص النمو أو مشوه الخلقة.

4- أن يكون الأبوان سليمين من الأعراض والحالات المرضية النفسية. وذلك مثل حالات التشاؤم والمخاوف وسوء الظن والنية، إذ يجب أن يتجرَّد الأبوان من هذه الحالات قبل حدوث الحمل، كما يجب على الأم خاصَّة أن تكون مُتجردة منها أثناء الحمل كله.

لأنَّ حالة المرأة النفسيَّة تؤثِّر على الجنين من حيث الصِّحَّة النفسيَّة أكثر، والمبادئ الإسلامية المتعلِّقة بهذا الجانب ضامنة لأن تكون المرأة على الحالة النفسية الحسنة؛ لأنَّ الإسلام أمر أن يكون المسلم بصفة عامة متفائلاً لا متشائماً ولا يائساً من رحمة الله، فكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (يعجبه الفأل، ويكره الطيرة) (15). 

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (بشروا ولا تنفروا)(16). 

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من أساء الظنَّ بأخيه فقد أساء بربه)

وإن الله تعالى يقول: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم أخيراً: (حسنُ الظن من حسن العبادة)(17).

لأنَّ التشاؤم أصلاً حالة نفسيَّة مرضية ضارَّة على الصحَّة الجسمية أيضاً، ولهذا يقول بعض علماء النفس: (أنَّه يتحمَّل بفعل اتجاهه التشاؤمي هذا متاعب هي أشد وقعاً على نفسه وأعصابه من وقع الكوارث أو الملمات أو المآسي التي يتوقع حدوثها ويستهلك اتجاهه التشاؤمي من الطاقات عبئاً لأنه لا يستطيع أن يتحكم في اتجاهه الخاطئ بأعمال قوة الإرادة، ذلك أنَّ بواعث التشاؤم هي أبعد وأعمق من أن تنالها الإرادة الواعية) (18).

5- أن يتجنَّب الأبوان قبل الحمل والأم أثناء الحمل المشروبات الكحوليَّة والمواد المسكرة؛ لأنَّ الخلية التي يتكوَّن منها الجنين إذا كانت مُتأثرة بمثل هذه المشروبات يتأثَّر الجنين خاصَّة من الناحية العقليَّة؛ ولهذا يقول التربويون إذا أردنا أن نكوِّن جيلاً سليم العقل، يجب أن يتجنب الآباء تناول المشروبات الكحولية كما ذكرنا، وبخاصَّة الأمهات أثناء الحمل. 

ويقول أحد هؤلاء: (يجب أن ينبهنَّ إلى الخطر الذي يتعرَّض له الطفل من جرَّاء إسرافهنَّ في التدخين وشرب القهوة وتعاطيهنَّ المورفين والمشروبات الروحية أثناء الحمل والرضاعة) (19).

ونحن نعرف أنَّ المبادئ الإسلاميَّة الصحيَّة قد حرَّمت مثل هذه المشروبات والأمثلة على ذلك كثيرة، منها قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (كل مسكر خمر وكل خمر حرام)(20).

ثم إنَّ الإسلام حرَّم كل الأغذية الضارَّة وأحلَّ كل الأغذية الطيبة، فقال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ} [الأعراف:157].

ويجب أن تنبَّه الحاملات إلى أنَّه كلما نما الجنين في بطن أمِّه زاد تأثُّره بحياة الأمِّ الجسميَّة والنفسيَّة والعقليَّة معاً.

يتبع 

(1) صحيح البخاري 7\ 170 كتاب الرقاق، المكتبة الإسلامية. اسطنبول 1969م.

(2) الجامع الصغير 1\48 جلال الدين السيوطي. دار الكتب العلمية ج4. القاهرة 1954م.

(3)التربية العامة ص 160 ورنيه أوبير، ترجمة الدكتور عل الله عبد الدائم. دار العلم للملايين. بيروت.

(4) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 8\ 155 كتاب البر والصلة، للحفاظ نور الدين على أبن أبي بكر الهيثمي. مكتبة القدس، القاهرة 1352هـ.

(5) تأملات في سلوك الإنسان ص87، الدكتور ألكسيس كارل، ترجمة دكتور محمد القصاص، مكتبة مصر القاهرة.

(6) كشف الخفاء 2\432، رواه ابن عباس مرفوعاً، إسماعيل محمد العجلوني، مكتبة القدس القاهرة 1351.

(7) منتخب كنز العمال ي هامش مسند الإمام أحمد 6\364 المطبعة الميمنية ط1. القاهرة.

(8) المغني لأبني قدامة 60\650 كتاب النكاح مكتبة الرياض الحديثة. الرياض.

(9) أسس الصحة والحياة ص335. دكتور عبد الرزاق الشهرستاني، مطبعة الآداب النجف – العرق 1971م.

(10) أسس الصحة والحياة ص336،. دكتور عبد الرزاق الشهرستاني.

(11) تأملات في سلوك الإنسان ص109. دكتور ألكسيس كارل.

(12) أسس الصحة والحياة ص336. دكتور عبد الرزاق الشهرستاني.

(13) علم النفس والتربية الحديثة ص 419 س. ل.برسي. ترجمة أحمد زكي محمد. مكتبة الأنجلو المصرية. القاهرة 1954م.

(14) تأملات في سلوك الإنسان ص 110 دكتور ألكسيس كارل

(15) سنن ابن ماجه 2: 1170 كتاب الطب.

(16) التاج الجمع للأصول في أحاديث الرسول 1\71 كتاب العلم منصور علي ناصف مطبعة عيسى البابي الحلبي القاهرة 1961م.

(17)منتخب كنز العمال في هامش مسند الغمام أحمد 1\280

(18)التاج 5: 72.

(19)الأمراض النفسية العصابية ص 348. الدكتور عبد العزيز فريد، الشركة العربية للطباعة والنشر. القاهرة.

(20)تأملات في سلوك الإنسان ص110. الدكتور ألكسيس كارل.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين