التراويح

 

ندب الشارع الناس إلى التطوُّع بالصلاة كلما استطاعوا لذلك سبيلاً، وسنَّ صلوات في أوقات معيَّنة كالصلوات المسنونة عقب الصلوات المفروضة وصلاة العيد والكسوف والخسوف والاستسقاء.

ومن هذا القبيل صلاة التراويح، وهي صلاة التطوع في ليالي رمضان، وسميت (التراويح) لأنهم كانوا يستريحون فيها بعد كل تسليمتين، ومما يشهد بفضلها قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه).

والمعروف أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من جمع لها الناس في المساجد، ورد في الصحيح عن عبد الرحمن بن عبد قال: (خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع (متفرقون) يصلِّي الرجل لنفسه، ويصلِّي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر رضي الله عنه: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبيّ بن كعب).

وقد يخطر على البال أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابتدع هذه الصلاة في المساجد جماعة، إذ لم يكن الناس يصلونها كذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد أبي بكر رضي الله عنه، ولا في صدر من خلافة عمر رضي الله عنه نفسه.

والحقيقة أنَّ ما فعله عمر رضي الله عنه من إقامة هذه الصلاة بالمساجد جماعة لا يدخل تحت اسم البدعة المذمومة شرعاً، فإنَّ البدعة المذمومة هي العمل المخترع في الدين دون أن يشهد له أصل من الشريعة، وصلاة التراويح بالمساجد في جماعة يشهد للإذن فيها السُنَّة الصحيحة، وهي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، كما ورد في الصحيحين وكتاب الموطأ: (صلَّى في المسجد ذات ليلة من (رمضان) فصلى بصلاته ناس، ثم صلى الليلة القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح، قال: قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم، وذلك في رمضان).

وفي رواية مسلم: (خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها). وفي شرح معاني الآثار للطحاوي: (خشيت أن يكتب عليكم قيام الليل، ولو كتب عليكم ما قمتم به).

يتضمَّن هذا الحديث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، صلَّى صلاة القيام في رمضان في جماعة، ثم تركها، وبيَّن وجه تركه لها، وهو الخوف من أن تفرض عليهم فيعجزوا عنها، وهذه العلة التي استدعت تركه لها، وهي خوف افتراضها قد زالت بوفاته عليه الصلاة والسلام، إذ لا وحي بعده صلى الله عليه وسلم حتى يُخشى أن تفرض على الناس إذا التزموها وواظبوا عليها، وإذا زالت عِلَّة ترك النبي صلى الله عليه وسلم لفعل هذه النافلة في جماعة، رجعت إلى ما كانت عليه في عهد النبوة من السنيَّة.

وهذا ما فهمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الحديث عندما جمع الناس فيها على قارئ واحد، وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم إذ كانوا معه على وفاق فيما صنع.

ولما قال عمر عندما رأى الناس في صلاة التراويح: (نعم البدعة هذه) لم يرد البدعة المقابلة للسنة، وهي إحداث أمر في الدين ليس من الدين في شيء، وإنما سمَّاها بدعة نظراً إلى أنه استؤنف العمل بها بعد أن تركها النبي صلى الله عليه وسلم وانقطع الناس عنها مُدَّة، فكان لها شبه بما استحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الأعمال التي لم توجد في عهد النبوة.

ولم يصنع أبو بكر ما صنع عمر رضي الله عنه من إحياء هذه السنة، لكثرة ما كان يشغله من مهامِّ الأمور، كقتال أهل الرِّدَّة مع قصر مدة خلافته رضي الله عنه إذ كانت سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام.

وتضمَّن الحديث: (إلا أني خشيت أن تفرض عليكم) أنَّ علة عدم خروجه عليه الصلاة والسلام لصلاة التطوع في الليلة الثالثة أو الرابعة هي خوفه من أن تفرض عليهم، وإنما جاء الخوف من جهة توقعه عليه الصلاة والسلام أن يكون إظهارهم المقدرة على إقامة هذه الصلاة في المسجد جماعة سبباً لفرضها عليهم، ثم يجدون بعد فرضها عليهم مشقَّة فادحة فيعجزون عنها، فلم يشأ أن يقع منهم ما يحتمل أن يكون سبباً لفرض صلاة أخرى عليهم في رمضان، فنبَّههم صلى الله عليه وسلم لترك إقامتها جماعة في المسجد حذراً من أن يكون سبباً لفرضها.

وشرعُ الأحكام يكون من الله تعالى ابتداءً، حفظاً للمصالح التي تترتَّب على الفعل نفسه، وقد يبنى أمر التكليف على رعاية عمل يأخذ به المكلَّفون أنفسهم، ويظهرون أنهم قادرون على القيام به من غير تكلف، فيفرض الله عليهم ذلك العمل على وجه الابتلاء، حتى إذا عظمت عليهم مشقته، وأدركوا أنَّ الله تعالى لم يوجبه عليهم ابتداءً رحمة بهم، خفَّف عنهم وعاد بهم إلى أصل طبيعة الدين من اليسر والسماحة، حتى يسيروا في الاقتداء به على قدر ما يأمرهم به وينهاهم عنه.

فمن الممكن أن يجيء تكليف شاق تقتضيه حكمة الابتلاء، وإنما يكون هذا حيث يكون باب الوحي مفتوحاً، وتبديله بما هو أيسر قريباً، ولا نجد فيما تقرر من أحكام الشريعة تكليفاً تشتد مشقته إلى حدٍّ يعجز الناس عن القيام به.

 واختلفت الروايات في عدد ركعات التراويح التي كانت تصلى بالمسجد في عهد عمر رضي الله عنه، فروى مالك في الموطأ أن عمر رضي الله عنه أمر أبي بن كعب وتميماً الداري (1) أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، ويصح أن يكون هذا العدد مأخوذاً من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن صلاته في رمضان فقالت: (ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة). 

وهناك رواية أخرى في الموطأ أن الناس كانوا يقومون في زمان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في رمضان بثلاث وعشرين ركعة.

وأمر هذا الاختلاف هين، والجمع بين الروايتين سهل: هو أنَّ عدد الركعات كان يختلف باختلاف الأحوال، ومن المحتمل القريب أنَّه يرجع إلى تطويل القراءة وتخفيفها، فحيث طوَّلوا القراءة خفَّفوا الركعات، وحيث قَلَّلوا القراءة أكثروا من الركعات.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد الأول، السنة الثانية، رمضان1367، يوليو 1948).

(1) كان أبي بن كعب رضي الله عنه يصلي للرجال، وتميم الداري رضي الله عنه يصلي للنساء.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين