التدين بين صدق العاطفة و زيفها!

 

من السمات الأولى للتدين المنحرف إتقان الصور الظاهرة، وإهمال الحقائق الباطنة، وإحداث جدال طويل حول التكاليف الفرعية والتعاليم القانونية، واللياذ بالصمت أو الهمس عندما يتعلق الأمر بأركان الحق وآداب النفس!

ذلك أن بعض الناس يعقد صُلحاً حقيقياً مع هواه، ثم يقبل على الدين بعد ذلك ليأخذ منه ما يعجبه نظرياً أو ما يريحه عملياً، ولعله يتحمس له أشد الحماس، ويخاصم الآخرين عليه أشد الخصام.

فإذا انتقل الوضع إلى جوهر العلاقة بالله، وإعلاء كلمته على الأرض، وإحكام السدود أمام النزوات الفردية والاجتماعية، وجعل الوحي الإلهي هو القائد لهذا النشاط الخاص والعام، رأيت بدل الحماس فتوراً، وبدل الخصام وداداً!!

وقد كان اليهود أمام البعثة النبوية يتفننون هذا الفن من التدين الرخيص، فعندما تحولت القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ظنوا الفرصة سانحة للتشنيع على المسلمين وتسوئ سمعتهم وظهارهم أمام العرب كأنهم ينقلبون على أعقابهم.

فنزل القرآن الكريم يطفئ هذا الضجيج المفتعل ويكشف لبني إسرائيل وغيرهم أن السمو النفسي لا يصنعه اتجاه إلى شمال أو جنوب، ولكنه عمل حقيقي مرهق لطلاب الجمال لن يصلوا إليه إلا بعد استكمال عناصر معينة هي: اليقين الراسخ، والبذل  الواسع، و الصلاة الجامعة، والوفاء الشريف، والصبر الطويل.

وقد أودع الله جل جلاله هذه المعاني في مبادئ ستة، ذكرها بعد أن نفى وساوس اليهود أن استقبال جهة ما أساس البر والتقوى فقال:[لَيْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ

1 ـ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَالمَلَائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ

2 ـ وَآَتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ

3 ـ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ

4 ـ وَآَتَى الزَّكَاةَ

5 ـ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا

6 ـ وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ] {البقرة:177}.

وظاهر من هذا الرد أن القرآن يلفت الأبصار إلى أسس التسامي الحق، وأن الله لا يروج عنده خداع، ولا يقبل من عباده إلا من أسلم له وجهه وقلبه، وأحسن عمله وخلقه، وتحمل المشاق في ذلك دون ضجر أو خور، ومن التعلق الغريب بالشكليات والذهول عن العظائم موقف العرب الجاهليين من المسلمين، عندما أخطأ فريق منهم فقال في الشهر الحرام، لقد سارع المشركون إلى رمي المسلمين بالمروق عن الإيمان وحاولوا إظهارهم لسكان الجزيرة وكأنهم يرعون حرمة ولا تقفهم حدود.

والسبب أن السرية المقاتلة التبس عليها آخر جمادى بأول رجب فلما غم عليها الهلال وأتت الفرصة قريشاً لتجأر بالشكوى وتنذر بالويل، حتى أن بعض المسلمين ساء ظنه بنفسه وموقفه...غير أن العلي الحكيم بت في هذه القضية بما يخزي المشركين ويرد عليهم... [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ] {البقرة:217}.

نعم إن استباحة الشهر الحرام لا تليق، فهل تدرون ما فعلتم أنتم؟ فقد اقترفتم ما يربو عليها إثماً ونكراً قال تعالى: [وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ] {البقرة:217}. وهكذا يوازن القرآن الكريم بين الأطراف المتقابلة ثم يرجح ما يستحق الترجيح، فيرفض التعليق بالأشكال والتعصب لها ويوجه الهم إلى اللب الذي تزكو به الأنفس، وتطيب به عافيتها.

والمسلمون اليوم أقوام يحرصون على مظاهر كثيرة من دينهم، وفيهم طوائف قد تتقاتل على أخف قضاياه وزناً، فإذا اتصل الأمر بعمود الدين وذروة سنامه خفتت أصوات وبردت مشاعر.

وقد شاعر الإعزاز لما يسهل أداؤه، ولما يمر في الحياة، فلا يغير منها شراً ولا يدعم فيها خيراً...

والذين يفعلون ذلك يحسبون أنهم قد أفرغوا ذمتهم في مرضاة الله، وأبلوا بلاء حسناً في نصرة دينه، وهيهات...!!

إن المصحف كله يقرأ مرتلاً كل أربع وعشرين ساعة، ولكن أحكامه معطلة فما جدوى ذلك على الإسلام وأمته؟

وقد انتشرت أحفال القراءة اللاغية،  ومجالس الذكر اللاهية، فكان موقف المسلمين من كتاب الله مثار دهشة يقول تعالى:[الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ] {البقرة:121}.فماذا كان موقفنا من هذه الآية؟.

لو أن المسلمين لما اتخذوا هذا القرآن مهجورا ابتعدوا به عن مواطن اللهو ومجالس العبث لكان ذلك أدنى إلى الجد وأقرب إلى توقير كلام الله عز وجل.

ولكنك تعجب لصورة التلاوة الشائعة والسماع المعروف وتجزم بأن الأمر خرج من حدود العبادة المرجوة القبول، وأصبح هزلاً لا يستساغ البتة لقد جاء في الحديث (إن هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا )وليس المعنى ادعاء التأثر وتصنع الخشوع وإنما القصد إشراب القلب خشية الله واستحضار هيبة صاحب الكلام والمقارنة بين النصائح المبذولة في تضاعيف هذا الوحى الكريم وبين صدود البشر عنها وجماح الشهوات دونها مما يؤذن البشرية جمعاء بشر مستطير.

أما أن تتحول مجالس القرآن إلى حفلات صاخبة يرسل القارئ نغماً فيتبعه السامعون بتأليهات وتأوهات وإعجاب وطرب وتمايل ونشوة واستعادة واستجادة فذلك كله دجل صغير ومسلك ناب سقيم وجرم يستحق مقترفوه التأديب فضلاً عن أن تصايح هؤلاء المعجبين لا دلالة فيه على فقه ولا يقين فلو كلفوا بجهاد في سبيل الله أو بذل لإعزاز هذا القرآن أو تضحية لإنفاذ أحكامه لخرست الألسنة الصياحة وانفضت الجموع الملتاعة.

إني أكره من أعماق قلبي اختلاط الطاعة بالمعصية وتنفيس الإنسان عن شهواته باسم أنه يعبد الله.

ماذا على من يعجبهم التلحين والتطريب أن يستمعوا لذلك في قصيدة غزل وأن يبتعدوا به عن كتاب الله.

وإذا كان الناس يحبون أن يزينوا القرآن بأصواتهم فما غناء هذه الزينة في عصر عطلت فيه أحكام القرآن، وأصبحنا نجد أمما لا تسقط من القرآن حرفا وقد أسقطت العمل به كله.

إن آيات الإنذار تنطلق، أحسب أنها غارات ورجوم تنزل على الأهواء والوساوس فتحطمها فإذا بي أسمع صوتا خنثا حمقا ينبعث بالاستحسان الطائش ويطلب الإعادة في ابتسام يكاد يتحول ضحكا فأذكر قول الرحمن في وصف عباده [وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا] {الفرقان:73}

بيد أن هؤلاء عموا وصموا.. إنهم لا يعقلون حرفا مما يسمعون!

يا أمة القرآن ما هكذا يعبث بكتاب الله.

إن هذا الموقف المستغرب من كتاب الله يرجع إلى العلة التي شرحناها صدر هذا الكلام، علة التعلق بالمظاهر التي لا تجشم مشقة، ولا تزعج كسولاً، ولا تعجم عوداً ولا تدل على شيء طائل...

وقديماً حسب الجاهلون من سدنة الكعبة إن خدمتهم لبيت الله وبذلهم المعروف لوفود الحجيج يرجح مكانتهم على أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ويجعلهم أمام الناس موضع تكريم واحترام، فنزل القرآن الكريم، يرد هذا الوهم ويكشف عمن هم أجدر بالتكريم والحرمة.

[أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ] {التوبة:20}.

وبذلك الحكم الحاسم بين الله جل شأنه أن الإيمان الذي يصمد إليه ليس إيمان الدعوى والخرافة والبلادة، إنما هو إيمان الصدق والحقيقة والكفاح، وأن أصحابه وحدهم هم الذين ينالون خيري الدنيا و الآخرة.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة لواء الإسلام العدد 1 سنة 24 رمضان 1389 نوفمبر 1969.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين